خادم الحرمين وولي العهد يعزيان ملك إسبانيا إثر الفيضانات التي اجتاحت جنوب شرق بلاده    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الخسارة أمام الاتحاد    إسعاف القصيم يرفع جاهزيته تزامنا مع الحالة المطرية    ريال مدريد يتبرع بمليون يورو لمساعدة ضحايا الفيضانات    النويصر: «طيران الرياض» يُوقِّع طلبية لشراء 60 طائرة.. والتشغيل منتصف 2025    60 مشروعًا علميًا بمعرض إبداع جازان 2025 تتنوع بين المجالات العلمية    تعليم الطائف ينهي الاختبارات العملية .. و1400مدرسة تستعد لاستقبال 200 ألف طالب وطالبة    علامة HONOR تفتح باب الحجز المسبق للحاسوب المحمول الرائع HONOR MagicBook Art 14    الجامعة العربية: دور الأونروا لا يمكن الاستغناء عنه أو استبداله إلى حين حل قضية اللاجئين وإقامة الدولة الفلسطينية    صندوق الاستثمارات العامة يوقّع مذكرات تفاهم مع خمس مؤسسات مالية يابانية رائدة    وزير الإعلام يعلن إقامة ملتقى صناع التأثير «ImpaQ» ديسمبر القادم    جمعية اتزان بجازان تختتم برنامجها التوعوي في روضة العبادلة بييش    السعودية تدين الهجوم الإرهابي الذي استهدف قاعدة عسكرية في إقليم بحيرة تشاد    البنك السعودي الأول يحقق صافي دخل 5.9 مليار ريال سعودي بعد الزكاة وضريبة الدخل للربع الثالث بنسبة زيادة قدرها 16%    فيصل بن فرحان: نسعى لتنويع الشراكات الدولية.. ومستعدون للتعامل مع أي رئيس أمريكي    وزير الداخلية السعودي ونظيره البحريني يقومان بزيارة تفقدية لجسر الملك فهد    وزير الدولة للشؤون الخارجية يلتقي رئيس وزراء كندا السابق    إطلاق حملة ( تأمينك أمانك ) للتعريف بأهمية التأمين ونشر ثقافته    أمير حائل يستقبل وزير البلديات والإسكان ويطلع على تصاميم المنطقة المركزية    أمانة القصيم تنظم حملة التبرع بالدم بالتعاون مع جمعية دمي    أمانة القصيم تكثف جهودها الميدانية في إطار استعداداتها لموسم الأمطار    شارك في الصراع 50 دولة .. منتخب التايكوندو يخطف الذهب العالمي المدرسي بالبحريني    المرشدي يقوم بزيارات تفقدية لعدد من المراكز بالسليل    أمير منطقة تبوك ونائبه يزوران الشيخ أحمد الخريصي    مدير هيئة الأمر بالمعروف في منطقة نجران يزور مدير الشرطة    رئيس الإتحاد: مباراة الأهلي مهمة في الصراع على لقب الدوري    بنزيما يُهدد بالغياب عن مواجهة الأهلي    الدكتور عبدالله الربيعة يلتقي نائب المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين    أمير المدينة يكرم الفائزين بجوائز التميز السنوية بجامعة الأمير مقرن    وزير العدل يقر اللائحة التنفيذية الجديدة لنظام المحاماة    أدبي تبوك ينظم أمسية حوارية حول روًي الاختلاف مابين العقل والإبداع    رئيس وزراء باكستان يلتقى وزير الاستثمار    "سعود الطبية" تنفذ 134 ألف زيارة رعاية منزلية عبر فرق متخصصة لخدمة المرضى    وزير الاقتصاد: السعودية تقود المستقبل باستثمارات قياسية في الطاقة المتجددة والتكامل الاقتصادي    الأنمي السعودي 'أساطير في قادم الزمان 2' يُحلق في سماء طوكيو وسط احتفاء من الإعلام الياباني    رئيس جمهورية السنغال يغادر المدينة المنورة    نمو الاقتصاد السعودي بنسبة 2.8٪ خلال الربع الثالث من 2024    الأرصاد: استمرار الحالة المطرية على مناطق المملكة    هاريس تخفف آثار زلة بايدن بالدعوة لوحدة الصف    خدمات صحية وثقافية ومساعدون شخصيون للمسنين    الحركات الدقيقة للعين مفتاح تحسين الرؤية    كيف تفرّق بين الصداع النصفي والسكتة الدماغية ؟    