ما حدث في جيرة العراق بين سورية وتركيا من معالجة حكيمة لأزمة كادت تتفجر له بعد كردي على بغداد التنبه له سيما وهي على وشك دخول عتبة جديدة في علاقتها بالأممالمتحدة وبمحيطها اذا استفادت من فرصة المراجعة الشاملة التي قدم الأمين العام عناصرها الى مجلس الأمن. فالعراق يمكن ان يستفيد من الحوار العاقل بين سورية وتركيا كما من وساطة مصر وإيران بين الجارتين. وفي استطاعة بغداد ان تحبط القرار الاميركي ببقاء العقوبات على العراق اذا تبنت استراتيجية التماسك والمثابرة والوعي لمفاتيح قيّمة في استثمار مدروس شرط ان تدرك ان مردوده لن يكون فورياً. فالتصعيد والتشنج اداة تفقد مفعولها اذا تحولت الى نمط. والعراق يستفيد اكثر لو تحررت استراتيجيته من "عقدة النصر". وبما ان الديبلوماسية العراقية انجزت كثيراً هذه السنة لأنها تصرفت بواقعية سياسية رفيعة المستوى، في امكانها حصاد النتائج اذا تنبهت للمطبات، وطوّرت الفرص المواتية، وتجنبت التهور والانزلاق في معارك جانبية. قد يقال ان اسلوب التصعيد لفرض موضوع العقوبات على الطاولة نجح ولولاه لم تكن اتفاقية شباط فبراير التي وقعها الأمين العام كوفي انان مع نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز وشكلت قفزة نوعية لصالح العراق في علاقته بالأممالمتحدة. هذا صحيح. صحيح ايضاً ان بغداد نجحت في ابراز الثقوب في اعمال اللجنة الخاصة المكلفة بازالة الاسلحة العراقية المحظورة اونسكوم التي يترأسها السفير الاسترالي السابق ريتشارد بتلر، وذلك في تحديها منهج اللجنة الخاصة باجراءات التصعيد والتشنج. لكن هذا لا يعني صحة النظرية الداعية الى المزيد من التحدي والتصلب والمواجهة واستدراج ضربة عسكرية اميركية بحجة ان هذه هي الوسيلة الوحيدة الى الخلاص من الحصار والعقوبات. ظاهرياً، يبدو منطقياً ان يقوم العراق باستدراج ادارة بيل كلينتون لتوريطها في ضربة عسكرية مراهناً على عدم قدرتها على البقاء في المستنقع العراقي في اجواء اقليمية معادية لمثل هذه السياسة وفي خضم فضائح ومحاكمات على الساحة المحلية الاميركية واقعياً، هذا لن يأتي برفع العقوبات، ووجع الضربة سيكون في جسد العراق. الولاياتالمتحدة مصرّة على استمرار العقوبات على العراق لمعاقبة النظام، وهي ليست في وارد فك الاحتواء عن العراق عبر رفع الحظر النفطي الذي يتطلب اصدار لجنة اونسكوم صك نظافة السجل العراقي من السلاح المحظور. لذلك يقول البعض ان لا فائدة ولا جدوى من استمرار التعاون العراقي مع لجنة اونسكوم طالما ان القرار الاميركي حاسم في منع رفع الحظر النفطي. هؤلاء هم اصحاب نظرية "طفح الكيل"، ولم يعد لدى العراق ما يخسره اكثر مما خسره وما يعاني منه اكثر من معاناته، وبالتالي ان "تفجير" الامور افضل من استمرار الوضع الراهن. مقابل هذه النظرية توجد نظرية معاكسة تماماً تقوم على ان القيادة في العراق تريد تماماً استمرار الوضع الراهن على ما هو عليه: استمرار النظام والعقوبات ويشرح القائلون بهذه النظرية ان القيادة العراقية متمكنة من السيطرة على العراق تحت العقوبات اكثر مما ستكون قادرة على ذلك القدر من السيطرة في غياب العقوبات. وعليه، يعتقد اصحاب هذه النظرية ان بغداد تتعمد خفي المعلومات ثم الكشف عنها امام اللجنة الخاصة لتعجيز اونسكوم عن تقديم تقرير يشهد بنظافة سجل العراق من اسلحة الدمار الشامل وامكانيات احيائها. القاسم المشترك بين النظريتين هو افتراض بقاء العقوبات، اما بقرار اميركي او بقرار عراقي، كل لاغراضه المتنافية تماماً مع اغراض الطرف الآخر. وهناك من يجمع بين النظريتين ليقول ان قرار استمرار الوضع الراهن، بالنظام والعقوبات هو قرار اميركي - عراقي مشترك توافق بعض دول المنطقة ضمناً عليه وتقبله دول اخرى كأمر واقع لا يد ولا حيلة لها فيه. اذا كانت القيادة العراقية