تلميح السلطة الفلسطينية بالكفاح المسلح لمقاومة الاحتلال او إحياء الانتفاضة في حال انهيار عملية السلام كلام لا يؤخذ على محمل الجد اسرائيلياً او اميركياً، دولياً او عربياً، وحتى فلسطينياً. والسبب الرئيسي هو ان التعايش بين السلطة والانتفاضة غير وارد كأمر واقع، وان السلطة عملياً رادع اساسي للانتفاضة، وان قيام الانتفاضة مجدداً او اللجوء الى الكفاح المسلح يتنافى مع قواعد وجود السلطة وينفي صلاحياتها ومنطق وجودها كسلطة/ دولة. وعليه، امام التعجيز المدروس للسلطة الفلسطينية من طرف الحكومة الاسرائيلية وطموحها بالقضاء على السلطة والانتفاضة في آن، وأمام وضوح الاكتفاء الاميركي باحتواء الضرر والمضي بعملية السلام فقط في هذا المنعطف، ان السلطة الفلسطينية مطالبة باتخاذ اجراءات جذرية لتحصين البنية التحتية الفلسطينية عبر تعزيز صيغة "مؤسساتية" ديموقراطية للتجربة الفلسطينية على كل المستويات. عبر ذلك فقط قد يكون في الامكان احباط اكثر من هدف اسرائيلي خصوصاً هدف استنزاف السلطة بتقليص مهماتها للقضاء على اي نوع من انواع المقاومة. وزير الصناعة والتجارة الاسرائيلي، ناتان شارانسكي، كتب قبل أيام في صحيفة "وول ستريت جورنال" شارحاً عناصر "الافتراضات" الواردة في عملية اوسلو المرفوضة لدى الحكومة الاسرائيلية الحالية. تحدث عن سذاجة رئيس الوزراء السابق شمعون بيريز في افتراضه ان "قفزة ايمان" تحقق شرق اوسط جديداً بينما هي في رأيه قفزة الى "الفوضى". تحدث باسهاب عن بدعة "التبادلية" لفرض امتثال الطرف الفلسطيني للمقابل لأي خطوة اسرائيلية. انما الملفت هو ما قاله عن افتراض آخر في اوسلو يتعلق بدور الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات زعم انه يلاقي اعتراض الحكومة الاسرائيلية. فقد كتب شارانسكي "ان مهندسي اوسلو جندوا ياسر عرفات كوكيل لاسرائيل في الحرب ضد الارهاب... ليس فقط ليقوم بالمهمة نيابة عنا، حسب ذلك التبرير والمنطق، وإنما لأن بوسعه القيام بالمهمة افضل منا". واستشهد شارانسكي بما جاء على لسان رئيس الوزراء السابق اسحق رابين بأن عرفات ليس مقيداً بمحكمة عليا ولا بتنظيمات حقوق انسان ولا بمعارضة الليبراليين، ولاحظ ان "الطبيعة اللاديموقراطية لنظام السيد عرفات، بدلاً من اعتبارها عرقلة امام مستقبل السلام، اعتُبِرت مصدر قوة في الحرب ضد الارهاب، واستطراداً في عملية اوسلو نفسها". وتحدى شارانسكي هذا المنطق وقال: "ليس هناك ما يعزز أمن اسرائيل اكثر من حكم الفلسطينيين لأنفسهم بموجب مبادئ الديموقراطية وحكم القانون والصحافة الحرة". قد يكون كلام شارانسكي صادقاً، او "لغاية في نفس يعقوب"، الا ان له طعم البدعة. على رغم ذلك، فإن قيام مؤسسات ديموقراطية فلسطينية هو في مصلحة الفلسطينيين اولاً بغض النظر ان افرزت عن تعزيز امن اسرائيل وبمعزل عن انتقاد وزير اسرائيلي لاعتبار "الطبيعة اللاديموقراطية لنظام السيد عرفات" مصدر قوة في الحرب ضد الارهاب. قد يكون في كلام شارانسكي عبرة في موضوعي الديموقراطية والتعاطي مع "الارهاب"، اعتماداً على تعريفه. فإصرار الحكومة الاسرائيلية على مسؤولية السلطة الفلسطينية "الأمنية" ليس محصوراً في اتخاذ اجراءات ضد العناصر الارهابية وإنما هدفه قيام السلطة بنسف البنية التحتية للمقاومة وشلّ اية عناصر ومرافق وبؤر لاحيائها. واسرائيل ليست خاسرة في اي حال، ان قضت السلطة على المقاومة، او ان ادت المواجهة الى حرب اهلية فلسطينية، او اذا استمر الوضع الراهن على ما هو عليه. فالدولة شبه دولة. والمقاومة شبه مقاومة. والانتفاضة شبه انتفاضة. والسلطة شبه سلطة طالما الحكومة الاسرائيلية تتبنى نحوها سياسة التعجيز والاحباط والاستفزاز، وتربط اياديها فيما تفرض الامر الواقع على الأرض بمستوطنات وتتفادى تنفيذ الانسحابات وإعادة انتشار القوات الاسرائيلية في الضفة