جوّي وجوّك!    السلطة الرابعة.. كفى عبثاً    الجبلين يقصي الاتفاق من كأس الملك بثلاثية    لا تكذب ولا تتجمّل!    «الاحتراق الوظيفي».. تحديات جديدة وحلول متخصصة..!    برعاية الملك.. تكريم الفائزين بجائزة سلطان بن عبدالعزيز العالمية للمياه    برازيلي يعض ثعبان أناكوندا لإنقاذ نفسه    جددت دعمها وتضامنها مع الوكالة.. المملكة تدين بشدة حظر الكنيست الإسرائيلي لأنشطة (الأونروا)    الأمير سلمان بن سلطان يطلع على جهود وبرامج مرور منطقة المدينة المنورة    لا إزالة لأحياء الفيصلية والربوة والرويس.. أمانة جدة تكشف ل«عكاظ» حقيقة إزالة العقارات    إعلاميون يطمئنون على كلكتاوي    آل باعبدالله وآل باجعفر يحتفلون بعقد قران أنس    أحمد الغامدي يشكر محمد جلال    مهرجان البحر الأحمر يكشف عن قائمة أفلام الدورة الرابعة    عندما تبتسم الجروح    السفير حفظي: المملكة تعزز التسامح والاعتدال عالميًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طغيان التجاذب السياسي يتغافل خطر العوامل التضخمية للسلسلة . سلسلة الرتب والرواتب في ميزان تعاظم الدين العام اللبناني وضعف الفائض الأولي
نشر في الحياة يوم 27 - 10 - 1998

سلسلة الرتب والرواتب التي كثر الحديث عنها في الفترة الأخيرة والتي أثارت جدلاً واسعاً على المستويات كافة، لا تمكن مناقشتها خارج اطار مجمل الأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية والسياسية التي تطبع لبنان بطابعها الخاص. ومن أهم المسائل التي تلقي بثقلها على الأوضاع اللبنانية مسألة الدين العام المتراكم الذي أصبح حجمه يوازي ضعف اجمالي الناتج الوطني ونصف الضعف. وهذا الدين جزء منه موروث عن سنوات الحرب حين كانت الحكومات المتعاقبة مضطرة للاستدانة، خصوصاً من الداخل لتمويل نفقاتها المتمثلة قبل كل شيء في دفع نفقاتها الجارية، ولا سيما أجور ورواتب موظفيها ومستخدميها.
والجزء الآخر والأساسي من الدين العام بدأ يتكون ويتراكم وينمو بسرعة مضطردة منذ عام 1992 في ظل الحكومات الحريرية المتعاقبة. ومن أهم الأسباب التي ساعدت على ذلك مشاريع الإنماء والاعمار الضخمة والطموحة التي تتطلب تمويلاً كبيراً قدّر في حينه، في حده الأدنى، بنحو 13 بليون دولار أميركي، مع احتمال وصوله، في حده الأقصى، إلى نحو 19 أو 20 بليون دولار تقريباً.
ولما كانت الخزينة فارغة ومصابة بعجز مزمن، والقاعدة الاقتصادية للبنان ضعيفة وغير قادرة على توفير مستوى مرتفع من الواردات يمكن أن يغطي نسبة مرضية من النفقات، لم يبق من مخرج غير الاستدانة لتمويل هذه النفقات وتحقيق المشاريع، وتمكين لبنان من القيام بدوره في منطقة الشرق الأوسط كمركز مالي واقتصادي وخدماتي مهم، لا سيما إذا ما تحقق السلام المنشود.
