أمير عسير يفتتح المقر الجديد لإدارة رعاية أسر الشهداء، بديوان إمارة المنطقة    نتنياهو يناقض بايدن: «الصفقة» لا تشمل وقف الحرب    "تعليم الرياض" تنهي الاستعداد لاختبارات الفصل الدراسي الثالث    مفتي المملكة ونائبه يستقبلان رئيس جمعية إحسان    اتهام 3 أشخاص باقتحام ملعب المباراة النهائية لدوري أبطال أوروبا    انتخاب هالا توماسدوتير رئيسة لأيسلندا    فرصة لهطول أمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    بناءً على ما رفعه سمو ولي العهد خادم الحرمين يوجه بإطلاق اسم الأمير بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق الرياض    كاميرات سيارات ترصد العوائق بسرعة فائقة    الصمعاني: دعم ولي العهد مسؤولية لتحقيق التطلعات العدلية    33 ألف منشأة تحت المراقبة استعدادًا للحج    جامعة "المؤسس" تعرض أزياء لذوات الإعاقة السمعية    "أكنان3" إبداع بالفن التشكيلي السعودي    أمير الرياض يرعى تخرج المعاهد والكليات التقنية    وصول أول فوج من حجاج السودان    الطائرة ال51 السعودية تصل العريش لإغاثة الشعب الفلسطيني    «التعليم» تتجه للتوسع في مشاركة القطاع غير الربحي    المؤسسات تغطي كافة أسهم أرامكو المطروحة للاكتتاب    الإبراهيم وتاجاني يبحثان التعاون السعودي - الإيطالي    اكتمال عناصر الأخضر قبل مواجهة باكستان    السفير بن زقر: علاقاتنا مع اليابان استثنائية والسنوات القادمة أكثر أهمية    محمد صالح القرق.. عاشق الخيّام والمترجم الأدق لرباعياته    أمير تبوك يعتمد الفائزين بجائزة المزرعة النموذجية    السعودية و8 دول: تمديد تخفيضات إنتاج النفط حتى نهاية 2025    عبور سهل وميسور للحجاج من منفذي حالة عمار وجديدة عرعر    نوبة «سعال» كسرت فخذه.. والسبب «الغازيات»    في بطولة غرب آسيا لألعاب القوى بالبصرة .. 14 ميدالية للمنتخب السعودي    زلزال بقوة 5,9 درجات يضرب وسط اليابان    رونالدو يغري ناتشو وكاسيميرو بالانضمام للنصر    "كدانة" تعلن عن توفر عدد من الوحدات التأجيرية للأسر المنتجة خلال موسم الحج    الحجاج يشيدون بخدمات « حالة عمار»    انضمام المملكة إلى المبادرة العالمية.. تحفيز ابتكارات النظم الغذائية الذكية مناخيا    ماذا نعرف عن الصين؟!    حجب النتائج بين ضرر المدارس وحماس الأهالي    بدء تطبيق عقوبة مخالفي أنظمة وتعليمات الحج    سائقو الدبَّابات المخصّصة لنقل الأطعمة    الاحتلال يدمر 50 ألف وحدة سكنية شمال غزة    مزايا جديدة لواجهة «ثريدز»    الصدارة والتميز    9.4 تريليونات ريال ثروة معدنية.. السعودية تقود تأمين مستقبل المعادن    ..