العيبان: المملكة مستمرة في دعمها الإنساني للفلسطينيين    تابع سير العمل في مركز قيادة الدفاع المدني.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يتفقد مشاريع التطوير في المشاعر المقدسة    وفد شوري يزور «مَلكية الجبيل» ورأس الخير    وزير الإعلام يزور جناح" سدايا"    رقم قياسي جديد في موسوعة غينيس العالمية.. تدشين ممشى واجهة روشن البحرية بحلة جديدة    الرياض الخضراء    حج كل شهر    السعودية واحة فريدة للأمن والأمان (2 2)    شكراً..على أي حال    العدو الصهيوني    حج بلا أدلجة أو تسييس!    ماكرون يفرش السجاد لليمين المتطرف لدخول قصر ماتينيون    الأفيال الأفريقية تنادي بعضها بأسماء فريدة    السعودية والكويت.. رؤية مشتركة ومصير واحد    مدرب «النشامى»: «تعذبنا» اليوم.. مانشيني: لا نستحق الخسارة    في يورو 2024… الظهور الأخير ل 5 مخضرمين    أبناء الطائف ل«عكاظ»: «عروس المصايف» مؤهلة لاستضافة مونديال 2034    النصر يقترب من الحارس البولندي تشيزني    بدء العمل بمنع دخول المركبات غير المصرح لها إلى المشاعر    وزير الداخلية يتفقد المشاريع التطويرية ومركز تحكم الدفاع المدني بالمشاعر    اتفاقية بين «المظالم» و«مدن» للربط الرقمي    "الكشافة".. 6 عقود في خدمة ضيوف الرحمن    وزارة الداخلية تصدر قرارات إدارية بحق (15) مخالفًا لأنظمة وتعليمات الحج    خالد وهنادي يردان على تنبؤات ليلى حول طلاقهما ب«آية قرآنية»    150 وسيلة و 1500 إعلامي محلي ودولي في «ملتقى الحج»    سفراء "موهبة" يحصدون الجوائز    أكد على أهمية اتباع الإرشادات .. متحدث الصحة: ارتفاع درجات الحرارة أكبر تحدي في موسم الحج    مواسم الخير    10 نصائح من استشارية للحوامل في الحج    تحذير طبي للمسافرين: الحمّى الصفراء تصيبكم بفايروس معدٍ    «التهاب السحايا» يُسقط ملكة جمال إنجلترا    المملكة والريادة الطبية في فصل التوائم الملتصقة    كيف تتخلص من الألم..وتنضج ؟    منتجات فريدة للإبل تجذب أنظار زوار المعرض السعودي للسنة الدولية للإبليات 2024 في إيطاليا    النفط يستقر مع ترقب المستثمرين بيانات مؤشر أسعار المستهلك الأميركي والصيني    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على منيرة بنت محمد بن تركي    "الأمر بالمعروف" تشارك في حج هذا العام بمنصات توعوية متنقلة لخدمة الحجاج    الشؤون الإسلامية تحدد 1082 جامعاً ومصلى لإقامة صلاة عيد الأضحى بالشرقية    المملكة تواجه انتهاكات حقوق الطفل بصرامة    «إنفاذ» يُشرف على 26 مزاداً لبيع 351 عقاراً    الموافقة على أفتتاح جمعية خيرية للكبد بجازان    عبدالعزيز بن سعود يقف على جاهزية قوات أمن الحج    المملكة تملك مقومات صناعية متقدمة.. ومركز لوجستي عالمي    الحجّ.. مشهديّة آسرة    جولة رقابية على الأسواق والمسالخ بمنطقة نجران    المشاهير والترويج للاحتيال    «الآسيوي» يشيد بتنظيم «مونديال» البلياردو في جدة    لجنة الاستقطابات.. وتقييم التعاقدات السابقة    شركة مطارات الدمام تعقد ورشة عمل لتدشين 'خدمتكم شرف'    تزايد حاد في إصابات حمى الضنك في أوروبا    1.5 مليون حاجّ وصلوا المملكة    «الخارجية القطرية»: تسلمنا رد الفصائل الفلسطينية على مقترحات إسرائيل    مقتل نائب رئيس مالاوي ومرافقيه في حادث طائرة    الديوان ينعى الأميرة منيرة بنت محمد بن تركي    وزير الإعلام يدشن "ملتقى إعلام الحج" بمكة    أمن الحج.. خط أحمر    إثراء يفتح باب التسجيل في مبادرة الشرقية تبدع بنسختها الخامسة    البذخ يحتاج لسخافة !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



800 سنة على رحيل فيلسوف الاندلس القاضي ابن رشد . فشل المشروع الرشدي في الاتصال بين الشريعة والحكمة 5
نشر في الحياة يوم 21 - 02 - 1998

تركزت جهود القاضي الفيلسوف ابن رشد على أربع مسائل: الأولى، شرح فلسفة ارسطو بناء على طلب من الخليفة الثاني أبي يعقوب يوسف بتوجيه من ابن طفيل. الثانية، الرد على أفكار الأمام الغزالي خصوصاً في موضوع تكفير الفلاسفة وتحديداً الفارابي وابن سينا. الثالثة، انتقاد الفلاسفة المسلمين خصوصاً في موضوع محاولة الدمج بين ارسطو وافلاطون ثم بين ارسطو وافلوطين وخلطهم بين قياس ارسطو وفكرة "الفيض" الأمر الذي أدى الى استنتاجات خاطئة وتحميل ارسطو افكار غيره ثم تحميل افلاطون افكار افلوطين. الرابعة، محاولة التوفيق بين الفلسفة والشرع أو ما يسميه "تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال".
