قبل ان نقول كان الهمس عالياً والصراخ هامساً جداً، وكنا نعاني من خلل عصبي مزمن في طبلة الأذن فلم ننتبه الى دق الأطفال والنساء ورجال تحت الشمس والزمهرير على جدران الصهريج. اي اننا ببساطة لا نسمع! قبل ان نقول كانت العتمة ساطعة والضوء معتماً خافتاً، وكنا نعاني من تراكوما داكنة وقصر نظر مزمن، يعود الى أبعد من تاريخ قصة زرقاء اليمامة مع تحرك الشجر، فلم نميز الأشباح من المشاجب ولا الثعابين من التواءات السياسة. أي اننا بسذاجة لا نرى! قبل ان لا نستطيع ان نقول "اننا لا نتكلم" لأن صدمة المفاجأة وصاعقة الفاجعة ستكون قد عقدت السنتنا وأعطت فصاحتنا العربية المشهودة لمحطة ال CCN وال BBC، وغيرها من الوكالات الناطقة بغير الضاد… باختصار مخل ضروري، عندما تسول لكاتب مسؤولية الكتابة او "فانتازيتها" التسلل كلص صغير الى هشيم يحرسه الساسة والعسكر والمصالح الغربية والصمت العربي لينبش قليلاً من الأسئلة، يمكن ان نقول: قبل ان نفاجأ بتحول الوضع في الجزائر الى وضع اشكالي، مطبق، خانق، عربياً واسلامياً، وبحصار دولي جديد على الأرجح، فلا يعود وضع الجزائر وضعاً جزائرياً جنائزياً وحسب، بل يصبح وضعاً لا يقل اشكالية وتعقيداً على نفسه وعلى سواه عن وضع العراق. أرى انه لا بد من محاولة طرح بعض الأسئلة وإن كانت محدودة على وضع الجزائر الغامض غير المحددة فيه أطراف من يكون القاتل ومن المقتول، من الجاني ومن المجني عليه، ومن الخاسر الأول والأخير ومن الرابح الوحيد. هذا الوضع الجزائري المفتوح اليوم على احتمالات لا تحمد عقباها، لا على الضالعين فيه ولا على من وجدوا انفسهم متورطين به ولا على المزجوجين داخله، وكذلك لا على المتفرج او المتعامي. ومن دون ادعاءات عروبية لم يعد يتسع لها الأفق العربي القطري الضيق الذي صار يحتك بالهامات ويجرح عظام الجمجمة كلما مرت بالخاطر أي من الأحلام القديمة برفع القامة أعلى قليلاً من انحناءات أحدب نوتردام الشهيرة، فإن مطلب طرح الأسئلة لا يأتي رحمة بشعب الجزائر الذي يعيش اليوم ولأكثر من خمسة أعوام في أجواء عنفية متصاعدة لا تذكر إلا بأفران الغاز النازية ولا تشبه الا مستنقع الخمير الحمر في كمبوديا. كذلك فإن طلب الاستيضاح عما يجري اليوم في الجزائر اليوم والمطالبة بالبحث جدياً في أبعاده العربية والدولية المحتملة، لا يأتي ايضاً في سياق الحنين لملحمة حركة تحريره الوطني التي تربى عليها لحم اكتاف الشباب العربي وقتها من الخليج الى المحيط. فمثل هذه المشاعر الانسانية والوطنية لم يعد لها أي وزن او قيمة في ميزان الحسابات السياسي القائم الآن، غير اثارة مشاعر الحساسية التعصبية لمزيد من الانغلاق. فأضيفت بذلك حتى مشاعر تعاطف الشارع العربي تعاطفاً انسانياً خالصاً مع وضع انساني مأسوي الى كل من قائمة محرمات الأحلام وقائمة سخرية القدر السياسي في المنطقة. إذن، وبمحاولة للحيادية لا تقل عن حيادية عالم الأحياء الذي قطع أطراف الضفدع طرفاً طرفاً ليبرهن ان الضفدع إذا قطعت أطرافه الأربع لا يمتثل للأوامر بالتحرك، يمكن ان نكبح مشاعر السخط من الوضع الجنوني الجاري بالجزائر او مشاعر التعاطف مع او ضد، ونشرع في طرح بعض الأسئلة المشرعة على الوضع الجزائري الذي لا نشك انه وضع وصل حداً من الپ"غابوية" وشرعة الغاب بما تأباه كل الشرائع السماوية والقوانين البشرية والأعراف. فما هي حقيقة الصراع في الجزائر؟ ومن هي أطراف هذا الصراع؟ ولماذا هذا الصراع؟ وهل هناك هدف، انّى تسامى، يبرر الوسائل الوحشية التي يجري بها حل هذا الصراع او بالأحرى تصعيده؟ وهل فعلاً ان الوضع في الجزائر مجرد شأن داخلي لا يعني أحداً غير الأطراف المتصارعة، هذا إذا كانت هي تعرف من تكون، وماذا تريد، ولماذا تتصارع… ام سنفاجأ مرة أخرى بأننا احتضنا بيضة الثعبان في وكر صمتنا، ووفرنا لها المناخ المناسب لتفرخ لنا مصائب من نوع جديد ليس لميزان قوانا العربي الاجتماعي والسياسي الداخلي والخارجي قبل بالتعامل مع نتائجها المقبلة؟ وهل هناك مطالب وطنية محددة يجري الاحتراب من أجلها في الجزائر؟ وبالتالي يمكن التفاوض عليها لايقاف حمامات الدم اليومية؟ لقد نجحت ضراوة المذابح وتلاحق الأحداث الأمنية المروعة على أرض الجزائر اليوم في صرف نظر واهتمام معظم المثقفين العرب وغير العرب، وكذلك علماء الاجتماع والاقتصاد ومنظري العلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي عن كل تلك الطروحات الاستقرائية والبحثية التي كان قد بدأ التفكير بها وطرحها. مع بوادر الأزمة في الجزائر أثّرت الاحداث المتسارعة في محاولة تحليل المسألة الجزائرية، وحولتها الى ملاحقة اخبارية لاهثة تعجز حتى الآن عن تغطية اعداد جثث الضحايا الأبرياء في القرى والأرياف والأحياء الخلفية، ناهيك عن اجتراح أي محاولة علمية او سياسية لتحليل ما يحدث. فذهبت أدراج الرياح، او أدراج الحرب الأهلية التي تعصف بفضاء الجزائر المسدود اليوم، تلك الأوراق التي كانت تحاول تناول "أزمة الجزائر" مطلع التسعينات بطرح اسئلة تحاول ان تربط ربطاً تحليلياً منطقياً الأزمة الجزائرية بالخريطة السوسيولوجية للمجتمع الجزائري، بتشكله السياسي ما بعد الاستقلال، بمساره الاقتصادي في ظل ثلاثين عاماً من اجلاء الاستعمار الفرنسي، وبالتكوينات الفكرية والثقافية للأجيال الجزائرية الجديدة في تطلعها للمستقبل. وكان أهمها اسئلة شباب الجزائر، كقوى اجتماعية صاعدة لها مطالب جيلها وتصوراته، خصوصاً في ما يتعلق بتلك الفجوة التي عكسها تفجر الأزمة. وبدت حينها فجوة بين الفكر السياسي لجيل التحرير وبين الأجيال التالية التي بدا انها تتوق - وكان ذلك من حقها - الى ان تضع حداً للوصاية الفكرية والاقتصادية والسياسية التي مارستها عليها النخبة الحاكمة من جيل التحرير، لتتولى هذه الأجيال الجديدة بنفسها امر تقرير خيارات جديدة من صنعها سواء بالنسبة لحل اشكاليتها الاقتصادية التي كانت تجعل قطاعاً عريضاً من اولئك الشباب عرضة للبطالة والمعيشة على حافة الفقر، او بالنسبة لايجاد دور فاعل لها في القرار السياسي لوضع حد لسنوات التهميش والاقصاء. اذن، فإن تلاحق مسلسل الأحداث