و يرعى حفل تخريج متدربي ومتدربات الكليات التقنية    هذا ما نحن عليه    هنأ رئيس مؤسسة الري.. أمير الشرقية يدشن كلية البترجي الطبية    إطلاق اسم الأمير بدر بن عبدالمحسن على أحد طرق مدينة الرياض    نقل تحيات القيادة وأشاد بالجهود الأمنية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يدشن مشروعات «الداخلية» في عسير    الأزرق يليق بك يا بونو    المملكة تستضيف بطولة العالم للراليات تحت مسمى "رالي السعودية 2025"    توبة حَجاج العجمي !    "فعيل" يفتي الحجاج ب30 لغة في ميقات المدينة    الكعبي.. الهداف وأفضل لاعب في" كونفرنس ليغ"    تقرير يكشف.. ملابس وإكسسوارات «شي إن» سامة ومسرطنة    أمير نجران يشيد بالتطور الصحي    نمشي معاك    11 مليون مشاهدة و40 جهة شريكة لمبادرة أوزن حياتك    أمير الشرقية يستقبل رئيس مؤسسة الري    الهلال الاحمر بمنطقة الباحة يشارك في التجمع الصحي لمكافحة التدخين    فيصل بن مشعل يرعى حفل تكريم معالي رئيس جامعة القصيم السابق    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبدالسلام العجيلي في "مجهولة على الطريق": هذه الساعة الدقيقة المواقيت ينبغي رفعها وإزالتها
نشر في الحياة يوم 30 - 07 - 1998

من المعروف أن بواكير القصة والرواية ظهرت في سورية حول نهاية الثلاثينات، وبين الرواد تردد أسماء شكيب الجابري وفؤاد الشايب ومحمد النجار وسواهم، ويبدو أن عبدالسلام العجيلي هو الذي بقي - حتى الآن - مواصلاً الإبداع، مسهماً في تطوير القصة السورية.
ولد العجيلي سنة 1918 في "الرقة": قرية كبيرة أو مدينة صغيرة في بادية الفرات، وهو ابن عشيرة كبيرة في منطقة ظلت العشائرية تحدد إطار الحياة فيها زمناً طويلاً، أنهى دراسة الطب في 45، ولعله ما يزال يمارسه في قريته الكبيرة وفي عيادته بحلب، شارك مع مجاهدي "جيش الانقاذ" في بعض معارك 48، وانتخب عضواًَ في مجلس النواب عن "الرقة" أكثر من مرة، ودخل الونارة أكثر من مرة كذلك تولى وزارات الثقافة والخارجية والإعلام، ولكنه تخلى عن هذا كله، فقد أصبح - على حد تعبيره - "سيئ الظن بما يمكن أن يجنيه الرجل الصالح من العمل العام". استهوته الأسفار فجاب معظم بلاد العالم بعيون يقظة وتوق عارم لمعرفة حياة الإنسان وأفكاره وخواطره، وما يزال - وقد بلغ الثمانين - حريصاً على أسفاره وعلى الكتابة، رغم أنه أكد لي - في حوار دار قبل أكثر من عشرين عاماً - أن الكتابة لديه "أحد أشكال حياتي، فأنا أعمل بالطب عشر ساعات كل يوم، وإن كتبت لا أكتب سوى ساعة واحدة، وما قصدت يوماً أن أكتب كلاماً للنشر، إننى أكتب كي أعبر عما في نفسي وعقلي من أحاسيس وأفكار، وليست الكتابة إلا إحدى طرائق التعبير، وما شعرت به كان مرتبطاً كل الارتباط بالواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي أعيش فيه، فجاءت كتاباتي إسهاماً إن لم يكن في إصلاح الواقع، ففي تبيان مكان الغلط أو التمتع بجوانب الخير والجمال فيه".