بعدها انتقل الى النقد وتشكيل منظومة فكرية مستقلة فأقدم على توضيح أفكار ارسطو في محاولة منه لتنقيتها من الافلاطونية والافلوطينية ثم رد على الفارابي وابن سينا في محاولتهما الدمج بين ارسطو وافلاطون معتبراً ان فكرة الزمان عند افلاطون غيرها عند ارسطو، وأكد أن الأخير يرفض فكرة "الفيض" التي تطورت في مدرسة الاسكندرية. واتهم الفارابي وابن سينا بتغيير افكار ارسطو وتفسيرها بشكل خاطئ ونقلها مشوهة الى قارئ العربية. وبعد مخالفة آراء الفلاسفة المسلمين في ارسطو وافلاطون، ينتقل للرد على آراء الإمام الغزالي ويدافع عن حق الفلاسفة المسلمين في استخدام آلة تفكير أخرى ما دامت لا تتعارض مع الشريعة، كذلك يدافع عن حقهم في التفكير بالمسائل الكلية والكبرى شرط ان لا يشركوا. ورأى ان كل ما جاء به الفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل لم يخالف الشريعة لأنهم أقروا الأصول الشرعية، وكل ما فعلوه انهم حاولوا التوفيق بين الشريعة والحكمة الفلسفة، وينتهي الى محاولة تجديد التقريب بين الشريعة والفلسفة ويدافع عن المشائية الارسطوية ويرد على المتكلمين في مسألتي الإبطال والتقريب. كذلك يناقش أفكار المعتزلة والاشعرية وبعض الفرق الصوفية والزهدية لتأكيد مقولاته.
لم يتوصل ابن رشد الى افكاره التي كانت مجرد تنويع على مقولات اسلافه من الفلاسفة المسلمين دفعة واحدة بل تدرج في تطويرها حتى وصل الى "تهافت التهافت"، ويرجح انه من آخر كتبه ووضعه في آخر أيام الخليفة الثالث المنصور.
قبل "التهافت" كان ابن رشد وضع الخطوط العريضة لأفكاره في مقالين كتبهما في أيام الخليفة الثاني يوسف بن عبدالمؤمن أبو يعقوب ويعتبران من أهم أعماله الى كتابه الأساسي في القضاء.
فصل المقال... والضميمة
يبدأ ابن رشد سجاله من سؤال "هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع، أم محظور، أم مأمور به، إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب". ويرد انه مباح لأن "فعل الفلسفة ليس شيئاً اكثر من النظر في الموجودات" ص27.
وبما ان "الشرع دعا الى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به" اذن "فواجب ان يجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي" ص28. ويرى ان "القياس البرهاني" هو "أتم أنواع النظر" بالمقارنة مع "القياس الجدلي، والقياس الخطابي، والقياس المغالطي" ص29.
وبرأيه انه من حق الفلاسفة استخدام قياس البرهان كما استنبط الفقهاء احكام الشرع باستخدام القياس ايضاً. ويستغرب كيف انه "لم يتقدم ممن قبلنا بفحص عن القياس الفعلي وأنواعه". وأضاف: "انه يجب علينا ان نبتدئ بالفحص عنه، وان نستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم، حتى تكمل المعرفة" ص 31 وما "كان منها موافقاً للحق قبلناه منهم وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وحذرناهم". وينتهي الى حسم موقفه الشرعي بالقول "ان النظر في كتب القدماء واجب الشرع اذا كان مغزاهم في كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه" ص 33.