لكن نمو الدين العام وخدمته تركا آثاراً سلبية، ومضرة بالاقتصاد الوطني. ذلك أن الدولة برفعها معدلات الفائدة على سندات الخزينة الى مستويات عالية بهدف جذب السيولة، بالعملة اللبنانية، لدى الأفراد والمؤسسات والمصارف إلى الإستثمار في هذه السندات، حرمت القطاع الخاص بمختلف أنشطته من امكان الحصول على مصادر ضرورية لتمويل استثماراته وأعماله، ما شكل سبباً مهماً من أسباب الركود الاقتصادي الحاصل. وهذا القطاع بأمس الحاجة الى أموال ضخمة لإعادة بناء قواه الانتاجية التي دمرتها الحرب والانطلاق من جديد بزخم وفاعلية.
الى ذلك فإن النمو المطرد والسريع للدين العام وخدمته، لا بد في حال استمراره من أن يؤدي الى اضعاف الليرة اللبنانية وزعزعة الثقة بها نتيجة لضعف الثقة بالأوضاع المالية للدولة اللبنانية. ويؤدي كل ذلك، في نهاية الأمر، إلى افشال السياسة النقدية المتبعة في السنوات الأخيرة والرامية الى تحقيق استقرار الأوضاع النقدية، ومنها وضع العملة المحلية. وهذا استقرار يعول عليه الحكم كثيراً لتشجيع الاستثمارات الوطنية والأجنبية، وتحسين الأوضاع المالية للدولة اللبنانية وإنجاح مشروع الإنماء واعادة الإعمار بنتائجه المختلفة.
مشكلة تفاقم الدين العام
أكد الموقف الواقعي والعقلاني على ضرورة الحد من نمو الدين العام، خصوصاً الداخلي منه، وإيجاد آلية مناسبة لتسديده وتقليص حجمه مع مرور الوقت، واستبداله بالدين الخارجي الذي ما زالت نسبته ضعيفة، وتعتبر شروطه ملائمة، وينطبق ذلك في الوقت نفسه على أسعار الفوائد وفترات التسديد وغيرها.
توزيع الدين
نظراً لتعثر مسيرة السلام في الشرق الأوسط أصبح بالإمكان اعادة النظر ببرنامج الأولويات بالنسبة لخطة الانماء والاعمار، وتأجيل بعض المشاريع بما لا يضر بمجمل الخطة واطارها العام، والتركيز على بعض المشاريع الأكثر حيوية في الظروف الراهنة، ومن ضمنها مشاريع البنى التحتية التي ضربتها أو دمرتها الحرب وتوليها الحكومة، بحق، أهمية خاصة نظراً لدورها الحيوي والأساسي بالنسبة لمختلف النشاطات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها. كما أنه في مثل هذه الظروف المذكورة يصبح بالإمكان التباطؤ في مجال تنفيذ المشاريع الإعمارية، وذلك للحد من ضغط الحاجة الملحة والسريعة إلى موارد لتمويل النفقات المطلوبة.
وأمام تفاقم نسب المديونية العامة ووصول العجز في الموازنة الى حدود 23 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، والعجز الأولي الى 8 في المئة، ولأسباب لعل أهمها تباطؤ النمو، وارتفاع خدمة الدين العام الى مستوى غير متوقع، وتخطي النفقات الجارية الحدود المرسومة لها في الموازنة العامة، كان لا بد من سياسة جديدة عامة يقوم برسمها المسؤولون في الدولة متعاونين معاً لدرء المخاطر الناجمة عن ذلك وإيجاد الحلول المناسبة لتصحيح الخلل الحاصل.
وشكلت "الورقة الإصلاحية" التي صاغها هؤلاء المسؤولون بعد اتفاق في ما بينهم في 24 تشرين الثاني نوفمبر 1997، أساساً للسياسة الجديدة المذكورة. وهي مؤلفة من 28 بنداً، هدفها الأبرز تصحيح أوضاع المالية العامة للدولة اللبنانية. ومن أهم هذه البنود: العمل على تقليص حجم الدولة بدمج بعض الوزارات وبعض الإدارات العامة، وعلى الحد من هدر الأموال العامة، وتطهير الإدارة والخفض التدريجي لعدد موظفي الدولة.
كما تم اقرار فرض ضريبة نسبتها واحد في المئة على رقم الأعمال لخدمة قرض ببليوني دولار أميركي سوف يتم اللجوء اليه في اطار خطة اعادة هيكلة الدين العام باستبدال الدين الداخلي القصير الأجل ذي الكلفة المرتفعة بدين خارجي متوسط الأجل بأقل كلفة.
