وبمرور الأيام يظهر نهج آخر من التأليف، لا يقلد كتاب العين ولا يؤلف معجماً مثله، بل يعمد الى الكتاب نفسه، فيلخصه، على أساس أن يقدم مادته مختصرة الى من يريدها، نظراً لتطور العصور وتغير أذواق الدارسين. وللعين مختصران مهمان جداً، أما أولهما فمختصر العين لأبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي ت 379ه، وأما ثانيهما فمختصر كتاب العين للخطيب الإسكافي ت 420ه. 1 - فأما المختصر الأول وهو مختصر الزبيدي فإن نسخته حديثة نسبياً، نقلت عن أصل ضائع، لذا لم تسلم من الأخطاء والأغلاط والتصحفيات التي سقطت في كتاب العين نفسه نظراً لرداءة نسخه التي هي حديثة أيضاً. ومن الطريف أن نذكر أن الزبيدي كان من الذين يشككون بنسبة العين الى الخليل، ولكنه، وبأمر من الحكم المستنصر بالله كتب هذا المختصر، وقد وضح خطته فيه بقوله: هذا كتاب أمر بجمعه وتأليفه أمير المؤمنين، الحكم المستنصر بالله... ذهبت فيه الى اختصار الكتاب المعروف بكتاب العين، المنسوب الى الخليل بن أحمد الفراهيدي، بأن تؤخذ عيونه، ويلخص لفظه، ويحذف حشوه، وتسقط فضول الكلام المتكررة فيه، لتقرب فائدته، ويسهل حفظه. ويبدو من كلامه أنه، على رغم قيامه باختصار العين، ما زال مشككاً به وناقداً له، ومعتقداً بخلله المنهجي وامتلائه بالحشو وما يجب اسقاطه من تكرار فضول الكلام. وليس هذا طريق من أعجب بكتاب فانصرف الى اختصاره، ولذا فإن عمله هذا لم يقدم فائدة تذكر لتقويم عبارات نسخ العين السيئة، ولا تقويم ما اعوج منها. وعلى رغم ادعاء الزبيدي بأنه سيخلص العين مما وصفه بالحشو وفضول الكلام، نجده كثيراً ما يورد عبارة الخليل بنصها، كما في مادة حوم حيث جاء فيها: الحوم: القطيع الضخم من الإبل. والحومة: مجتمع الماء في الحوض وغيره. وحومة القتال: معظمه. والحومان: نبات. والحومان: دومان الطائر إذا حام حول الشيء. والحوائم: الإبل العطاش تحوم. وهامة حائمة: أي عطشى. وهي عبارة الخليل في العين. وقد وقع هذا في كثير من مواد مختصر الزبيدي، حتى ليخيل لي أن مفهوم الاختصار عنده، يتمثل في تجريد الكتاب من شواهد القرآن الكريم والحديث الشريف وأقوال الشعراء، فحسب. وقد يكون مبعث هذا أن الزبيدي لم يجد في نفسه رغبة لعقد صلة مع كتاب العين، وإنما اختصره بناء على أمر صدر اليه. 2 - على أن ثمة مختصراً آخر على درجة عالية من الاتقان والنفع، ونعني به مختصر العين للخطيب الإسكافي. مخطوطة هذا الكتاب تقع في 490 لوحة، خطها قرآني قديم، وهي مكتوبة في سنة 383ه، أي أنها أقدم من نسخ مختصر الزبيدي بأكثر من خمسة قرون. ولذلك خلت في أكثر الأحوال من التنقيط، كما خلت معظم كلماتها من الحركات والشكل، وتشابهت بعض الحروف مع بعضها الآخر في الرسم، بحيث تحتاج قراءتها على الوجه الصحيح الى عناء كبير، ولكنه عناء نافع جداً. ويبدو من مقارنة مادة كتاب العين ومادة كتاب المختصر، أن مفهوم الاختصار لدى الخطيب الإسكافي ليس هو المفهوم الشائع والذي يعتمد على تلخيص مادة الكتاب الأصل، وإنما هو أقرب الى إثراء الكتاب، وتنقيحه من الزيادات التي أضيفت اليه خلال المدة الممتدة من أواسط القرن الثاني، تاريخ ظهور العين، الى أواخر القرن الرابع، تاريخ كتابة المختصر. توفي