تحذيرات من استخدام الذكاء الاصطناعي في كشف الكذب    المتشددون يطالبون باقتحام رفح.. وذوو الأسرى: أعيدوا أبناءنا أو نحرق إسرائيل    مناورات نووية روسية رداً على «تهديدات» غربية    بالهاتريك السادس.. رونالدو يطرق أبواب التاريخ في الدوري السعودي    وصافة الخلود في اختبار هجر.. الفيصلي للتعويض بجدة    المسافر راح.. وانطفى ضي الحروف    "البحر الأحمر السينمائي" مشاركًا في "أفلام السعودية"    «سعود الطبية» تقلص فترات علاج زراعات الأسنان    اجتماع سعودي-بريطاني يبحث "دور الدبلوماسية الإنسانية في تقديم المساعدات"    بايدن يحذّر نتانياهو مجددا من أي اجتياح لرفح    سعود بن بندر يرعى حفل تخرج كلية المجتمع بالدمام    رؤية 2030.. والاقتصاد السعودي    الشورى: سلامة البيانات الشخصية تتطلب إجراءات صارمة    النائب العام يلتقي عدداً من قيادات السلطات القضائية والدستورية في البحرين    "آل هادي" إلى رتبة "لواء" ب"الشؤون القانونية للجوازات"    انخفاض أرباح شركات التكرير الأميركية مع اضطرابات المصافي الروسية    القيادة تعزي رئيس مجلس السيادة الانتقالي بجمهورية السودان في وفاة ابنه    اتحاد تسع جهات حكومية لحماية طلاب مكة سلوكياً وفكرياً    «مهرجان الحريد».. فرحة أهالي فرسان    لاعب النصر على رادار بلباو    23 يونيو موعدا لإيقاف Google Podcasts    تطوير للطرق والمحاور بالخبر    أوامر الاحتلال بإخلاء رفح تؤكد قرب الغزو البري    انطلاق تمرين «الغضب العارم 24» بين القوات المسلحة السعودية ومشاة البحرية الأمريكية    القبض على مقيم بمكة المكرمة لترويجه مادة الميثامفيتامين المخدر    أمير منطقة تبوك يستقبل أمين مجلس منطقة جازان ويشيد بدور المرأة في دفع عجلة التنمية    السعودية تحذر من مخاطر استهداف الاحتلال لرفح وتهجير سكان غزة    100 ميدالية بالأولمبياد الخاص    برنامج "مساعد طبيب أسنان" منتهٍ بالتوظيف    7 غيابات في كلاسيكو الأهلي والهلال    أمير الرياض يرعى حفل تخريج الدفعة ال68 لطلاب جامعة الإمام.. غداً    أمير الجوف يعزي في وفاة معرّف أهالي قرية إثرة بمحافظة القريات    سمو محافظ الخرج يكرم متدربي كلية التقنية بالمحافظه لحصولهم على جائزة المركز الأول في مسابقة الروبوت والذكاء الاصطناعي    "البيئة": 54 بحثًا للابتكار وتنمية المجتمعات الريفية    تقديم الاختبارات النهائية بمدارس مكة    نائب وزير الخارجية يستقبل وزير الدولة البريطاني للتنمية وأفريقيا    خطط وبرامج لتطوير المساجد في الشرقية    إعلان نتائج أرامكو غدا.. ترقب من سوق الأسهم وتوصيات المحللين    مخبأة في حاوية بطاطس.. إحباط تهريب أكثر من 27 كيلوغراماً من الكوكايين بميناء جدة الإسلامي    هيئة الأمر بالمعروف بنجران تفعّل حملة "الدين يسر" التوعوية    وحدة الأمن الفكري بالرئاسة العامة لهيئة "الأمر بالمعروف" تنفذ لقاءً علمياً    هيئة فنون العمارة تحتفي ب"يوم التصميم العالمي" بالخبر    تقديم الإختبارات النهائية للفصل الدراسي الثالث بمنطقة مكة المكرمة.    مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يُنظم مؤتمرًا دوليًا في كوريا الجنوبية حول "تحديات وآفاق تعليم اللغة العربية وآدابها"    في نقد التدين والمتدين: التدين الحقيقي    550 نباتاً تخلق بيئة نموذجية ب"محمية الملك"    "المرويّة العربية".. مؤتمر يُعيد حضارة العرب للواجهة    أمطار ورياح مثيرة للأتربة على عدد من المناطق    السعودية.. الجُرأة السياسية    اللذيذ: سددنا ديون الأندية ودعمناها بالنجوم    سمو ولي العهد يهنئ ملك مملكة هولندا بذكرى يوم التحرير في بلاده    المجرشي يودع حياة العزوبية    تدخل عاجل ينقذ حياة سيدة تعرضت لحادث مروري    100 مليون ريال لمشروعات صيانة وتشغيل «1332» مسجداً وجامعاً    فيصل بن مشعل: يشيد بالمنجزات الطبية في القصيم    الدور الحضاري    افتتح المؤتمر الدولي.. الراجحي: المملكة عززت منظومة السلامة والصحة المهنية    إستشارية: الساعة البيولوجية تتعطَّل بعد الولادة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بونابرت "الملحد"... كيف احترم الإسلام ؟
نشر في الحياة يوم 20 - 01 - 1998

كتب الرحالة الفرنسي فولني VOLNEY العام 1788، وهو يتحدث عن احتمالات غزو فرنسا لمصر، "إن فتحها سيستدعي خوضنا ثلاث حروب: الأولى ضد انكلترا، والثانية ضد الباب العالي، والثالثة وهي أصعبها ضد المسلمين الذين يشكلون غالبية السكان فيها". وربما كانت هذه الجملة هي التي دفعت نابليون إلى أن يكتب في ما بعد "يرى الكُتّاب السياسيون من خيرة الدارسين لطبيعة الشعب المصري أن الدين سيكون العقبة الرئيسية في سبيل توطيد الفرنسيين لسلطانهم في مصر".
والواقع الذي لا مراءَ فيه أنه ما من مستعمر أوروبي لأقطار إسلامية قد واجه الإسلام بمثل ما واجهه نابليون به من سماحة وتعاطف واحترام وبُعد عن التعصب المذهبي أو الرغبة في التبشير. كان قد درس الإسلام وقرأ القرآن قبل أن يخرج في حملته، شديد الإعجاب بمحمد القائد والسياسي، وهو إعجاب تزايد أثناء إقامته في مصر، واستمر بعد تركه إياها. وتعتبر الصفحات المدونة عن أقواله وأحاديثه في منفاه الأخير بجزيرة سانت هيلانة وبعضها من إملائه من أكثر ما كتب باللغات الأوروبية تعاطفاً مع الإسلام ونبيه وكتابه المقدس.
كان أهم هدف له في مصر أن يكسب ثقة الشعب، وثقة قادة الرأي العام فيها من العلماء والمشايخ. وإذ كان يدرك في وضوح أن اختلاف الدين هو العقبة الكبرى في سبيل كسب الثقة، فقد ظل يعلن ويكرر منذ منشوره الأول إلى أهل مصر أنه وجيشه يحترمان الإسلام والمسلمين. وكان واضحا أن بونابرت الملحد كان مخلصاً في اعتقاده بأن الإسلام أنسب من المسيحية لاحتياجات النظام الاجتماعي، حيث أنه لا يشجع الصراع بين العالم المادي والعالم الروحي. وقد أبلغ الشيخ المسيري العام 1798 أنه ينوي إقامة الحكومة على مبادئ القرآن "التي هي وحدها المبادئ الحقة القادرة على إسعاد الناس".
وكان حكيما إذ أدرك "أنك كلما جعلت الدين، أو حتى الخرافة، يصطرع مع الحرية، فإن النصر سُيعقد دائما للدين على الحرية في عقل الشعب"، وأن "علينا أن نهدهد التعصب حتى ينام قبل أن نستطيع اقتلاعه". فأما الشعب المصري "فإن الأفكار الدينية كانت على الدوام مسيطرة عليه في شتى العصور. وعندما جعل الإسكندر الأكبر كاهنة معبد آمون تستقبله بوصفه ابن جوبيتر، كان على وعي تام بعقلية هؤلاء الناس، فحقق بعمله هذا من حيث تثبيت دعائم فتحه للبلاد أكثر مما كان يحققه لو أنه بنى عشرين حصنا، وعزز جيشه بمئة ألف من المقاتلين المقدونيين". وإذ كان الإسكندر قدوته معظم الوقت، كان عليه أن يحل الأزهر محل معبد آمون رع.