رغم ذلك فإن العجيلي ليس مُقلاً، فقد جاوزت كتبه الثلاثين، بين القصة والرواية والمقالة وأدب الرحلات، وتبقى أهم انجازاته في القصة القصيرة. وبين مجموعاته التي جاوزت العشر، اشتهرت مجموعتاه "قناديل اشبيليه"، 56، و"الخيل والنساء"، 65، فهما تعبران تعبيراً نموذجياً عن بقية القصص، من حيث الموضوع وطريقة القص وما تحمله من فكر. ونظرة سريعة الى المجموعتين تكشف المصادر الأساسية التي يستمد منها العجيلي مادة قصصه: ثلث قصص المجموعتين عن حياة البادية، يعكس جوانب من هذه الحياة بمرارتها وفكاهتها، حيث العنف، والغضب للعرض، والكبرياء، والتقاليد الراسخة كالقدر، وفيها تساؤلات يطرحها القاص دون جواب: لماذا يكون الفتى "عارف" وهو اكثر ما يكون صحة وحياة - لمجرد أنه كتب في أوراقه - قبل ثمانية عشر عاماً - إنه يموت في يوم حدّده؟، وما سرّ هذا الارتباط - في الحياة والموت - بين كرائم الخيل وحرائم النساء؟ الثلث الثاني يدور في أوروبا، أو بين طرفين أحدهما أوروبي، في واحدة منه يصوِّر القاص سيطرة حلم العودة الى اشبيلية على رجل يمتزج فيه التطفل والجنون وطلاوة الحديث، لقيه القاص في أحد نوادي الليل في اشبيلية، يتعاطف القاص مع الحلم، بل يشارك فيه على طريقته. هذه القصة المكتوبة في 56، وفي مجموعة تضم قصتين عن تجربة العجيلي في فلسطين - ألا يحق لنا ان نفهمها على أنها تجسيد لحنين الفلسطينين الى العودة؟ هذا المعادل، والرجوع للتاريخ نفسه، نجدهما في قصة من أشهر قصص العجيلي هي "فارس مدينة القنيطرة، 72" حين جعل هزيمة الفارس معادلاً لهزيمة 67. بقية قصصه الأوروبية تؤكد افكاراً أخرى: إن الظلم في كل مكان، فإلى أين تذهب امرأة مروَّعَة تريد أن تجد لطفليها مكاناً من العالم لا تدمَّر فيه الروح والجسد؟ وإذا أهان جزائريان غاضبان فتاة فرنسية، فإن هذا لا يُعد شيئاً إذا قيس بفظائع الفرنسيين نحو الجزائريين، في بلادهم وفي فرنسا على السواء. بقية القصص تتوزع بين تجارب عن فلسطين واخرى من مدينته الصغيرة. في قصصه الفلسطينية يؤكد ندرة السلاح وشجاعة الرجال وفساد النظم وهو ما يؤكده ويضيف اليه في قصة تالية على هاتين المجموعتين هي "نبوءات الشيخ سليمان".
ذلك ما كان يشغل العجيلي في مجموعتيه هاتين. وأول ما يلفت النظر عنده هو ولعه بالغرائب، وهو ولع لا يخفيه، فهو يقول في كتابه "اشياء شخصية": "أنا أحرص على صفة الغرابة والتشويق، على ان الغرابة ليست إلا عنصراً واحداً، إنها عطية لإبراز فكرة معينة. وليست الغرابة وحدها سلاح القص عند العجيلي، فالحقيقة انه ينوع هذا السلاح، ويستخدمه بمهارة واقتدار: من الرسائل الى السرد الى تحليل المشاعر الى وصف الطبيعة الى اهتمام بالتقاط التناقضات الصغيرة مادة للمفارقة والفكاهة، ومن وراء المهارة التكنيكية، يبدو وجهه مهموما بأفكار رئيسية: انه يبدأ من واقع مدينته الصغيرة فيرى التقاليد راسخة كالقدر وسط قوم غلاظ لا يأبهون - في سبيل تحقيق الانتقام الشخصي.. بإذلال الآخرين وتدمير ارواحهم. من مدينته خرج لوطنه الاكبر: رأى ضياع الارض وفساد النظم. ومن وطنه خرج الى العالم الواسع: رأى الظلم والظلام في كل مكان. صحيح انه يقول مع إحدى بطلاته: "الليل في كل مكان ولكنني من اجل "فريتز" و"هانس" الجيل الجديد لن أني أبحث عن الفجر حتى أجده طالعاً"، إلا إن العجيلي - على وجه العموم - متشائم في نظرته للانسان، يراه يخوض صراعاً ضد العالم هو مهزوم فيه لا محالة، وكل ما بقي له من كبرياء أن يُهزم واقفا على قدميه بدل ان يُهزم جاثيا. وليس الخلاص كامنا في العلم، فرغم ان العجيلي طبيب، الا انه يقف عندما يخيّل اليه انه اسرار لم يفض العلم مغاليقها بعد، ويبقي عاجزاً عن الايمان بأن الخلاص في سيادة العلم. والمرأة همّ من همومه كذلك، لكن اللائي نراهن بصحبته غالباً من هناك، الواحدة منهن تقرأ وتناقش وتحب وتحيا، ولا ننسى لحظة انها امرأة راجع راويته القصيرة "رصيف العذراء السوداء". العجيلي كاتب عاشق لنساء الشمال، ففي صحبتهن يبدو العالم أجمل.
***
وليست مجموعته الأخيرة "مجهولة على الطريق - قصص قصيرة وطويلة" رياض الرِّيس للكتب والنشر لندن 1997 التي صدرت وهو على اعتاب الثمانين - بعيدة عن هذا كله. تضم ست قصص تتفاوت من حيث الطول اضافة لثلاث قصص قصيرة يجمعها تحت عنوان واحد: "قصص قصيرة غير واقعية" وهو - في معظم القصص - لا يقول كل شيء بل يعتمد على الخبرة المتراكمة لدى القارئ فيترك له مساحات بيضاً يكملها بقراءته الواعية للنص.
في القصة الاولى "الضحية" مهندس يقوم بتنفيذ مشروع كبير وخطير لكن الفساد يحيط به من كل جانب، فيترك المشروع الى عمله الخاص. تقتحم حياته فتاة جميلة، تزعم - في البداية - انها وخطيبها وجماعة من اصدقائها معجبون به وبآرائه التي يبديها في ندواته ومحاضراته وتنقلها عنه الصحف، وانهم يودون مناقشته في بعض هذه الآراء. ويتردد المهندس "ماجد" الى بيت "مي" اكثر من مرة، فلا يجد سواها وامها واختها الصغرى، حتى خطيبها وقريبها "يوسف" الذي صحبها مرة الى مكتبه يختفي، وتقول انه يعمل في مدينة بعيدة، ولا يطوله الامر حتى تعترف له مي بحبها. ليس هذا فقط، بل ان ما يفجئه هو اعترافها بانها كانت مدفوعة للتعرف به عن طريق خطيبها لاستدراجه ومعرفة معلومات عن ذلك المشروع الخطير الذي تخلى عنه. تقول مي في اعترافها: "عرفتُ كل ما كان في حوزته من معلومات عن تلك الخطة، عرفت قيمتها في حماية بلدنا، ومن هم الذين يجرون متكالبين لكشف اسرارها حتى يبطلوا تلك الحماية. عرفت اي المخاطر تتهدد يوسف اذا لم يحصل على تلك الاسرار، واي الرؤوس تسقط اذا كُشف اللثام عن الجماعة التي تدفع يوسف الى دفعي كي اغويك". اتخذ ماجد الاجراءات الضرورية، وابلغ مي انه يضمن سلامة يوسف اذا افضى لمن سيتّصلون به بكل ما يعرف، وانها هي - مي - لن تُسأل إلا اذا رفض يوسف الحديث. وسافر ماجد الى بعض الدول الغربية لعمل ضروري، ومن هناك تابع اخبار قضيته، فعرف بسقوط "الجرذ الكبير" لكن اعواناً له وخلائف بقوا بعيدين، وصمم على ملاحقتهم حين يعود مستعيناً بما تعرفه مي، وها هو قد عاد، وتوجه مباشرة الى بيتها لتبغته اجابة امها: "مي اعطتك عمرها. .. ماتت". ويعرف من اختها - التي تتهمه بأنه السبب، وتطلب منه الا يعود - تفاصيل قليلة: عرف ان يوسف أقنع "مي" بأن ثمة اخطاراً تتهددها، وسافرت اليه في مدينته البعيدة، وهناك مرضت، واقنعها يوسف بضرورة احراء عملية جراحية ماتت في اعقابها. يقول ماجد في خواطره: الله يعلم انها اذا كانت ثمة عملية، انما اخُتلقت ودربت لتبقى تلك الفجوات فاغرة فاهاً بمجاهيلها المخيفة، ولتذهب ضحيتها مي".