ويؤكد ابن رشد على مقولته انطلاقاً من آيات القرآن الكريم. ويرى ان الكتاب يقسم مستويات فهم البشر الى ثلاثة: منهم من يصدق بالبرهان الحكمة، ومنهم من يصدق بالأقاويل الجدلية الجدل، ومنهم من يصدق بالأقاويل الخطابية الموعظة. لذلك "لا يؤدي النظر البرهاني الى مخالفة ما ورد به الشرع" كذلك تأويل الآيات ومعرفة ظاهرها وباطنها لأن معنى التأويل "هو اخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية الى الدلالة المجاز ... من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنة أو غير ذلك من الاشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي ... واذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الاحكام الشرعية، فكم بالحري ان يفعل ذلك صاحب علم البرهان". ولأن "فطر الناس" مختلفة وتتباين "قرائحهم في التصديق". كذلك "ورود الظواهر المتعارضة" كان لا بد من "تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها" ص 35 - 36.
ويرفض تحويل الخلاف الفقهي الى مناظرة عامة امام الناس و"انه لا يجب ان يعلم بالباطن من ليس من أهل العلم به ولا يقدر على فهمه" لأنه "في الشرع اشياء لا ينبغي ان يعلم بحقيقتها جميع الناس" ص 38. ويلوم الامام الغزالي على نقله الخلاف مع الفلاسفة من أهل العلم الى العامة وكفرهم في ثلاث مسائل وهي "في القول بقدم العالم، وبأنه تعالى لا يعلم الجزئيات، وفي تأويل ما جاء في حشر الاجساد وأحوال المعاد". وبرأيه كان على الغزالي ان "لا يفصح بها إلا لمن هو من أهل التأويل، وهم الراسخون في العلم" ص39. ويدافع عن الفارابي وابن سينا ويغالط الغزالي لأنه نسب اليهما ما لم يقولاه. ويرى انهما في الجوهر لا يختلفان عن المتكلمة والفقهاء والاختلاف فقط "في التسمية" ص 41، لأن الفلاسفة اقروا الأصول الشرعية الثلاثة "مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى، وبالنبوات، وبالسعادة الأخروية والشقاء الاخروي" ص44. وبما ان الكافر، حسب ابن رشد، هو المتأول في الاصول والفلاسفة لم يفعلوا ذلك اذن لا يجوز تكفيرهم. ويهاجم الامام الغزالي لأنه أفشى تأويل أهل العلم بين الناس وكشف العلم في ما لا علم لديه فأدى الأمر الى انقسام الناس الى ثلاثة تيارات: الحكمة، والشرع، والجمع بينهما. ويرد تهمة الغزالي بتهمة مضادة ويرى ان من يفشي علم أهل التأويل لمن لا علم له فإنه دعاه الى الكفر "والداعي الى الكفر كافر".
وبسبب تقسيم ابن رشد الناس الى مستويات مختلفة في قدرتهم على الاستيعاب والفهم يطالب بمنع غير أهل العلم من قراءة كتب أهل العلم لأن ذلك يزرع الشك في قلوبهم خصوصاً في مسائل التكلم بين الشريعة والحكمة واحكام التأويل في الشريعة. لأن مقصود الشرع هو "تعليم العلم الحق والعمل الحق" ص49. والعلم الحق هو "معرفة الله وسائر الموجودات على ما هي عليه ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي" بينما العمل الحق هو "امتثال الافعال التي تفيد السعادة وتجنيب الافعال التي تفيد الشقاء". ويسمي ابن رشد المعرفة بهذه الافعال "العلم العملي" ثم يقسمه الى قسمين فقهي ونفساني زهدي ويضع الغزالي في صنف علم الزهد النفساني. ثم يصنف التعليم الى تصديق وتصور. ولما كان مقصود الشرع تعليم الجميع لذلك يجب ان يشتمل على جميع انحاء طرق التصديق وانحاء طرق التصور. وبرأيه ان علم التصور هو علم المنطق "الذي أول من دونه فلاسفة اليونان" ص50، وهو علم الخاصة برهاني بينما طرق التصديق فهي عامة خطابية وجدلية وعلى الجمهور ان لا يعلم بالتأويل لأنه "لا يجوز ان يكتب للعامة ما لا يدركونه" و"من أباح التأويل للجمهور فقد أفسده". ويتهم الامام الغزالي بأنه صرح بعلم البرهان للعامة. ويرتكب ابن رشد سقطته الكبيرة التي أثارت عليه العلماء والمتكلمة والفلاسفة لاحقاً عندما اتهم الغزالي بالكفر بذريعة ان من صرح التأويلات البرهانية لغير أهلها "أفضى ذلك بالمصرح له والمصرح الى الكفر" ص52. ويكرر التهمة مرة ثانية مستخدماً الذريعة نفسها "أما المصرح بهذه التأويلات لغير أهلها فكافر لمكان دُعائه الناس الى الكفر" إذ "صاروا بتصريحهم للجمهور بتلك الاعتقادات الفاسدة سبباً لهلاك الجمهور وهلاكهم في الدنيا والآخرة" ص53.