المؤلف في سنة 420، أو 421ه. ان كتاب العين، معجم من معجمات الألفاظ، والمعجم لا يمكن اختصاره بحذف بعض مواده، أو بحذف بعض الشروح فيه، لأن ذلك سيكون مسخاً للكتاب، حتى يعود قاصراً عن الاستجابة الأساسية لهدف تأليفه، وهو جمع مفردات اللغة وذكر معانيها، وتيسيرها لمن يحتاج اليها من الطلاب والعلماء، فلا يمكن الاختصار، إذن، إلا بحذف ما يمكن أن يستغني عنه أبناء العصر الذي يكتب المختصر لهم. وإذا عدنا الى طبائع طلبة العلم من أهل القرن الرابع، وبخاصة في مشرق الدولة آنذاك، لوجدنا أن الحاجة الأهم التي تدعوهم الى العودة للمعجم، أي معجم، تتمثل في أنهم لا يطلبون منه سوى توضيح معاني الألفاظ التي تصادفهم في مضطربهم الثقافي والعلمي. وهم، في الأغلب الأعم، سرعان ما يغلقون دفتي المعجم ما أن يحصلوا على بغيتهم منه... فلم يعد الوقت متسعاً، ولا ملائماً لاعادة البحث في توثيق لفظة أو استعمال لغوي بالعودة الى الشواهد المبرهنة على ذلك، فقد درج العلماء الرواة، ووضعوا الأصول الموثقة، فمن سمت همته الى التعرف على ذلك فأمامه التأليفات الأولى التي ظهرت في القرنين الثاني والثالث للهجرة. ولقد أدرك علماء القرون التالية، ابتداء منذ القرن الرابع هذه الحقيقة فجاءت كتبهم مطواعة لمواضعات عصورهم واحتياجاتها. فكتاب العين الذي وضع بحسب متطلبات القرن الثاني، أصبح من الضروري أن يبنى عليه عمل آخر يستجيب لمتطلبات القرن الرابع. ولم يكن أمام الخطيب الإسكافي من سبيل لتطويع كتاب العين إلا باختصاره اختصاراً غير مخل بمادته وهدفه، ولذلك عمد الى منهج ذي ثلاث شعب: * الشعبة الأولى: اخراج مسائل النحو والصرف: فمن المعلوم أن الخليل يعد الواضع الأول لعلوم اللغة العربية في جوانبها المتعددة، اللغوية، والنحوية، والصرفية، والبلاغية... ولذا تضمن العين أشياء لا تتصل مباشرة بموضوع المعجم كما فهمه أهل القرن الرابع، وإنما انفصلت، بعد عصر الخليل، واستقرت في ميادين متخصصة، كالنحو، والبيان، وفقه اللغة. وبقي المعجم مؤدياً وظيفة واحدة هي جمع الجذور اللغوية، وتوضيح معانيها، ومعاني ما يشتق منها من ألفاظ واستعمالات. لهذا فإن الخطيب الإسكافي، حينما أراد تلخيص العين استجاب لدواعي تغير النظرة الى مهمة المعجم ووظيفته فجرده من النحو والصرف وما لا دخل له في العمل المعجمي بحسب رأي أهل عصره. * الشعبة الثانية: حذف شواهد الشعر: حيث أن شواهد الشعر تفيد عادة توثيق معاني الألفاظ المعجمية، ومن أجل ذلك عني اللغويون الأوائل، وفي مقدمتهم الخليل بن أحمد بها. وبالطبع فإن مهمة المعجم في القرن الرابع قد تجاوزت التوثيق إلا إذا كان ثمة معنى جديد أو استعمال لغوي لم يعرفه المعجميون السابقون. ولما كان الخطيب الإسكافي لا يريد تقديم معانٍ جديدة ولا يهدف الى توثيق مادة كتاب العين، ونظراً لشكه في تصحيح نسبة كثير من ذلك الاستشهاد الى الخليل، فقد قام بحذف شواهد الشعر، تلك الشواهد التي نجدها في نسخ العين المتأخرة التي أشرنا إليها. والحقيقة أن في تلك النسخ، وفي المطبوع عنها من العين من الشواهد الشعرية الضعيفة والمفتعلة مما لا يصح حمل الاستشهاد بها على عالم جليل كالخليل بن أحمد، كقول القائل: أعوذ بالله وبالأمير من عامل الشرطة