المرعب في الجزائر لم يؤثر فقط في المسألة الجزائرية في بعدها السوسيولوجي والسياسي الداخلي، بل اثر في المسار الابستمولوجي ايضاً في تناول المسألة، وحوّلها من مسألة فكرية اجتماعية الى مسألة وحيدة الجانب، هي مسألة "الصراع السلطوي" المحض بين مؤسسة حكم لم تكن على ما يبدو تريد من اتاحة العملية الديموقراطية غير تثبيت شرعيتها في الداخل واثبات جدارتها للخارج وتجميل ما جعده الزمن من ملامحها وطروحاتها خصوصاً في أواسط جيل الشباب، وبين معارضة لم تتدرب أصلاً على أصول المعارضة وقواعدها وقوانينها، وربما كانت لا ترى في العملية الديموقراطية أكثر من وسيلة مواتية للوصول الى السلطة ومن ثم احتكارها. وهكذا شكلت المواجهة في انتخابات 91/92 بين الحكومة وبين "جبهة الانقاذ الاسلامي" الممثلة لخط الاسلام السياسي والرئيسي في حركة المعارضة الجزائرية عامة بتكويناتها الحزبية المختلفة والممتدة من اليمين الى اليسار، الشرارة الأولى لبداية اندلاع شرارة العنف في الشارع الجزائري. وإذ قيل الكثير حينها، وفي ما بعد من جانب المؤيدين والمعارضين لأحد الطرفين، كما من قبل الشرارة الشريرة لهذه الحرب الأهلية البشعة، كالقول بعجز جبهة الانقاذ عن ادارة حوار سلمي ولجوئها الى التصعيد العسكري، او القول بلاشرعية حكم انقض على انتخابات شرعية ولجأ الى مبادلة العنف بعنف مؤسسي مضاد أعنف… الى آخره من الذرائع التي سيقت لتبرير انفجار الصراع، فإن الذي ظل شبه مسكوت عنه هو الكيفية التي حوّلت الصراع من صراع سياسي كان يمكن ان يكون محدوداً ومحلولاً، بين قوتين محددتين، مؤسسة الحكم وجبهة الانقاذ على وجه التحديد، الى صراع مسلح مرير ومروع على أوسع نطاق في المجتمع يحصد من الأبرياء اضعافاً مضاعفة مما يحصد من أفراد الأطراف المتنازعة نفسها. وفي هذا الصدد يمكن ان يكون لطرح بعض الأسئلة جانب ايجابي إن لم يوصلنا الى اجابة شافية فإنه لا يتركنا مجرد متفرجين سذج على حافة هاوية لا بد ان اتساعها سيتسبب في صدع عميق وشروخ متعددة تؤثر في موقع اقدامنا في أماكن غير معبدة لا جغرافياً ولا اجتماعياً عن محيطها الفاغر. وفي ما يأتي نطرح بضعة اسئلة على غير تسلسل محدد، ونترك للقارئ حرية ترتيبها حسب رؤيته للأولويات في ايجاد منطق لمجريات صراع دموي يعد خروجاً على أي منطق. ومن هذه الأسئلة: - هل طرح حل سياسي واحد منذ انفجار الأزمة بداية التسعينات الى ذروة الصراع الجزائري - الجزائري على مشارف نهاية العقد، يوحي بالجدية والعزم لإقامة حوار سلمي حول المسألة الجزائرية، غير تلك الوعود التي اعتبرها بعض المراقبين عن قرب للوضع الجزائري مجرد مناورات سياسية لاسترداد الأنفاس استعداداً لتبادل جولات عنفية جديدة؟! - إذا كان حقاً ان التحفظ على الخطاب السياسي المتطرف لجبهة الانقاذ، والتخوف من عدم التزامها بالتداول الديموقراطي للسلطة بعد فوزها بها هو الذي أدى الى تعطيل العمل بنتائج انتخابات 91، فلماذا ولو من باب ذر الرماد في العيون لم تعط أي من أحزاب المعارضة الأخرى القائمة فرصة لمشاركة