جلبت تهمة التكفير غضب الجمهور والعلماء والفقهاء والمتكلمين اذ ان قيمة الغزالي الفقهية والفلسفية والفكرية كانت كبيرة وحاضرة في المشرق والمغرب. ومن المنطقي ان لا يقبل العلماء والفقهاء والجمهور تلك التهمة الظنية من قاض ولد بعد 15 سنة من رحيل الامام الغزالي. فالتهمة أولاً باطلة لأنها لا تعتمد على مسائل فكرية كما فعل الغزالي في سجاله ضد الفلاسفة، كما أنها تستند على فرضية افشاء سر علم التأويل الى العامة وهي تهمة لا أساس شرعياً يمنعها أو يحرمها إلا تأويلات ابن رشد الخاصة لبعض الآيات القرآنية أولو الألباب والراسخون في العلم. فابن رشد يكرر التهمة ويعيد تركيبها وانتاجها ثم العودة اليها ثم اعادة كتابتها وهي كلها لا تخرج عن دائرة فكرة واحدة لخصها مراراً، كقوله مثلاً "وهذه هي حال من يصرح بالتأويل للجمهور ولمن ليس هو بأهل له مع الشرع. ولذلك هو مفسد له وصاد عنه. والصاد عن الشرع كافر" ص 54.
ويلاحظ من كلام ابن رشد وتكرار التهمة وانتاجها بصيغ مختلفة انه لا يملك غيرها وهي في النهاية تصب في صالح الإمام الغزالي لأنه كان له الفضل في نقل المعركة الفكرية من الكواليس السرية الى مختلف المنابر ومقارعة الحجة بحجة أقوى، وهو أمر ساهم للمرة الأولى في فصل الفلسفة الاسلامية عن غيرها من تيارات فلسفية وتوضيح أسسها المختلفة والمستقلة عن الاتجاهات الاخرى. فالإمام الغزالي بسجاله الفلسفي ضد الفلسفة اسس منطلقات جديدة لعلم الفلسفة الاسلامي.
ولا يكتفي ابن رشد بتوجيه التهمة للامام الغزالي، بل انه يكررها ويوجهها للمعتزلة والأشاعرة وبعض الفرق الاسلامية، وعلى رغم ان ابن رشد يعتبر "المعتزلة أوثق أقوالاً من الاشعرية" ص52 يعود ويرى ان الاشعرية "أقل تأويلاً"، ويشن عليهما حملة بذريعة تصريح "تأويلهم للجمهور" فأوقعوا "الناس من قبل ذلك في شنآن وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع وفرقوا الناس كل التفريق" ص55. ثم يكفر الأشعرية بذريعة انها كفرت الناس ومن لا يؤمن بتصورها. ويرى ان تصورها فيه كفر بثلاث مسائل: ثبوت الاعرا ض وتأثير الأشياء بعضها في بعض، ووجود الاسباب الضرورية للمسببات، والصور الجوهرية والوسائط. ويعتبر ان الاصول "التي بنت عليها الاشعرية معارفها هي سوفسطائية" ص55-56.
نلاحظ التناقض في أفكار ابن رشد فهو يعتبر ان من حق الفلاسفة النظر في الاشياء وكتب الآخرين واستخدام آلاتهم الفكرية واستخدام البرهان في الموجودات شرط الإقرار بالأصول الشرعية الثلاثة ثم يشن حملة على المعتزلة والاشعرية والمتكلمة وبعض الفرق الاسلامية، ويخص الإمام الغزالي بهجوم مستقل بذريعة انه لا يجوز فضح أفكار الفلاسفة وكشفها أمام الجمهور والعامة لأن ذلك يفسد ايمانه ويشتت عقله ويقسم الشارع الاسلامي ويمزق الشريعة الى مذاهب تتقاتل. ويعتبر ان فعل الفلاسفة ليس كفراً بل الكافر هو من يكشف سر فلسفتهم ويخرجها الى العلن. وكأن المشكلة هي في سرية الافكار أو في علنيتها وليس في صحتها أو عدم صحتها.