فهو إذن لم يهدف إلى القضاء على الإسلام، على الأقل قبل أن "يهدهد التعصب". وقد أرسل إلى قائده جاك مينو، الذي كان على الدوام أشد القواد الفرنسيين في مصر تحمسا لقضية الاندماج، يهنئه على "تضحيته في سبيل القضية الوطنية بإشهاره إسلامه واختتانه وزواجه من امرأة مصرية هي ابنة صاحب حمّام في رشيد". ولم يكن مينو مخلصاً في إسلامه، بدليل ارتداده عنه إلى المسيحية بعد عودته إلى فرنسا. أما عن زواجه فالظاهر أنه لم يكن "تضحية" رغم أنه هو نفسه وصفه بأنه "إجراء يخدم الصالح العالم"، فقد ظل يكنّ المودة لزبيدة، وصحبها معه إلى أوروبا، وأفلح في إقناعها بالتحول إلى المسيحية. وعندما سئل في مصر بعيد زواجه عما إذا كان ينوي أن "يُتحف زوجه برفيقات لها جرياً على عادة البلاد" أجاب: "إن زوجتي حسنة الصورة من جميع الوجوه. فلها عينان رائعتان، ولون بشرتها هو اللون المصري المزلوف، وشعرها طويل فاحم. وهي لطيفة الطبع وقد وجدتها تتقبل الكثير من العادات الفرنسية بنفور أقل مما توقعت. وأنا لم ألح عليها بعد أن تخرج سافرة على الرجال، فهذا يأتي شيئاً فشيئاً"...
أما بونابرت نفسه فلم يستطع أن يتخذ الخطوة الحاسمة فيعتنق وعموم جيشه الإسلام، مع علمه بأن تسمية الفرنسيين بالكفرة ساهمت في إثارة القلاقل. وعلى رغم أن إلحالده وإلحاد معظم أفراد الجيش كان من شأنهما أن يهونا من أمر الإقدام على هذه الخطوة، غير أنه لم يأل جهدا في سبيل إقناع المشايخ والشعب بأنه مسلم بقلبه، معلناً أنه ليس مسيحيا وأن جنوده ليسوا مسيحيين، ومستدلا على ذلك بأن الفرنسيين سجنوا البابا وأغلقوا الكنائس في بلادهم. وهو يحاول أن يقنع المشايخ بأن الرسول خصه برعايته، وإلا فكيف أتيحت له هزيمة المماليك الشجعان؟ إن هذه الثورة العظمى قد تنبأ بها القرآن في آيات عدة.
ولا بد أنه هو الذي أوحى إلى علماء الأزهر بعد عودته من حملته الفاشلة على الشام بأن يصدروا بيانا يذكرون فيه أن بونابرت "يحب المسلمين ويعز الرسول، ويهذب نفسه بقراءة القرآن كل يوم، ويريد بناء مسجد لا نظير له في بهائه وفخامته، ويود اعتناق الإسلام". وهو يمعن في حيله البهلوانية التي أخفقت في التأثير في مشايخ الديوان، فيرتدي العمامة والملابس التركية يستقبلهم بها. يقول أحد ضباطه: "كان يبدو مضحكاً في عمامته وقفطانه، وقد غلب عليه الارتباك والخجل في هذا الرداء الذي لم يألفه وقفطانه، فبارح الحجرة ليخلعه، ولم تحدثه نفسه بعدها بالعودة إلى هذه المسخرة".
