كما في اعقاب اتفاق "الخليل"، كذلك في اعقاب اتفاق "واي"، السؤال الأهم الذي سيحدد ملامح المرحلة المقبلة هو: هل حدثت نقلة نوعية في منطق رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو وفكره لجهة ما يقتضيه التعايش الفلسطيني - الاسرائيلي من اقرار بانسحاب ذي معنى للقوات الاسرائيلية من الضفة الغربية واقرار بحتمية اقامة دولة فلسطينية مستقلة؟ او ان الاتفاق محطة تكتيكية في ايديولوجية اجهاض هذه الاهداف التي وُضعت في اتفاقية "اوسلو" انطلاقاً من فكر ومنطق ينفيان الوجود والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني في ما يعتبره اليمين الاسرائيلي "يهودا والسامرة"، أي الضفة الغربية؟ والسؤال الأهم الذي سيحدد ملامح التجربة الفلسطينية في عملية استعادة الأرض وبناء الدولة لا يتعلق فقط بكيفية تعاطي الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مع عبء الاتفاق الامني الذي وقعه مع نتانياهو برعاية اميركية وبدور لوكالة الاستخبارات المركزية، وانما يتحدى المعارضة الفلسطينية ان تضع استراتيجية بناءة لتحقيق الطموحات الوطنية الفلسطينية وتفادي الانزلاق في تكتيك الاعتراض على حساب اهداف تفترض انها تصب في المصلحة الفلسطينية. لا شك ان اتفاق "واي" يطبع صبغة "المؤسساتية" على احتواء المعارضة الفلسطينية المسلحة بما يقارب محو الكفاح المسلح كخيار خارج عن السلطة الفلسطينية. ويمكن القول ان تحييد المقاومة ذات الاسنان، اي المقاومة المسلحة، في اية مفاوضات مع دولة لها جيش قوي، يشكل نوعاً من الانتحار. ويجوز انتقاد السلطة الفلسطينية على موافقتها على الخوض في شراكة مع الاستخبارات الاسرائيلية والاميركية بهدف القضاء على جناح المعارضة المسلحة الفلسطينية. لأن السلطة تقوّض، بذلك، الثقل والوزن والمفعول التفاوضي لها مع الطرف الاسرائيلي. وفي هذا المجال، يمكن الاستشهاد بالتجربة الايرلندية في التفاوض مع بريطانيا إذ لم تفرط بالجناح العسكري فيما كان الجناح السياسي يجري المفاوضات. ولكن، من ناحية اخرى، يمكن أيضاً القول ان قوات السلطة الفلسطينية هي "صمام الأمان" العسكري الذي يمكن عبره اعادة تفعيل المقاومة في حال التوصل الى فشل تام في عملية التفاوض الفلسطينية - الاسرائيلية. وبالتالي، يجوز القول ان منطق وجود السلطة يقضي بضرورة تملكها وامتلاكها حصراً "سلاح" المقاومة في وجه الاسرائيلي اذا بلغت الامور حد الانهيار، ويقضي المنطق ذاته بأحد امرين اما تحمل السلطة "السلاح" وإما ان تحمله المعارضة، ولا مفرّ من مواجهة واقعية لمعادلة ضرورة الغاء احدهما الآخر. العامل الفاعل في الساحة الفلسطينية هو الثقة. والثقة في هذا الاطار مصيرية. والكلام ليس عن الثقة بپ"العدو" الاسرائيلي وانما عن الثقة بپ"الذات" الفلسطينية. وتأتي افرازات انعدام الثقة، بكل تأكيد، على حساب الفلسطينيين اولاً وأخيراً. ولذلك، فإن امام المعارضة الفلسطينية، كذلك السلطة، استحقاقات جدية ازاء منطقها واجراءاتها في المرحلة الراهنة والمقبلة. في البدء، لا بد من الاعتراف بوجود ازمة ثقة فلسطينية. ثم، لا بد من مصارحة على مختلف الاصعدة سواء حول انحسار متبادل لهذه الثقة بين الداخل و"الدياسبورا" الفلسطينية. ومرة اخرى، ان اساس التفاهم هو احترام الداخل والشتات ألم الآخر ومعاناته. ثم لا