والغريب ان ابن رشد الذي أخذ موقف الفلاسفة ضد العلماء والفقهاء يتشدد في نقد ابن سينا والفارابي في "فلسفة الفيض" وخلطهم بين ارسطور وأفلاطون وهي الفكرة التي ركز الغزالي في نقده للفارابي وابن سينا عليها. واغرب من ذلك ان ابن رشد الذي دافع عن التأويل وحق الفلاسفة في تأويل ظاهر النص وكشف باطنه ينقض نفسه ويناقضها عندما يترحم على الصدر الأول من الاسلام وبرأيه "ان الصدر الأول انما صار الى الفضيلة الكاملة والتقوى باستعمال هذه الأقاويل دون تأويلات فيها، ومن كان منهم وقف على تأويل لم يرَ ان يصرح به. واما من أتى بعدهم فإنهم لما استعملوا التأويل قل تقواهم وكثر اختلافهم وارتفعت محبتهم وتفرقوا فرقاً" ص 56-57.
وهكذا ينتهي ابن رشد في مقاله "فصل المقال" الى الاختلاف مع الجميع والدعوة الى العودة الى الصدر الأول في الاسلام. فهو يهاجم الفلاسفة لأنهم آذوا الفلسفة بخلطهم بين المذاهب "وقد آذاها ايضاً كثير من الاصدقاء الجهال ممن ينسبون أنفسهم اليها، وهي الفرق الموجودة فيها" ص58. ويهاجم الغزالي لأنه نقل الخلاف مع اهل التأويل من السرية الى العلنية، ويهاجم المعتزلة في تأويلهم الشرع في ضوء العقل. ويهاجم الأشاعرة في تأويلهم الشرع في الجمع بين العقل والنقل، ويكرر مهاجمته للفلاسفة لأنهم نسبوا أنفسهم الى الفلسفة. ودعا أخيراً الجمهور "الى طريق وسط ارتفع عن حضيض المقلدين وانحط عن تشغيب المتكلمين" وفي الآن نبه الخواص "على وجوب النظر التام في أصل الشريعة" ص58.
وهكذا تنتهي عقلانية ابن رشد بالخبط العشوائي وتوزيع التهم، ولم يهدأ الا بعد "الضميمة". وهو مقال ألحق بكتاب "فصل المقال" ويقال انه اصلاً رسالة توضيحية موجهة الى الخليفة الثاني الذي التقى به واتعبه باسئلته المحرجة وناقشه بأفكاره الأمر الذي جعل ابن رشد يعدل مواقفه من مسألة العلم ويقسمها الى قسمين: علم الله وعلم الانسان.
ماذا تقول رسالة "الضميمة"؟ يبدأ ابن رشد من قاعدة نظرية عامة "من لم يعرف الربط لم يقدر على الحل". ص59. ثم يرد على فكرة الامام الغزالي التي تتحدث عن العلم والمعلوم بصفتهما من المضاف ويتغير أحد المضافين ولا يتغير المضاف الآخر. ويرى ان العلم يتغير ولأنه يتغير لا يجوز قياس العلم القديم على العلم المحدث لأنه كقياس "الغائب على الشاهد" ص61. ويستنتج بأن صفات العلم القديم غير صفات العلم المحدث. فالعلم علمان القديم يتعلق "بالموجودات على صفة غير الصفة التي يتعلق بها العلم المحدث". لذلك يجب ان يكون للموجودات "علم آخر لا يكيف وهو العلم القديم سبحانه". وينتقل فوراً للرد على الغزالي الذي يرى ان تحول الشيء لا يغير ذاته، ويبرر كلام الفلاسفة ويدافع عنهم لأنهم اتهُموا بأن "سبحانه لا يعلم الجزئيات" وهم لم يقصدوا ذلك لأن الكليات تتضمن الجزئيات ومن يعلم الكل يعلم الجزء ويرون "انه لا يعلم الجزئيات بالعلم المحدث الذي من شرطه الحدوث بحدوثها".