وفي الأجواء والمناخات المذكورة أقر مجلس النواب موازنة العام 1998. وهي تسجل عجزاً لا يتخطى عتبة 4،37 في المئة من مجمل النفقات وفي إمكانها أن تنتج فائضاً أولياً على الرغم من النمو الضعيف، وهذا الفائض غير كافٍ لامتصاص الدين العام بصورة دائمة، لكن تأثيراته الإيجابية لا لبس فيها. فهو يعتبر مؤشراً على بدء تراجع نسبة المديونية إلى اجمالي الناتج المحلي، وعلى الامكانية الفعلية لتصحيح أوضاع المالية العامة، وطمأنة المستثمرين وتشجيعهم.
ووضعت الحكومة نصب عينها نسبة قصوى لعجز الموازنة لتتقيد بها وحددتها بنحو 42 في المئة. وإذا كانت نتائج الإحصاءات الرسمية التي أعلنتها وزارة المال في لبنان مفاجئة وتدعو الى نوع من التفاؤل حتى الآن، إلا أنه تفاؤل يفترض الحذر واليقظة في الوقت نفسه. فالموازنة العامة، في النصف الأول من سنة 1998 حققت فائضاً أولياً، مقداره 348 بليون ليرة لبنانية مقابل عجز أولي بقيمة 329 بليوناً في الفترة نفسها من العام 1997. إلا أن هذا الفائض امتصته خدمة الدين العام التي زادت 25 بليون ليرة، وبلغت 1583 بليون ليرة في النصف الأول من 1998، مقابل 1558 بليوناً في الفترة نفسها من 1997.
وتفاؤل وزير المال السيد فؤاد السنيورة قائم قبل كل شيء على أن نسبة العجز في الموازنة العامة في النصف الأول من 1998 بلغت 35 في المئة، وهي دون المعدل الأقصى المحدد لهذا العجز بنحو 7 في المئة، في حين أن هذه النسبة في النصف الأول من 1997 تجاوزت حدود 51 في المئة.
وأمكن تحقيق ذلك من خلال عصر النفقات وزيادة الواردات في آن. فالنفقات تراجعت من 3684 الى 3528 بليون ليرة، أي 156 بليون ليرة، ما يشكل نسبة قدرها 24،4 في المئة. وباستثناء خدمة الدين البالغة 25 بليون ليرة، فإن التراجع في النفقات الجارية من 2126 بليون ليرة الى 1945 بليون ليرة، بلغت قيمته 181 بليون ليرة، وارتفعت نسبته الى 5،8 في المئة.
وازدادت الإيرادات العامة في النصف الأول من 1998 ما مقداره 496 بليون ليرة، ونسبته 6،27 في المئة. فوصلت إلى 2293 بليون ليرة، مقابل 1797 بليوناً في الفترة نفسها من 1997. وهذه الزيادة في الإيرادات شكلت تغطية للعجز الذي كان يحصل في النفقات الجارية، وسمحت بتكوين الفائض الأولي المذكور.
ويبدو أن هذا التحسن في نسبة عجز الموازنة ناتج عن مزيد من ضبط الانفاق، وتحسين مستوى الجباية، بنسبة 25 في المئة تقريباً مقارنة بالفترة نفسها من 1997، إلى ازدياد قيمة الإيرادات من جراء زيادة الرسوم على المعاملات العقارية والسيارات، ورفع معدلات الرسوم الجمركية بنسبة 2 في المئة على جميع السلع، وبنسبة 10 في المئة على التبغ ومشتقاته.
ولا يترك وزير المال مجالاً للشك حين يعلن بحماس وثقة أن خطة الحكومة ترمي الى خفض نسبة عجز الموازنة من 23 في المئة في 1997 الى 12 في المئة من اجمالي الناتج المحلي السنة الجارية، علماً أن الفائض الأولي المحقق في الموازنة تعتبر نسبته من اجمالي الناتج المحلي مرضية ومشجعة.