ما كنه هذا المشروع الخطير، ولماذا يطارده المفسدون، وما الذي جعل ماجد يتوقف عن المضي في إكماله ويترك منصبه، وما حقيقة يوسف، وما العلاقة التي تربطه بهذا "الجزء الكبير" وكيف تقبل مي الذكية الواعية ان تُستدرج؟
يترك لك القاص هذه الاسئلة بغير اجابات، تلك هي المساحات البيض التي اشرت اليها، معتمدا على الخبرة المتراكمة عند المتلقى الذي تكفيه الاشارة او الايماءة. انها الكتابة عن طريق الحذف VIA NEGATIVA لا الإضافة.
وثمة قصتان تعتمدان اسلوبي الرسائل: "الانزلاق" و"الحاجز"، الاولى في احدى عشر رسالة غير مؤرخة، يكتب في بدايتها هذا "الكليشيه" التقليدي "القصة متخيلة، واي شبه لأحداثها...". والرسائل من طرف واحد، من ك الى س من تتابعها نستطيع ان نفهم انهما كانا. رفيقين في عمل سري شيوعي على الارجح، فالقاموس المستخدم في الرسائل ينم عن هذا: يقول في رسالته الاولى لصاحبه انه - اي صاحبه - قد ابتعد لانه يخشى ان يلوّث غبار الفعل "يديه البورجوازيتين الناعمتين"، ثم يضيف: صحيح ان السلبيات موجودة، لكن هذا امر طبيعي، وقد علّمنا اياها منذ البداية أساتذة الديالكتيك الكبار في كتبهم، والمعاصرون منهم فيما اخبرونا به في خلايانا السرية ايام عملنا تحت الارض. والآن قد اصبح ك زعيماً مرهوب الجانب لكن هناك من يعارضه ويتمرد عليه ويتربص به وجاءت "سمية" الشابة الجميلة تعمل مديرة لمكتبه. كان يقول لصاحبه "تعرف ان قلبي محصن ضد الاهواء التي تملك قلوب الشباب" حتى لو لم يكن كذلك قلبي، فان شخصية الست سعاد، حرمي المصون تظل افضل تعويذه ضد اقتراب بنات حواء مني" والرجل يبدو ديكتاتوراً باطشاً ذا طابع فاشي. يقول لصاحبه تبريراً لغارة شُنت على بعض معارضين لقوا فيها مصارعهم الى جانب بعض الابرياء: "انت تعرف مقوله اسلافنا في انه يحل اهلاك "ثلثي الرعية في سبيل اصلاح ثلثها الثالث" اطمئني. لم يهلك ثلثا الرعية ولا واحد من المليون منها: بضع طلقات طائشة قضت على اثنين او ثلاثة من المارة، اما الذين كانوا في الوكر فقد لاقوا ما يستحقون" وقد حدث ان نشر بيان على لسانه يتهم فيه بعض الافراد بالخيانة ويسميهم باسمائهم يقول لصاحبه: "وحين استعرضت تلك الاسماء لم اجد بينها الا قليلاً سمعت بها أو عرفت اصحابها قبل الان، وهؤلاء القليلون ما عملت لأحد منهم خيانة"، وكان التبرير الذي قدمته سمية التي اصدرت التصريح باسمه ان "المراجع المعنية رأت ان اقتناع الاوساط في داخل الوطن وخارجه بمصداقية ما جرى لا يتم الا اذا تبينته أنا. أنا الذي يحمل رصيداً من ثقة الجماهير جديراً بتبرير ما يعسر على الاخرين تبريره". وفي الاجتماع التالي وقف الرجل وحده ضد الجميع الذين يطالبوه بأن يرأس المحكمة التي تصدر احكامها القاسية على اولئك الخونة، فرجاه احدهم الا يتخذ قراراً نهائياً قبل ان يقرأ ملفاً سيوصله اليه المساء التالي. وجاء الملف يحمل الاحكام والحيثيات وتوقيعه عليها كرئيس للمحكمة، والى جانب هذه الاوراق ملف صغير يضم ثلاث صور ملونة