وبالتقسيم المذكور تستقل فلسفة ابن رشد عن الفارابي وابن سينا وفي الآن نفسه عن الامام الغزالي، فهو من ناحية يرى ان الكليات تتضمن الجزئيات وعلم الجزئيات لا يمكن فصله عن علم الكليات، ومن ناحية يضع العلم على مستويين الأول القديم والثاني المحدث. ولكل علم طريقته في معرفة الكليات والجزئيات ولا يجوز مقاربة الثاني بالأول لأن المحدث متغير والقديم لا يتغير لذلك من الصعب قياس المتغير الحكمة على الثابت الشرع.
وعلى رغم ان فكرة ابن رشد في "الضميمة" انقذته إلا انه أوقع نفسه بمشروع مضاد لمشروع فلسفته التي هدفت أصلاً التوفيق بين الفلسفة والدين أو "تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال". فانتهى في "الضميمة" من حيث ابتدأ في منظومة جديدة. وهنا تناقض ابن رشد الذي حاول حله في عهد المنصور الخليفة الثالث حين عاد وانتقد الخلط الايديولوجي الذي وقع به تيار الفلاسفة وخصوصاً الفارابي وابن سينا وأخذ بتوضيح افكار ارسطو، فاعتبر ان الفلاسفة المسلمين لم يفهموها بسبب الالتباس الذي حصل عندهم. ثم عاد وركز انتقاده للفلاسفة على فكرة "الفيض" التي اعتبرها غير ارسطوية وغير عقلانية. وهنا بالضبط التقى مع صاحب "تهافت الفلاسفة". فالغزالي انتقد الفارابي وابن سينا بسبب اعتناقهما فلسفة "الفيض" ولم يعترض كثيراً على أفكارهما المنطقية والرياضية والسياسية التي اعتبرها احياناً "اسلامية".
وبسبب المفارقة المذكورة بدأت مأساة منظومة ابن رشد الفكرية وارتباك موقفه. فإذا كانت فكرة "الفيض" خاطئة اذن يكون انتقاد الامام الغزالي صحيحاً. لكن ابن رشد تمسك بالموقفين واختصر رأيه بحق الفلاسفة المسلمين في استخدام "آلة تفكير" في تحليلهم المنهجي ما دامت تلك الآلة لا تتعارض مع الشرع. وهو أمر لجأ اليه، كما يقول ابن رشد، معظم الفقهاء المسلمين عندما استخدموا القياس الارسطوي في دفاعهم عن الشريعة.
وبسبب موقفه الوسطي بين تياري فقهاء الفلسفة وفلاسفة الفقه ضاعت أفكاره النقدية بينهما وهو ما عرّضه الى نقمة الاتجاهين، فاضطر الى الانتقال من موقع الهجوم الى خط الدفاع حين حاول التوفيق بين الشريعة والحكمة أو الشرع والعقل أو الدين والفلسفة وتشديده على لا تناقضهما في الجوهر ثم عاد وتراجع ووافق على فصلهما إلى علمين كما فعل الغزالي.
ساعد هذا الموقف العلماء والمتكلمين على الرد على ابن رشد وتوضيح الفروق الجوهرية بين الجدل الاسلامي والجدل اليوناني وبين قياس ارسطو المنطقي ومنطق القياس في الفلسفة الاسلامية. واعتمد الفقهاء في شروحهم وتوضيحاتهم وردودهم على الغزالي الذي نجح في توكيد الاختلاف في رده على الفلسفة اليونانية وتنقية العقيدة الاسلامية من الخلط والاختلاط، لذلك اعتبر الغزالي المؤسس الفعلي للفلسفة الاسلامية، وجاء من بعده الرازي فخرالدين. ولا يختلف موقف ابن خلدون عن غيره، فهو فلسفياً يسخر من ابن رشد الذي اتبع فلسفة اليونان خطوة خطوة وحرفاً بحرف في حين حاول الفارابي تمييز نفسه عنها، كذلك فعل ابن سينا في مساهماته الكثيرة واكد على استقلاله واختلافه عن ارسطو وافلاطون. وتظهر شكوك ابن خلدون في تصنيفات ابن رشد لكتب ارسطو وافلاطون بسبب جهله اليونانية فهو يرى ان قاضي قرطبة أدخل أفكاره لأنه اعتمد الانتقائية والترجيح، لذلك استخدم صاحب المقدمة كلمة الكتاب "المنسوب" الى ارسطو. وهو دليل على شكه بصحة أفكار ارسطو التي نسبها اليه ابن رشد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.