وانعكس الأداء الإيجابي للمالية العامة استمراراً في تباطؤ نمو الدين العام، إذ يلاحظ انخفاض نسبة نمو الدين العام الصافي خلال ستة أشهر من 03،15 في المئة عام 1997 الى 98،6 في المئة عام 1998. وبلغ مجموع الدين العام الصافي في نهاية حزيران يونيو الجاري، 4،2364 بليون ليرة، في حين نما الدين العام الداخلي الصافي بنسبة 14،18 في المئة ليبلغ في نهاية الشهر المذكور 6،18239 بليون ليرة. وبذلك تكون نسبة هذا الأخير الى مجموع الدين العام الصافي في نهاية الشهر نفسه قد بلغت 15،77 في المئة، علماً أنه كان لخفض أسعار الفوائد على سندات الخزينة، تماشياً مع السياسة المتبعة لاستبدال جزء من الدين الداخلي بدين خارجي، مفاعيل إيجابية يتوقع ان تؤدي إلى لجم كلفة خدمة الدين العام وأثره.
لكن التوقعات في شأن نسبة العجز، في النصف الثاني من السنة الجارية يصعب التنبؤ بها مسبقاً بصورة واقعية، لأن نسب العجز في الموازنة تختلف من شهر إلى آخر اختلافاً واضحاً. فهي تراوحت مثلاً بين فائض قدره 8 في المئة، في شباط فبراير، لتبلغ 51 في المئة في نيسان ابريل السنة الجارية. ويعود ذلك الى التقلبات الحادة التي تطرأ، شهرياً، على بابي النفقات والواردات.
ويخشى أن تكون وزارة المال قد لجأت الى تخفيض شكلي ومصطنع لنسبة العجز الحقيقي في الموازنة، بتأجيلها تسديد بعض التزاماتها تجاه الغير، ما ينعكس انخفاضاً في حجم النفقات. ومن هذه الالتزامات، مثلاً، تسديد حقوق المقاولين. ويلاحظ وجود نفقات ذات طابع موسمي تم احتسابها قبل الأوان من ضمن الواردات، ما أدى الى ازدياد هذه الأخيرة. كما أن التشجيع على تسديد ضريبة الدخل فعلياً ساعد على حصول تغييرات في حجم الواردات وتقلبها الموسمي.
والفائض المذكور والمعلن عنه في النفقات الجارية لا يستطيع فعلياً تغطية كل الحاجات، خصوصاً النفقات الاستثمارية وتمويل المشاريع المختلفة التي تعتمد أساساً على الدين العام الذي ازدادت خدمته بصورة ملموسة. ويعتقد مراقبون أن كلفة خدمة الدين سوف تصل في العام 1998 إلى 8،2 بليون دولار أميركي، وهي نسبة مرتفعة من حجم الانفاق. فيصبح نصيب كل أسرة لبنانية من هذه الكلفة نحو 4 آلاف دولار سنوياً، أي 333 دولاراً شهرياً على أساس أن عدد الأسر في لبنان يبلغ 700 ألف أسرة.
سلسلة الرتب والرواتب
والإصلاح الإداري
تضيف سلسلة الرتب والرواتب، التي أعدتها الحكومة وعدلت فيها اللجان النيابية، مشكلة جديدة بالنسبة إلى خزينة الدولة وموازنتها العامة، وتطرح سؤالاً وجيهاً عن إمكان تحقيق نسبة عجز في الموازنة مطابقة للحدود المرسومة لها.
فمن جهة لا يمكن إنكار ايجابيات مثل هذه السلسلة، فهي تؤدي الى تحسين مستوى دخل موظفي الدولة ومستخدميها، وتعزيز أوضاعهم في مجال عملهم، ودعم الطبقة الوسطى، إلى استفادة الدورة الاقتصادية من ازدياد القدرة الشرائية لمداخيل الموظفين والمستخدمين، وهم يشكلون أعداداً كبيرة يغص بهما الجهاز الإداري الضخم ومصالح الدولة المختلفة.
ولكن اقرار السلسلة هدر وإسراف إذا لم يُعمد إلى محاربة الفساد الإداري، وإحياء دور مؤسسات الرقابة وأجهزتها، ولم يقلص جهاز الموظفين والمستخدمين من غير المنتجين، ولم يجرِ إعداد خاص للموظفين والمستخدمين ليتلاءموا مع ما تتطلبه شروط العمل الإداري الحديث. ولا يكتمل عقد هذه الإجراءات إلا بتحديث العمل الإداري ومكننته ضمن مواصفات عصرية ومتطورة.