تم التقاطها له ولسمية عاريْين في الفراش. بدأت لعبة الابتزاز المألوفة، وقع على الاوراق المطلوبة، وراح يهبط الى المستنقع دركة بعد دركة. يكتب في رسالته العاشرة: "أما أنا فقد بلغت حد الاحتمال، ليس في مكنتي ان اخوض في النتن والقذر اكثر مما فعلت. لن أنحدر نحو القاع متراً آخر. قلت لهم هذا ومددت عنقي للسياف، وداعاً يا أخي س وداعا يا كل ما آمنت به وكل من تعلقت به، وداعا يا سمية". الرسالة الحادية عشرة سطور بيضاء.
هل هناك من سبيل للشك في انه انتحر؟ تلك هجائية قاسية لمثل هذا العمل وللقائمين عليه جميعا القائد- كاتب الرسائل - ديكتاتور فاشي، ينزلق - هو الزوج والاب - الى غواية سمية ولعله هو الذي اغواها، وبقية الاعضاء متواطئون مبتزون. يترك القاص مساحة بيضاء حول سمية، يقول صاحب الرسائل إنها المسؤولة عن زرع تلك الاجهزة التي صوّرتهما عاريين، فهل هي متواطئة أم هي محبة مخدوعة؟ لك جواب السؤال.
القصة الثانية "الحاجز" تقوم على تسع رسائل يرسلها ابن الاخ - لا نعرف له سوى اسم عائلته "عجيل" - الى عمه، ورسالة واحدة يرد فيها العم - الرجل القوي صاحب المكانة والنفوذ ومالك الارض - على الرسائل التسع. في هذه القصة كثير من السمات التي ميزت قصص العجيلي من قبل: ابن الاخ يتابع دراساته العليا في الفيزياء في باريس، قال له عمه نصيحة واحدة قبل سفره: "لا تأت وبذراعك معلقة امرأة اجنبية. لا تتزوج الا فتاة من جنسك ومن وطنك. كلما قربت من الوقوع في الغواية تَذكَّر وصيتي لك. وقد وقع في الغواية مرتين. لكنه أفلت منهما في اللحظات الاخيرة، ثم جاء الحل السحري: "أمية" "فتاة زهراء المحيا، عيناها رماديتان كعيني هرّة وحشية، وقدها مشيق، تسير بين الصبايا الباريسيات والصبيان البارسيين كأنها واحدة من صميمهم" فاجأته حين عرف انها عربية، انها من بلده، جاءت الى باريس تكمل دراسها في علم النفس بعد تخرجها من جامعة دمشق، وما اسرع ما تحابا، خطبها من نفسها فجاء ردها ذا طابع عملي وطلاء ثقافي: دعته الى صحبتها في زيارة لمتحف "اللوفر" وقادته من قبو الى قبو حتى وقفت به عند "القاعة التدمرية" وطلبت منه ان ينظر في بعض المنحوتات المجلوبة من تدمر، وان يقرأ ما هو مكتوب: الاولى لكاهن يدعى "عجيل" قالت له صاحبته : الاسم اسمك والوجه وجهك والى جانبه منحوته اخرى لامرأة جميلة ساحرة اسمها "اميات" قالت صاحبته "بل أمية يا صديقي" وبينهما كانت منحوتة ثالثة لرجل كريه المنظر كان اسمه "صعب". في المقهى قالت له ماذا كانت تعني بهذا كله: إن صعب يقف بين "عجيل" و"أميات" وترجمتها الواعية انها مخطوبة لابن عمها "عبدالحميد" وهو الذي يقف بينهما، فأرسل "عجيل" الى عمه يستنجد به كي يجد لهما حلا. ومرة ثانية جاء الحل السحري: ذهب العم للقاء ابن عمها بدعوى انه يريد ان يشتري ضيعة مجاورة لضيعته، فوجده عائدا لتوه من شهر العسل فقد تزوج الرجل ومن ثم اصبحت امية في حِلٍ من ارتباطها، ولم يكتف العم بل سعى لمقابلة ابيها وخطبها لابن اخيه.