بد من وضع الامور في نصابها لجهة رئاسة ياسر عرفات للسلطة الفلسطينية. فاذا كانت المعارضة تريده خارج السلطة لأنها تعتبره "خائناً" للقضية والطموحات الفلسطينية، فلتكشف هذه المعارضة عن "لونها"، ولتتقدم ببرنامج متكامل يوضع امام الفلسطينيين ليقرروا اذا كان عرفات "خائناً" او اذا كان الوقت حان لعزله من منصبه. وحتى هذا، اذا اقره الفلسطينيون، له قناته في التجربة الفلسطينية الفريدة. فعرفات جاء بانتخابات واسقاطه يجب ان يأتي عبرها او عبر وسائل ديموقراطية مشابهة. فكما لا يحق للسلطة ان تتسلط، كذلك لا يحق للمعارضة ان تُسقط التجربة الفلسطينية برمتها لأنها لا تعرف غير الاحتجاج. ان اهمية اية معارضة تكمن في تقديم تصور متكامل ومقنع للبديل. وهذا هو التحدي الأكبر للمعارضة الفلسطينية. فاذا اجمعت المعارضة، ووجدت الدعم الشعبي لذلك، على ان الوقت مناسب الآن لكفاح مسلح لتحقيق الطموحات الوطنية الفلسطينية، فإن عليها ان تتقدم ببرنامج واضح يبيّن كيف ستُثمر استراتيجيتها في الظروف الراهنة. اي شيء آخر ينحصر في مجرد الهجوم على سياسة السلطة الفلسطينية وانتقادها وتحقيرها والتشكيك بغاياتها والتحريض على مقاومتها والعمل على اسقاطها ليس سوى كلام استهلاكي، غاياته غير صادقة او انها اعتباطية انفعالية قاصرة ومقصرة بحق القضية الفلسطينية. اما اذا كانت المعارضة للسلطة الفلسطينية تنطلق من عزمها على تحقيق الطموحات الوطنية للشعب الفلسطيني، فإن دورها اساسي وضروري وحاسم في توجيه وتطوير السياسة التي تتبناها السلطة الفلسطينية بما يضمن وحدة الهدف الفلسطيني. فمساهمة المعارضة الفلسطينية اساسية في تقوية يد السلطة الفلسطينية وهي تسعى الى المزيد من الأراضي المحررة من الاحتلال الاسرائيلي. وهي ضرورية لسعي السلطة الى تواصل المناطق والمدن الفلسطينية بما يخولها بناء وطن ودولة فلسطينية. وهي حقاً جذرية في احباط "مشروع الفتنة" والحرب الأهلية الفلسطينية التي من شأنها تدمير البنية التحتية للكيان الفلسطينية والحؤول دون توصله الى دولة. وهذه المساهمة، اذا كانت مدنية ذات استراتيجية بعيدة، ففي امكانها افراغ الاتفاق الأمني من غاياته الاسرائيلية، وذلك بابراز حيوية المقاومة للاحتلال بأكثر من وسيلة وغاية، وتقنين المقاومة العسكرية اذا برزت الحاجة لها مستقبلاً في قوات السلطة الفلسطينية. السلطة من جهتها ليست بلا اخطاء او استحقاقات. وعليها، قبل غيرها، عبء احتذاب الثقة بها. وهذا يتطلب اكثر من القول ان لا خيار آخر امامها سوى معادلة "خذ وطالب". وهذا يتطلب منها استراتيجية حشد الدعم الفلسطيني لها - من الداخل والشتات والمعارضة والتنظيمات من "فتح" الى "حماس". وحشد الدعم بدوره يتطلب قفزة على النمط الذي ميّز ادارة وحكم السلطة الفلسطينية الى ممارسة الديموقراطية والتعددية وحماية الحقوق المدنية وفسح المجال الكامل للرأي الآخر للاستفادة منه كما لاحترامه وأخذه في الاعتبار، عملياً. وكما تنظر السلطة الفلسطينية بجدية الى التزاماتها الأمنية بموجب اتفاق "واي"، عليها الا تعتبرها ترخيصاً للبطش، او للتلاعب السياسي الدنيء في المعادلات السلطوية. على السلطة اثبات القيادة برؤيوية. وإذا فشلت في اقناع الفلسطينيين بجدوى توجهاتها فإنها لن تكون فقط متهمة ب "بيع" القضية الفلسطينية بمعناها النقي، وانما