وربط اقرار سلسلة الرتب والرواتب بالإصلاح الإداري، ينطلق من ضرورة اخضاع نشاط القطاع العام لمبدأ الكلفة والمردود ولمبدأ الانتاجية المعتمدين في القطاع الخاص. وإذا لم تخضع زيادات الأجور والرواتب للمبدأين هذين فإنها حكماً، من الناحية الاقتصادية، من أبواب الهدر.
ومصدر أهمية هذه المسألة أن خدمة الدين العام وأجور ورواتب موظفي ومستخدمي القطاع العام تستهلك مجتمعة بين 75 و80 في المئة من الموازنة العامة. أما مساهمة الإدارات العامة في الناتج المحلي الإجمالي فلم تتعدَّ، في عامي 1994 و1995، نسبة قدرها 3،8 و4،7 في المئة على التوالي.
ولم تطبق الى اليوم الخطة التي وضعها المسؤولون في الدولة، العام الماضي، والرامية الى تخفيض عدد الوظائف في القطاع العام من 180 ألفاً إلى 60 ألف وظيفة. وهي عنصر أساسي من عناصر الإصلاح الإداري. والعقبة التي تواجه مثل هذه الخطة هي التركيبة السياسية القائمة على قاعدة المحاصصة. إذ يعمد المسؤولون في الدولة والنافذون فيها إلى توظيف الموالين لهم والانصار من غير اعتبار حاجة الإدارات العامة إليهم.
كلفة السلسلة ومصادر تمويلها
بلغت كلفة سلسلة الرتب والرواتب، بحسب مشروع الحكومة المحال على المجلس النيابي نحو 425 بليون ليرة تستطيع الحكومة توفير 300 بليون منها تقريباً. لكن اللجان النيابية ألزمت الحكومة بمفعول رجعي ابتداء من مطلع 1996. وتبلغ كلفته نحو 325 بليون ليرة، تضاف اليها 50 بليوناً للمتقاعدين، و35 بليوناً للمؤسسات العامة الإدارية. أي ان كلفة السلسلة السنوية بلغت، بعد تعديلات اللجان النيابية، 835 بليون ليرة، توفر الحكومة منها 40 في المئة فقط، ويبقى 60 في المئة يتوجب البحث عن مصادر مالية لها.
ومن الواضح أن التمويل يحتاج الى فرض ضرائب ورسوم جديدة لأن الحكومة مضطرة لمتابعة سياستها المالية القائمة على تخفيض نسبة العجز في الموازنة، خصوصاً بعد أن تدنت درجة تصنيف لبنان من حيث قدرته على الاستدانة لدى بعض وكالات التصنيف الدولية، وبعد ملاحظات جدية بهذا الشأن من المؤسسات المالية والنقدية الدولية والعربية وتأكيد هذه الأخيرة على أنها سوف تمتنع عن تقديم العروض الى لبنان إذا لم يتم تصحيح أوضاع المالية العامة للدولة اللبنانية.
ولعل تضخيم أرقام السلسلة، الذي لجأت اليه اللجان النيابية، وإلقاء تبعة ايجاد الموارد اللازمة لذلك على عاتق الحكومة وحدها، الهدف الأول منه احراج هذه الأخيرة على المستوى الشعبي. وهناك داخل المجلس النيابي وخارجه، اطراف كثيرة جاهزة، عند اقتراح الحكومة إعتماد ضرائب ورسوم جديدة لا بد منها، لاتهامها بأبشع التهم، وبالعداوة "للشعب".