تلك قصة نموذجية من قصص عبدالسلام العجيلي من حيث انها تحوي اهم السمات المترددة في افضل قصصه: احكام مفرط في البناء فالرسائل التسع تحكي احداث القصة على نحو مشوّق وجذاب، ثم إن احداثها تدور هناك، في باريس: معالم المدينة قائمة ونساؤها موجودات، والحل السحري يتمثل في فتاة سورية جميلة حسبها صاحبها باريسية للوهلة الاولى، ثم هذا الارتباط الحميم بالماضي قال لي العجيلي في ذلك الحوار الذي اشرت اليه: "هناك أمر في الثقافة السورية لم تتسرب اليه الضحالة ولم تستطع ان تقطع بذوره، اعني به انتماء السوري الى قوميته العربية، الثقافة السورية في واقعها الراهن لم تتعمد الابتعاد عن التراث او تجاهله .. ويظل الوجدان السوري - لدى المفكرين والكتاب والمواطنين العاديين على السواء - قومياً متوثباً، لم تفلح امميته او شعوبيته ان تُضعف منه.. وهذه أمية تقول لصاحبها امام منحوتات تدمر: كل هؤلاء أنباط، أعني عرباً جاؤوا من الجزيرة العربية الى البتراء في جنوبي الاردن، فأقاموا فيها مملكتهم الشهيرة. وبعد ذلك نزحوا الى بادية الشام فأسسوا في تدمر امبراطوريتهم" وفي القصة اخيراً، ما سبق ان اشرت اليه من رسوخ الافكار الغيبية، حتى عند هذا الذي يقول عن نفسه: "قدمت الى هنا لأتابع درس الفيزياء، أنبل علم بين العلوم الحقيقية" فقد رجع يوما ليرى المنحوتات مرة اخرى فوجد القاعة مغلقة لإجراء ترميمات وتغييرات فيها. وبعد جهد سمح له بأن يدخل القاعة. كانت المنحوتات كلها منزوعة من اماكنها وفرح حين وجد منحوتة "صعب" مرمية منكبة على وجهها بين منحوتات اخرى، فأسرع يبشّر عمه بهذا النبأ السار "قلت لنفسي تهاوى الحاجز بيني وبين امية منذ أجلى صعب عن مكانه بين لوحتينا وكُب على وجهه". اذا كان عالم الفيزياء يقول هذا فليس لنا ان نلوم عمه حين يورد في حاشيته رسالته الوحيدة انه قارن بين تاريخ نزع المنحوتة وكبّها على وجهها وتاريخ زواج عبدالحميد، ومن ثم تحرر امية "فوجدت ان الامرين حدثا في يوم واحد".