ستكون ايضاً محمّلة بدماء اقتتال فلسطيني رافقها من الشتات الى الأرض الفلسطينية. ان المعركة على الساحة الفلسطينية اليوم تشابه قليلاً المعركة على الساحة الاسرائيلية. انها معركة قرار. قرار تدخل فيه شبكات الاختلاف الديني والايديولوجي والسياسي. والمعركة معركة المجتمع والرأي العام الفلسطيني والاسرائيلي، وليست فقط معركة القيادات. بنيامين نتانياهو دخل المعركة اسرائيلياً. وهذا مؤشر مبشر في اطار منطق نتانياهو حتى وان كان ينوي التملص من الالتزامات. فهو بموافقته على اتفاق "واي" بعد اتفاق "الخليل" دخل كأمر واقع نمطاً جديداً في فكر ومنطق زَعَمَ الطلاق منه، وهو منطق الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومنطق "اوسلو" الذي يقر بتحويل أراضي الضفة الغربية تدريجاً الى الفلسطينيين. مرة اخرى، ليس واضحاً اذا كان نتانياهو يمارس حذاقة السياسة لغايات ضيقة تصب في فكره ومنطقه التقليدي. لكن هذا لا ينفي انه دخل حلبة جديدة كان تعهد أنه لن يدخلها إلا جثة ميتة. ومن هنا، لا بد من الاعتراف بديناميكية الاوضاع عندما تنطلق من ساحة "الوضع الراهن". هكذا هي سيرة التاريخ، اما في انتفاضة على ما تم رسمه في غرف الخرائط الاستراتيجية او في حكمة سياسة التطلع الى "المعقول"، او في رؤيوية الصبر والمثابرة بواقعية سياسية لتنفيذ الأهداف حتى عندما تبدو شبه مستحيلة. نتانياهو ومواقفه شأن عربي، بلا شك، لكن الشأن الأول للعرب يجب الا يكون المضي في تشخيص نتانياهو واسرائيل وأميركا وأوروبا وروسيا والاستمرار في مناحة عملية السلام. ان العرب، قادة وشعباً، مطالبون بالنظر في الداخل العربي والفلسطيني اولاً. المزايدة ليست في محلها بل انها مثيرة للاشمئزاز في هذا المنعطف. النقد ومقوماته غزيرة حقاً وفي امكان اي منا القاء محاضرات بارعة في خلفيات الفشل الفلسطيني، وأخطاء عرفات والسلطة، ومخاطر القرار الفلسطيني في هذا المنعطف، والكرامة العربية التي يدوسها الاسرائيليون والاميركيون على السواء، وكثير غيرها. ان النقد، اذا كانت اهدافه نظيفة، يجب ان يتضمن وصفات علاج واقعية ترقى الى مرتبة التحدي. اي مغالاة ليست في محلها، سواء جاءت من جهة القيادات والأوساط المعارضة للاتفاق، أو جاءت من لبنان او سورية او العراق، او من جهة القيادات والأوساط الحريصة على الاعتراف بانجاز "واي" والدور الذي لعبه الرئيس الاميركي بيل كلينتون. كذلك مغالاة الادارة الاميركية في تسويقها الانجاز في "واي"، ومطالبتها القيادات العربية بأن تدفع ثمن اخراج المسار الفلسطيني - الاسرائيلي من حال التوقف، والتعبير عن "ضيق الذرع" من عدم تهافت العرب على احياء التطبيع مع اسرائيل... هذه محاولات رخيصة لا داعي لها على رغم التقدير الكامل لدور بيل كلينتون ومواقفه - بغض النظر عن بذل جهوده متأخراً ست سنوات وعندما وجد حاجة ماسة لانقاذ سمعته الرئاسية بسياسة خارجية ناجحة. ان الانتظار كي تتوضح نيات نتانياهو انتظار في محله خصوصاً ان اتفاق "واي" تحاشى مسائل القدس والاستيطان التي بدأ نتانياهو باستغلالها. لكن الاولوية الفلسطينية والعربية يجب ان تصب في الخانة الفلسطينية اولاً، لأن ايضاح دور الاستخبارات المركزية الاميركية في الاتفاق الأمني يؤجج شعارات "العمالة" بما يعمي عن حيثيات الواقع الفلسطيني وطموحاته.