سياسية اوسع، ولماذا لم يُعمل على خلق مناخ سياسي سليم يسمح بتطور قوى شبابية سياسية جديدة مستقلة لا تمشي في سياق اطروحة التطرف ولكنها لا تتنازل عن حقها ودورها في المشاركة السياسية والاجتماعية. - ما الذي همش ويهمش دور التشكيلات الحزبية المعارضة المختلفة والقوى الوطنية المستقلة في ايجاد حل سلمي لصراع الجزائر، وفي أخذ مشاركتها السياسية في السلطة مأخذاً جدياً، وذلك ليس ابتداءً من الموقف التهميشي الذي عكسته ردة الفعل الرسمي على اجتماع مجموعة العقد الوطني بروما. كما انه ليس انتهاء بكيفية التعامل مع الاحتجاجات على عدم نزاهة عملية الاقتراع التي جاءت من المعارضة نفسها التي قبلت المشاركة في الانتخابات المحلية لمجالس الولايات والبلديات الأخيرة الشهر الماضي. - هل كان موقف الأطراف الدولية الغربية ذات العلاقة المباشرة بالجزائر سيكون مختلفاً لو كان الطرف المقابل في الصراع عند بداية تفجر الأزمة 91 يحمل خطاباً ليس ذا صبغة "اسلامية سياسية"، وأقل تصادماً مع ذلك الغرب…؟ وهل كان الصراع سيترك ليتطور من صراع سياسي الى صراع مسلح لا يلبث ان يتحول الى ما يشبه ابادة جماعية تؤكدها الاعلانات المتأخرة بين حين وآخر عن العثور على مقابر جماعية في الآبار والبساتين لجثث متحللة؟ - ما هو دور المعارضة ومعارضة الاسلام السياسي بالذات ومتمثلة في جبهة الانقاذ الاسلامي على وجه التحديد في اعطاء فرصة ذهبية لاذكاء الصراع بالجزائر وتحوله الى مذابح يومية، يوم أبتدأت بملاحقة الصحافيين والكتاب وغيرهم لمجرد الخلاف في الرأي، وفيما انتهت بالمقابر الجماعية التي يبدو انها تفتح فمها لالتهام الجميع بدون استثناء وبدون تمييز بين أصحاب الرأي الواحد والرأي المختلف؟ - ما الذي كسبه ويكسبه الاسلام، هذا الدين السماوي السمح الذي يفترض ان جميع المسلمين يدينون به دون وسيط او وصاية، عند خلط الأوراق وممارسة أقصى درجات العنف على مجتمع اسلامي باسم الاسلام الى الدرجة التي تكاد تلحق كلمة عنف بلفظ الاسلام في كل نشرة أخبار يومية؟ - ألا تغلق أجواء الصراع الدامي على أرض الجزائر اليوم أي بارقة في وجه الأمل بتطور قوى وطنية مستنيرة من أجيال الجزائر الجديدة لا تفرط في هوية حضارتها العربية الاسلامية ولكنها لا تنغلق على نفسها ولا تتخذ من العنف بديلاً للحوار السياسي، ولا تتعالى على التعدد الثقافي والفكري والسياسي ضمن لحمة المجتمع الواحد؟ و… أخيراً، - ما الذي حول الخلاف السياسي في الجزائر، الذي كان من المفروض ألا يتعدى في أقصى درجاته شكل اختلاف سياسي سلمي على السلطة ويمكن البحث في حلول له او على الأقل يمكن تضييق نطاقه فلا تلحق اضراره بغير الأطراف المعنية به، وقلبه الى صراع اجتماعي مفتوح غير محدد الهوية او الهدف ينال من جميع أبناء شعب الجزائر من الأطفال والشيوخ الى الرجال والنساء، ومن قاع القرى الى أسواق المدن. وإذا أخدنا في الاعتبار عند طرح هذا السؤال الصبغة الاجتماعية والايديولوجية لمجتمع الجزائر والتي تؤكد الرأي الذي نرجح، القائل: ان تركيبة المجتمع