من "تدمر" الى "البتراء" قصة "الحاج" حيث ضاعت "ليلى" بين خرائبها وأطلالها. رحلة لطلبة وطالبات من جامعة دمشق الى آثار البتراء يشرف عليها الدكتور اكرم، ويتعلق بليلى: الطالبة الجيملة المجتهدة نموذج الجمال الانثوي عند العجيلي: القامة المشيقة والعيون الواسعة، الشعر الطويل المنسدل، هكذا كانت مي وليلى وامية وسمية ومجهولة الاسم في قصة المجموعة وتصر ليلى على ان تنزل وحدها وادياً مهجوراً خطرا اسمه "وادي الخراريب". وينتظرها الجميع لكنها لا تعود، ولا يفلح رجال الامن ولا قصاصو الاثر ولا الطائرة المروحية التي مسحت مرتفعات الوادي ومنخفضاته في اكتشاف اي اثر لها، اي ضاعت ليلى؟ مازال هذا السؤال يشغل اكرم بعد اثنتين وثلاثين سنة. لقد غيّر هذا الاختفاء الغامض مجرى حياته. ترك الجامعة والتدريس واتجه الى ميدان الاعمال، وهو اليوم رجل اعمال ناجح في الثالثة والستين، يمضي مع صاحبه وشريكه المحتمل "الحاج سليمان" لأداء فريضة الحج في سيارته "المرسيدس" وهو يطلب الى رفيقه ان يمرا بالتبراء في طريقهما الى العقبة. ويسلك اكرم ذات الطريق الذي سلكه مع ليلى وبقية الطلاب قبل اكثر من ثلاثين سنة ويستعيد أحداث الماضي، حية متوهجة مشحونة بالانفعال كأنها حدثت بالامس القريب. اي ضاعت ليلى؟؟ يومئ القاص ايماءة صغيرة الى انها يحتمل ان تكون قد سقطت ففقدت الذاكرة، وقد تكون هي تلك "البصارة" التي تلبس ثياب البدو وتبيع العملات القديمة وتتخذ مجلسها عند اول الوادي الذي هبطت اليه ذلك اليوم البعيد.
هي اطول قصص المجموعة، وواحدة من اكثرها احكاماً كذلك. يتمثل احكامها في المزاوجة بين مستدعيات اكرم من ناحية، وما يعيشه في حاضره من الناحية الاخرى، عين الى الداخل والثانية الى الخارج، وتمضي الانتقالات عفوية سلسة من هذا لذاك، اضافة لدقة تحليله لمشاعر بطله وهو يستعيد ذكريات مضت عليها كل هذه السنين لكنها تتدفق بكل سحونتها وحميميتها، ووصفه التفصيلي الدقيق للطريق الذي يقطعه البطل مع رفيق رحلته، والطريق الجبلي الصاعد الذي يقطعه وحده تماما كما قطعه يومذاك حين لم يكن وحيداً.
تلك كلها قصص طوال، لكن القاص يقدم لنا ثلاثاً قصاراً تحت عنوان واحد: "قصص قصيرة غير واقعية". قد يصدق هذا الوصف على اولى القصص: ساعة كبيرة معلقة تحت على جدار احدى الوزارات، يتبين الراوي ان عقاربها تسير الى الوراء، فيقرر ان يحدّث صديق الوزير بأمرها، لكنه يجدها قد رفعت من مكانها، ويجيبه موظف الاستقبال بجد لا أثر للسخرية فيه ان الساعة قد سرحت من العمل عقاباً لها، فقد اكتشف المسؤولون انها ساعة صادقة تقول الحقيقة في توقيتها لما تراه، لهذا عوقبت بإزالتها من الوجود: الثانية والثالثة واقعيتان تعكسان بعض صور الفساد والتحايل في الواقع المعيشي.
مجموعة الدكتور عبدالسلام العجليلي "مجهولة على الطريق" مجموعة متميزة من القصص القصيرة، قصصها ذات بناء كلاسيكي محكم، في لغة رصينة مقتصدة، رغم طول بعضها لا نجد أثراً لثرثرة.
* ناقد مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.