لكن الحكومة أعلنت، بصوت رئيسها، عن رفض إقرار السلسلة من دون الاتفاق مسبقاً مع المجلس النيابي حول تحديد مصادر تمويلها. ورأت الى أن ذلك يعتبر مسؤولية عامة يجب أن تشترك فيها كل القوى السياسية الفاعلة، وهي ممثلة في الحكومة والبرلمان. وهذا الموقف رفضه المجلس النيابي لأنه يحمل الحكومة وحدها مسؤولية اقتراح مصادر التمويل، بينما يكون دور البرلمان في رفضها أو الموافقة عليها. وأخيراً جاء "الفرج" من الخارج، وبصوت نائب الرئيس السوري السيد عبدالحليم خدام، الذي قال إن بت السلسلة ومناقشتها مؤجلان الى العهد الجديد، أي الى ما بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، لأن الوضع اللبناني لا يحتمل خلافات ومنازعات داخلية تضر بالمصالح الإقليمية للراعي الأول للبنان!
والحكومة لا تستطيع تحمل أكلاف تمويل السلسلة من موارد الخزينة الحالية من دون رفع نسبة العجز في الموازنة والتي قد تبلغ 52 في المئة. ما يعني تجاوزاً واضحاً للحدود المرسومة للعجز مع ما يترتب عن ذلك من نتائج مضرة في مجالات عديدة. وفي هذا الإطار قد يكون من المفيد التذكير بأن على الحكومة أيضاً التزامات تجاه المتعهدين والمقاولين وتجاه المستشفيات وصندوق المهجرين، لا تستطيع التملص منها.
وتظهر الاحصاءات حجم الأعباء الفعلية التي يمكن أن تتحملها الخزينة العامة للدولة نتيجة للسلسلة. ففي موازنة 1998 تشكل النفقات الجارية على الأجور والرواتب وملحقاتها ما يقارب نسبة 36 في المئة من الإنفاق العام، أو 7،68 في المئة من الانفاق الجاري من دون الديون المستحقة. وبعد اضافة الزيادات المقترحة في السلسلة، وموارد مماثلة الى الواردات، تصبح نسبة الأجور والرواتب 8،73 في المئة من الانفاق السنة الجارية من دون الديون. وإذا لم تتوفر موارد مالية جديدة فإن هذه النسبة تصل الى 2،88 في المئة. وهي لا شك نسبة مرتفعة جداً وذات نتائج تضخيمية لا تحمد عقباها.
وأعباء السلسلة يتحملها أيضاً القطاع الخاص من طريق الضرائب والرسوم التي تفرضها الدولة لتغطية أكلافها، ومن طريق زيادات الأجور التي تسعى النقابات العمالية للمطالبة بها انصافاً عمال ومستخدمي القطاع الخاص، أسوة بالعاملين في القطاع العام. وإلى ذلك كله فإن الزيادات في الأجور والرواتب، في القطاعين العام والخاص، لا بد أن تؤدي الى ارتفاع الأسعار، وازدياد معدلات التضخم التي سوف تمتص كالعادة الزيادات المذكورة أو جزءاً منها.
وإذا كان لا بد من فرض ضرائب ورسوم جديدة، فيجب تحديد مجالاتها ونسبها بدقة وواقعية. والهاتف الخليوي في الوقت الراهن قد يشكل مصدراً محتملاً لتمويل السلسلة. وهو من المصادر التي يمكن أن يلتقي عندها كل من البرلمان والحكومة. ومن المعلوم في هذا الإطار أن الأرباح المهمة التي جنتها الشبكة الخليوية ساعدت على التخفيف من عجز الموازنة العامة.
وقد يعزز من مثل هذه الإمكانية النجاح بعقد اتفاق جديد بين وزارة الاتصالات السلكية واللاسلكية وبين شركتي "سيليس" و"ليبانسيل"، الخليويتين، لرفع حصة الدولة من 20 في المئة من مجمل الواردات المتعلقة بكافة عناصر التعرفة، إلى 25 أو 30 في المئة.
مع ذلك ليس من المتيسر ولا من المفيد الاستمرار في الاعتماد على سياسة رفع معدلات الضرائب والرسوم لتمويل النفقات الحكومية المستجدة كلما دعت الحاجة، خصوصاً في ظل الركود الاقتصادي. فالمعدل الوسطي للأجير الشهري للفرد لا يزيد عن 500 دولار. وهو دخل منخفض وغير قادر على تحمل المزيد من الضرائب والرسوم. والركود الاقتصادي بدوره يؤدي الى تخفيض مستوى الاستيراد فتفقد الدولة جزءاً من وارداتها الجمركية، إضافة إلى حرمانها من جزء من عائداتها العقارية التي تعتبر مورداً مهماً تغذي بها خزينتها وماليتها العامة.