غير أنه لا هو أسلم ولا أفلح في إقناع المشايخ الدهاة بإخلاصه، على رغم أنه كان يقول إن الشيخ السادات والشيخ البكري اعتبراه مسلماً فعلا. والواقع أن كلا من الطرفين تظاهر بأن صاحبه استغفله. كان المشايخ يدارونه وينخدعون له. إن شكا إليهم من المواعظ العدائية التي يلقيها الأئمة في المساجد في صلاة الجمعة، تظاهروا بتوجيه الإنذار إلى هؤلاء الأئمة، ولاموهم لوماً واضح الفتور، ضعيف الأثر. وإن هو طلب إلى الأزهر أن يصدر فتوى تأمر الناس بحلف يمين الطاعة له، نصحه الشيخ الشرقاوي بأن يؤجل ذلك حتى يعتنق الإسلام وينضوي العرب حينئذ تحت لوائه. ويردّ بونابرت بأن الختان عقبة دون إسلامه هو وجيشه، فيُفتون بأن الختان نافلة، وأنه ليس ضرورة لمن يعتنق الإسلام. ويشير هو إلى صعوبة امتناع الفرنسيين عن شرب الخمر، فيفتون بأن بوسع الفرنسيين أن يشربوها ويدخلوا الجنة متى كفّروا عن هذا الإثم بالتصدق بخمس دخلهم بدلا من العُشر المألوف.
ومع ذلك فإنه يبدو من بعض الكتابات عن الحملة الفرنسية أن الكثيرين من المصريين قدّروا في بونابرت احترامه لدينهم ومشاعرهم الإسلامية. يقول كلوت بك في كتابه "لمحة عامة إلى مصر"، وهو يتحدث عن المصريين في عصر محمد علي، إنه كثيرا ما سمع المصريين يذكرون بونابرت أو أبو نبرت كما كانوا يسمونه بعبارات الحماس والإعجاب. ومن حديث أحدهم إلىه: "لم يكن أبو نبرت عدوا للمسلمين، إذ كان باستطاعته لو أراد أن يقلب جميع المساجد بسن الإبرة، ولكنه لم يفعل ذلك. وقد أكدوا لنا أنه في ساعة موته على صخرة البحر الكبير التي تمكّن إثنا عشر ملكا من ملوك النصارى من إرساله إليها وتكبيله بالأغلال فيها بعد أن سقوه شرابا منوما، رأى الجنود الذين اجتمعوا حول سريره روحَه وقد وقفت على حد السيف. فليسترح في أمان وسلام"!
غير أنه من المؤكد أن غالبية الشعب المصري فرحت فرحا كبيرا بخروج الفرنسيين "الكفرة" من مصر وعودة الأتراك والمماليك "المسلمين" في الأيام الأولى على الأقل، يقول الجبرتي: "وفرح الناس كعادتهم بالقادمين، وظنوا فيهم الخير، وصاروا يسلّمون عليهم ويباركون لقدومهم ويقولون: سنة مباركة ويوم سعيد بذهاب الكلاب الكفرة. وأما همج الناس من أهل مصر فإنهم استولى عليهم سلطان الغفلة، ونظروا للفرنسيس بعين الاحتقار، وتطاولوا عليهم بالسب واللعن والسخرية، حتى إن فقهاء المكاتب كانوا يجمعون الأطفال ويمشون بهم فرقا وهم يقولون كلاما مقفى بأعلى أصواتهم بلعن النصارى".
كان بوسع الفرنسيين أن يتظاهروا ما شاءوا باحترام الإسلام، غير أنهم كانوا جميعا في نظر المسلمين كفارا. أما المماليك والعثمانيون فمسلمون، قد يعتصرون أرزاقهم ويسومونهم سوء العذاب... غير انهم إخوة لهم في الدين. بيد أن الظاهر أن السنوات الثلاث التي قضاها الفرنسيون في مصر كانت قد أنست المصريين فظائع العهد الماضي. وسرعان ما أعاد إليهم جند الأتراك ذاكرتهم فقد تعرضوا على الفور لإيذاء عسكر العثمانيين، وخطفهم ما يجدونه معهم "حتى تمنوا زوالهم ورجوع الفرنسيس على حالتهم التي كانوا عليها". ويمضي الجبرتي فيقول: "وتسلط عسكر العثمانية على الناس بالضرب، وأخرجوهم من مساكنهم فإن اشتكى أحدهم قالوا له: ألا تفسحون لإخوانكم المجاهدين الذين حاربوا عنكم وأنقذوكم من الكفار؟ حتى تمنى أكثر الناس، وخصوصا الفلاحين، أحكام الفرنساوية".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.