والأترور وقول الآخر: لمن زحلوقة زل بها العينان تنهل وقول الثالث: ليس للحاجات إلا من له وجه وقاح ولسان صارفي وغدو ورواح ان تكن أبطأت الحاجة عني واستراح فعلي الجهد فيها وعلى الله النجاح بل ان التكلف والتصنع واضحان في شواهد معزوة في نسخ العين لشعراء كبار، وهي مما لم يقتنع بصوابه العلماء فلم يذكروها في دواوينهم، كالأبيات المنسوبة في نسخ العين الى طرفة: ما كنت مجدوداً إذا غدوت وما رأيت مثلما لقيت لطائر ظل بنا يحوت ينصب في اللوح فما يفوت يكاد من رهبتنا يموت يرى الخطيب الإسكافي أن الخليل لأجل من أن يذكر هذه الشواهد، وأن الشعراء القدماء لأفصح من أن يقولوها، وقديماً اعترف ابن فارس: ... ولولا وجداننا ذلك في كتبهم، أي كتب المؤلفين الذين سبقوه، لكان الاعراض عنه أصوب. ومن اللافت للنظر أننا نجد في كتاب المختصر مجموعة قليلة من الشواهد، وهي شواهد فصيحة عالية، غير أنها ليست موجودة في نسخ العين. فهل يمكن القول أن تلك الشواهد هي التي ذكرها الخليل في كتابه، وأن الشواهد الأخرى تزايدت من رواة العين وناسخيه؟ ربما كان ذلك صواباً بملاحظة أن الخطيب الاسكافي لم يذكر حذفه لشواهد العين ضمن وصف خطته في المختصر. * الشعبة الثالثة: تركيز التركيب: لقد كان الخطيب الإسكافي، في اختصاره للعين، عالماً دقيقاً ومنظماً، فهو لم يقتسر الاختصار، كما لم يدخل على العين ما ينقص من قيمته، فقد نظر في أسلوب الكتاب، ودرس الجملة الخليلية، فرأى كلاً منها يتركب من ألفاظ أساس، ومن ألفاظ تكميلية ثانوية، فأثبت الأسس، وحذف الألفاظ الثانوية، فأصبحت لغة المعجم لغة مركزة، علمية، وربما كانت أكثر دلالة على المراد منها. إذ ان شوط الخليل كان واسعاً، فاتسع أمامه مجال التعبير، فأكثر من استخدام حروف التفسير، والألفاظ التي تمدد حجم العبارة. أما الخطيب، فقد كان يهدف الى وضع مختصر لتلك المادة، فرسم حدود حركته، منذ السطر الأول الى السطر الأخير من الكتاب، فأثبت أركان الجملة الخليلية، وأزال منها ما عده زخارف لا تتلاءم مع فكرة المختصر. وللمقارنة بين عبارة العين وعبارة مختصره، نذكر هنا أمثلة على ذلك: العين: يقال حورته تحويراً أي بيضته. المختصر: وحورته بيضته. العين: وحال الشيء يحول حؤولاً في معنيين، يكون تغييراً ويكون تحويلاً. المختصر: وحال حؤولاً تحول وتغير. العين: الطهطاه الفرس الفتي الرائع، قال سليم الرجع طهطاه قبوص وبلغنا في تفسير طه مجزومة أنه بالحبشية يا رجل. ومن قرأ طاها فهما حرفان من الهجاء. المختصر: الطهطاه الفرس الفتي الرائع. وطه ما... أي اطمئن. ونلاحظ في المختصر، أشياء نافعة مفيدة، وغير موجودة في العين، وربما كانت هي من أصل العين إلا أنها سقطت من نسخه المعروفة اليوم، ففي الجذر تيم من العين: تيم قبيلة. ثم تنتهي المادة. أما في المختصر فنقرأ: تيم قبيلة، وتيم الله عبدالله، والمتيم المستعبد عشقاً وتامت فؤادك استعبدته، وقيل ذهبت به. وهذه الزيادات التي نرجح أنها من أصل كتاب العين تمتاز بما يمتاز به المختصر من تركيز العبارة، والبعد عما يطيلها ويكثر ألفاظها كأدوات التفسير، والأوصاف التي قد لا تكون ضرورية في العمل المعجمي الهادف الى تقديم شرح مركز للألفاظ. * باحث وجامعي عراقي - لندن.