الغربية. لذلك، فإن تمتين الوضع الفلسطيني ينطلق ليس من واشنطن ولا من مواقف اسرائيل وإنما من العمق الفلسطيني. وهذا يتطلب نقلة نوعية في نظرة السلطة الفلسطينية الى ذاتها والى دورها والى وسائل تحقيق الطموحات الفلسطينية. توجد حاجة ماسة لاستبدال نمط الاعتباطية ببناء ركيزة متماسكة لقيام المؤسسات الضرورية لحماية العملية الديموقراطية ومحاربة الفساد وتوسيع قاعدة المصالحة بين فلسطينيي الاحتلال وفلسطينيي الدياسبورا، داخل وخارج فلسطين. فتشجيع الاحزاب المعارضة مفيد للسلطة طالما المعارضة ليست تخريبية. ومساهمة الاحزاب في السلطة يفكك الانطباع بالهيمنة ويقوّي السلطة على الصعيد الشعبي بدلاً من ترك فرصة لنمو انطباع بأن السلطة تدمّر البنية التحتية للمقاومة. في امكان الرئيس عرفات ايضاً اخراج التجربة الفلسطينية من خانة الفرد وضمان مرحلة انتقالية سلمية متماسكة وديموقراطية للرئيس الفلسطيني الذي يتبعه. بهذا يوسّع عرفات قاعدة المشاركة في الحكم، وينقل التجربة الفلسطينية الى المؤسساتية، ويساهم في اختيار النوعية الفلسطينية التي يثق بحكمتها وقدرتها على تنفيذ طموحاته بعده. لعل تعيين نائب رئيس السلطة الفلسطينية اجراء مفيد جداً في هذا الاطار. ومثل هذا التعيين لا يستبق العملية الانتخابية الضرورية ولا يزايد عليها بل انه يدعم المؤسساتية الديموقراطية. وقائمة الافراد المؤهلين لمثل هذا المنصب متوفرة اذ ان الكفاءات الفلسطينية متوافرة. فعلى سبيل المثال، وليس الحصر، فإن تعيين شخصية مثل السيدة حنان عشراوي في منصب نائب رئيس من شأنه ان يأتي بفوائد كثيرة ليس أقلها التقدير العالمي الذي تتمتع به والقدرة الفائقة في طرح شرعية وعدالة القضية الفلسطينية وفي تحدي الاملاء الاسرائيلي وكشف زيف مزاعمه. مثل هذا التعيين يكون "ضربة معلم" تحقق اهدافاً ضرورية. فتوطيد الداخل الفلسطيني وتعزيزه اليوم انفع بكثير من الانخراط في مناورات وبدع رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو. وزيارته هذا الاسبوع الى واشنطن اثبتت ان اولوية هذا الرجل تقبع في انتصارات سياسية، وألاعيب العلاقات العامة، واستفزاز الرئيس الاميركي المقيد باعتبارات انتخابية وحزبية وبفضائح متتالية. من يحاكم نتانياهو مسؤولية الاسرائيليين والجالية اليهودية - الاميركية. فالادارة الاميركية لن تحاكمه ولن تضغط عليه جدياً وتتمنى لو يكف عن استدراجها لأنها مكتفية بمجرد عدم انهيار عملية السلام واحتواء تعرضها لضرر خطير. اليهود الاميركيون منقسمون في شأن دور الادارة الاميركية نحو نتانياهو كما في شأن "التحالف" الذي يهذبه مع الاصولية المسيحية المتطرفة في الولاياتالمتحدة. لكن هذا الانقسام لم يؤد الى حملة منظمة لدى اعضاء الكونغرس الاعمى في انحيازه لاسرائيل، بغض النظر ان كان رئيس وزرائها يضرب مصلحة اسرائيل او مصالح الولاياتالمتحدة في المنطقة. الحوار بين السلطة الفلسطينية والتنظيمات اليهودية الاميركية مفيد حتى وإن لم يسفر عن نتائج فورية. كذلك اختراق الكونغرس حتى وإن كان بمعظمه منحازاً. واستمرار العلاقة مع الادارة الاميركية ضروري شرط الا تقع السلطة الفلسطينية فريسة "انقاذ" عملية السلام من مخالب نتانياهو، فأميركا ليست بريئة. والسلطة الفلسطينية ليست مدرّبة بعد على الحنكة الاميركية وهي تمارس البراءة و"الغلابة"، ولا على اسلوب اميركا في معادلة "خذ وطالب". لذلك، فإن الأولوية يجب ان تكون لترتيب البيت الفلسطيني من دون انقطاع عن الاستثمار السياسي في الولاياتالمتحدة وأوروبا، ومع استئناف الاستثمار في الدول التي سبق وأثبتت تعاطفها مع الفلسطينيين، وبضرورة الاخذ في الحساب اهمية العمق العربي للمسألة الفلسطينية. فالمسيرة الى السلام طويلة. والوقت ملائم للعودة الى رسم الخرائط بما يتعاطى مع واقع اليوم الصعب وليس مع احلام امس المريحة.