غاضبة من مثل هذه النظريات لأنها حقاً تضع هدف رفع العقوبات اولوية في استراتيجيتها، امامها فرصة تشابه تلك التي امّنها اتفاق شباط فبراير تعزز النقلة النوعية في علاقتها بالأممالمتحدة وتضعها على طريق رفع الحظر النفطي - وان كان الطريق طويلاً. اولى محطات مثل هذه الاولوية تتمثل في المضي بنمط التعاون مع اللجنة الخاصة وفرق التفتيش التابعة لها، وتعليق اسلوب التصعيد والتشنج مع اللجنة الخاصة ومع ريتشارد بتلر بالذات. التشنج كان مفيداً كأداة ويجب ان يكون وسيلة وليس هدفاً بحد ذاته. فمن الضروري ان تتجنب بغداد الافراط في محاولات تقنين عدائها مع اونسكوم في شخص ريتشارد بتلر، كما ضروري لها ان تتفادى الظهور وكأنها في معركة مع شخصية الرجل غير المحبوب على اي حال. فهذا ليس شأنها، وأفضل ما يمكنها القيام به هو اهمال شخصية الرئيس التنفيذي للجنة اونسكوم. فلا مصلحة لبغداد على الاطلاق في خوض معركة تشنج مع ريتشارد بتلر، اقله، ليس لأن التحاور معه افضل لقضيتها، وانما لأن مثل هذه المعركة تسبب الاحراج لاطراف ضرورية للعراق بينها الأمين العام والدول المتعاطفة مع العراق في مجلس الأمن. كوفي انان يلعب دوراً في ملف العراق لأكثر من سبب لكنه لا ينطلق من "تضامن" مع القيادة العراقية ولا من "عداء" مع اونسكوم وبتلر، وهو ليس مطالباً بذلك ويجب الا يُطلَب منه مثل هذا التوجه. انه يعمل على اسس رئيسية واعية وغير متهورة تتضمن التالي: اولاً، استثماره الشخصي في ملف العراق الذي حقق له، بحق، سمعة رجل السلام الذي تمكن من تفادي مواجهة عسكرية بين الولاياتالمتحدةوالعراق. ثانياً، الحفاظ على سمعة وهيبة الأممالمتحدة عبر حمايتها من صيت التحامل او انطباع الخضوع لأوامر دولة حتى وان كانت الولاياتالمتحدة. وثالثاً، البناء على قدرته على قراءة السياسة الاميركية والتحرك ضمن الخطوط الحمر وتوظيف النوافذ التي تفتحها بعقلانية وشجاعة. ما على بغداد تجنبه هو المساهمة في تحويله الى "كبش فداء" في معادلات أميركية داخلية، وما عليها الحرص عليه هو مده بالذخيرة اللازمة لرهانه علىها. التشنج والتصعيد من طرف العراق كنمط يضعف كوفي انان ويضعف طروحاته المفيدة للعراق والتي جاءت في عناصر المراجعة الشاملة التي اقترحها على مجلس الأمن. فهو لأول مرة اقترح على المجلس ان يضع "برنامجاً زمنياً معقولاً" لرفع الحظر النفطي بناء على الفقرة 22 من القرار 687 التي ربطت حصراً بين رفع الحظر النفطي وبين تنفيذ العراق متطلبات اونسكوم كاملاً. وهذه اول مرة يطالب بها الأمين العام لجنة اونسكوم ان تثبت ان بغداد لا تزال تمتلك الاسلحة المحظورة، وأن تتقدم باثباتات حول ما تتهم العراق بامتلاكه او اخفائه، وان تعرض كافة الانجازات التي تحققت في كل من ملفات الاسلحة المحظورة. طرح كوفي انان على مجلس الأمن سؤالاً طالبه بالاجابة عليه وهو هل "لا يزال العراق يشكل تهديداً عسكرياً للمنطقة". هذه ليست عناصر هامشية بسيطة وانما تدق في عصب ذلك الضوء في نهاية النفق بصورة عضوية جذرية. وعناصر المراجعة الشاملة هذه من شأنها ان تجعل المواقف الاميركية، بدءاً بالمعارضة للاغلاق التدريجي لملفات السلاح المحظور، اكثر صعوبة. فالمراجعة الشاملة مكسب للعراق على بغداد ان تدرك ان هناك ثمناً مقابلاً عليها ان تسدده. فاذا كان الثمن في صيغة لانقاذ ماء الوجه فهو ليس بثمن كبير لأن المردود فعلاً اهم بكثير من تراجع العراق عن قرار وقف التعاون مع فرق التفتيش الذي اتخذه في 5 آب اغسطس. ودور الأمين العام بحد ذاته مكسب على بغداد الحرص عليه بتواضع وموضوعية. وإذا كان لهذا الدور ثمن، ويُفترض ان يكون هناك ثمن، فان من مصلحة القيادة العراقية ان تدفعه لأن انسحاب الأمين العام من العملية يعني اعادة الملف العراقي الى مواجهة مع مجلس الأمن حيث للولايات المتحدة نفوذ و"فيتو" يتعدى التصويت العلني. ففي داخل مجلس الأمن تبدأ المقايضات التي تتعدى ملف العراق. وإذا كانت بغداد تعتقد ان صداقاتها مع فرنسا وروسيا والصين تجعل هذه الدول على اهبة الاستعداد لدعم العراق اوتوماتيكياً، فان معادلات المصالح ليست ثابتة في زمن التقلبات الاقتصادية والسياسية التي تحدث عالمياً. فالدور الاميركي على الصعيد الثنائي مع كل من هذه الدول يشكل عنصراً رئيسياً في مواقفها من الملف العراقي في مجلس الأمن. فالازمة في كوسوفو اولوية سياسية لأوروبا وروسيا والاقتصاد الروسي في حاجة لحسن نية اميركية. والصين تضع واشنطن قبل بغداد في حساباتها العملية وهي تحتفظ بمواقفها التقليدية. فالعواصم الثلاث في حاجة الى واشنطن، وواشنطن تدرك تماماً ان لديها هامشاً مريحاً للضغوط على العواصم هذه، اذا برزت الحاجة. انما المهم ايضاً ان هذه العواصم، وتحديداً موسكو وباريس، ليست في وارد التسامح مع بغداد اذا كان الهدف العراقي التحايل على عملية نزع السلاح. ان هدف العاصمتين يتطابق مع هدف العاصمة الاميركية لجهة تجريد العراق من الاسلحة المحظورة. وكلاهما حريص جداً على تجنب العداء والاستهتار نحو اونسكوم على رغم انهما يتحفظان على اسلوبها ويعملان على المزيد من التدقيق في اعمالها وفرض الشفافية عليها. التصعيد من طرف العراق يضعف فرنسا وروسيا والصين وليس فقط الأمين العام. واذا اتفقت هذه الاطراف على هدف تحجيم اونسكوم، فانها متفقة ايضاً على ضرورة الامتناع عن الظهور وكأنها كتلة متضامنة مع العراق ضد اللجنة الخاصة. ومما قد يساعد العراق في هذا المنعطف الى جانب الحفاظ على المواقف الفرنسية والروسية والصينية في مجلس الأمن، هو العمل الدؤوب على الاستفادة من مؤشرات ايجابية في الموقف البريطاني الذي يبدو في هذه الفترة اكثر مرونة وأكثر انفتاحاً على صيغ توفيقية. كذلك، ان مصلحة العراق تقتضي الاستفادة الكاملة من صيغة النفط للغذاء والدواء التي اطلقها القرار 986 سيما وان تقارير الأمين العام اكدت على ضرورة اصلاح الانابيب. وبما ان العراق غير قادر على ضخ اكثر من 3.5 بليون دولار من النفط كل 6 اشهر، يمكن له استكمال تصدير مبلغ 5.2 بليون التي وافق عليها مجلس الأمن لفترة الستة اشهر التي تنتهي في اواخر تشرين الثاني نوفمبر، اثناء الأشهر القليلة المقبلة حتى نهاية السنة، مثلاً، بدلاً من الخوض في معركة رفض او قبول مرحلة خامسة. فهناك فرصة للاستفادة من الفترة الزمنية للوصول الى السقف المسموح به ولاصلاح الانابيب. فلو تم رفع الحظر النفطي اليوم، لن يتمكن العراق من تصدير نفطه لأنه غير قادر على ذلك. وبالتالي، اين المانع من الاستفادة من فترة الانتظار كي يتم التجهيز الضروري لرفع كمية النفط. فاذا احسنت بغداد قراءة الاوضاع السياسية لاستنتجت ان اميركا ليست ضعيفة لدرجة الاستبعاد الكلي للخيار العسكري ضد العراق. فخيار القوة العسكرية مطروح جدياً، وقد يكون نجاح واشنطن في اعادة اقلاع عملية السلام للشرق الأوسط، فلسطينياً على الأقل، استثماراً مهماً في هدف تحييد المعارضة الاقليمية لموقف حاسم نحو العراق. وإذا ارادت بغداد الاستفادة من التطورات على الساحة التركية - السورية اول ما عليها تجنبه هو استقبال زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجلان وجماعته. فليكن اوجلان مشكلة لغير العراق ومن مصلحة بغداد الا تلعب الورقة الكردية الآن كي لا يتم فرز المسألة الكردية على حساب العراق وكي لا تنقذ واشنطن من الاحراج في صدد هذه المسألة. الافضل لبغداد تشجيع عقلانية الحوار بين دمشق وأنقرة، بمساهمة من القاهرة وطهران. فما يحدث يدخل في خانة "سياسة القوى"، وقد حدث يوماً وأحسنت بغداد لعب هذه السياسة، لكن خطاها تعثرت بارتكابها اكبر الاخطاء. ولربما تجد اليوم فرصة للملمة نفسها، اقله رأفة بالعراق.