ومن الخيارات الأخرى التي تسمح للدولة بزيادة مواردها، والتخفيف من أعبائها المالية، بيع أو تأجير أملاكها البحرية والنهرية والبلدية أو بعضها، وبيع المؤسسات والمصالح العامة الفاشلة، وتسييل الذهب أو رهنه. ذلك أنه من الأجدى فتح المجال أمام الاستثمارات الخاصة في الأملاك المذكورة، خصوصاً لتطوير القطاع السياحي وتحصيل موارد اضافية في هذا المجال، بدلاً من بقاء هذه الأملاك من دون استغلال. والأمر نفسه ينطبق على المؤسسات والمصالح العامة الفاشلة، حيث أن تلزيمها للقطاع الخاص يزيل عن كاهل الدولة أعباء غير مجدية، ويزيد من مواردها نتيجة للرسوم والضرائب المفروضة، ويؤدي الى تحسين انتاجية هذه المؤسسات والمصالح كماً ونوعاً. أما بالنسبة للاحتياطات الذهبية الرسمية فقيمتها تقدر في حدود أربعة بلايين دولار أميركي، ويحتفظ بها في الخزانة.
خلاصة القول إن نسبة العجز في الموازنة المحققة في النصف الأول من السنة الجارية ذات دلالات إيجابية وتصبح مهمة إذا ما نجحت الحكومة في الحفاظ عليها الى آخر السنة الجارية، علماً أن ذلك لا يعتبر كافياً لتثبيت مستوى المديونية العامة ودفع معدلات النمو الى الأمام. ومثل هذا الأمر لن يتحقق بواسطة ترسيخ الإنجاز المذكور، وتطويره من طريق الاستمرار في ترشيد الانفاق ووقف الهدر وتحسين الجباية، والحد من التهرب الضريبي، وذلك قبل اللجوء الى فرض ضرائب ورسوم جديدة، إضافة الى إصلاح القطاع العام، وتقليص حجم كلفته الكبيرة على الاقتصاد والمجتمع والقطاع الخاص. ومثل هذه النظرة الى الأمور تبنتها الخلوة الاقتصادية التي جمعت الهيئات والفاعليات الاقتصادية والحكومة، والورقة الإصلاحية التي صاغها الرؤساء الثلاثة معاً.
لكن فتح ملفات عديدة في الفترة الأخيرة لها علاقة مباشرة بعجز الموازنة، كملف تمويل عودة المهجرين، والمستحقات على الخزينة للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ومسألة التجارة بالمشتقات النفطية، والصندوق المستقل للبلديات، إضافة إلى توفير الأموال اللازمة لتغطية تكاليف سلسلة الرتب والرواتب لموظفي ومستخدمي القطاع العام، يتعارض مع النظرة المذكورة.
وقد لاحظ أمين عام جمعية مصارف لبنان، السيد مكرم صادر، إن المسألة الفعلية أشمل وأعمق من مسألة إيجاد موارد لتمويل نفقات مستجدة، فالمسألة هي بتثبيت الدين العام ويفترض التثبت ضغط النفقات العامة، وضبطها، وترشيدها للوصول الى فائض أولي يفوق بحجمه أربع أو خمس مرات حجم الفائض المحقق خلال النصف الأول من السنة الجارية. عندئذ فقط يصبح ممكناً خفض أعباء خدمة الدين، ثم أسعار الفوائد والأكلاف المرتفعة في الاقتصاد "فيتحفز عندها الاستمرار الفعلي في الأنشطة والقطاعات الاقتصادية الحقيقية، ويعود النمو الى اقتصادنا ليوجد مداخيل حقيقية في شكل أرباح وأجور لا في شكل تحويلات واعادة توزيع من خلال الانفاق العام، ويوجد فرص عمل مرتبطة بالإنتاج في القطاع الخاص لا من خلال تضخيم الإدارة والمؤسسات العامة".
* أستاذ اقتصاد في كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال - الجامعة اللبنانية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.