الجزائري ليست تركيبة تقوم على تغاير مذهبي كما في العراق مثلاً، ولا على تجاور ديني - ديني كالبوسنة، ولا على انقسام قبلي مثل رواندا ولا على تمايز عرقي كجنوب افريقيا سابقاً، بل ان العكس هو الصحيح في مجتمع الجزائر من خلال استمرار وصمود اللحمة الاجتماعية العميقة في أحلك الظروف التي قامت تاريخياً بين الامازيغ والعرب حول وحدة الدين والتمازج الثقافي والقومي في أفق وطني مشترك… - وإذا اضفنا الى كل ذلك الاختلاف الجوهري بين صيغة الصراعات السلطوية العنيفة التي قامت في الستينات ونحوها في بعض مجتمعات أميركا اللاتينية وافريقيا وآسيا، وكانت لا تخلو من تجريب ايديولوجي مغاير للتركيبة السياسية والايديولوجية لتلك المجتمعات من قبل قوى المعارضة فيها، فإن السؤال الأكثر ارباكاً هو كيف يمكن ان يُفهم في صراع الجزائر اليوم، ذلك الخطاب المتطرف القائل بأسلمة مجتمع هو أصلاً وفصلاً مجتمع اسلامي؟! علماً بأنه لم يعد أحد يعلم إلا الله وحده علام الغيوب من الذي يستخدم هذا الشعار العنفي اليوم في الجزائر ولصالح من، وضد من…؟ فالكل، على رغم تلطخ الأيدي الخفية من أخمص الأصابع او المخالب الى رمانة الكتف يحاول ان يتبرأ من قميص عثمان ويدعي البراءة من دمه. هذا بالطبع باستثناء تلك البيانات "الدراكولية" العاوية عواء الذئاب في غابة "الدم… الدم… الهدم… الهدم" التي تدعي مسؤوليتها "الجماعات الاسلامية المسلحة". فهل صحيح ان "الجماعة الاسلامية المسلحة" مجرد فصيل اسلامي معارض خرج من رحم العنف الذي ابتدى عام 91، أكثر عنفاً ويحاول الآن ان يسحب البساط من تحت أقدام مؤسسة الحكم في الجزائر والمعارضة معاً، وخصوصاً المعارضة المتمثلة بجبهة الانقاذ. او انه لا بد فيها من قراءة السيناريوات الأخرى التي تكتب بشك شديد عن طبيعة دورها في صراع الجزائر الانتحاري. هذا مع توجيه الاهتمام بتلك الأسئلة المثيرة المثارة حول هويتها ووظيفتها. ومنها سؤال يقول: من هي هذه الجماعة الاسلامية، ما هو فكرها، لو وجد، ما هو خطابها السياسي، هل لها مطالب وطنية، من يقف وراءها ولماذا؟.. مثل هذه الأسئلة حول هوية وماهية وأهداف من يعلنون مسؤوليتهم عن عنف الجزائر، بدأت تطالعنا بإلحاح هذه الأيام بمبادرة من صحف وكتاب غربيين، كعادتنا في انتظار مبادراتهم، وهي اسئلة تطرح من بعض قطاعات الاعلام الغربي ضمن اطار مطالبة أعمّ تلتقي مع دعوة كوفي انان، الأمين العام للأمم المتحدة، للجزائر في فحواها بأن العنف والصراع المسلح والذبح الوحشي في الجزائر لم تعد مسألة داخلية وانما مأساة انسانية كارثية تستدعي المعالجة. وهذه المطالبة تتطلب على وجه التحديد تشكيل لجان قانونية وصحافية واجراء تحقيقات علنية، والسماح للهيئات الدولية المحايدة وللصحافيين والكتاب المستقلين النزهاء بالاطلاع على حقيقة الصراع في الجزائر وما يجري من مذابح يومية فظيعة، خصوصاً وأن ارتكاب المجازر اليومية المقشعرة بينما لا يكاد يطال تلك المنتجعات والتجمعات السكانية ذات الصبغة البورجوازية الغربية في المدن الرئيسية، فإنه يقوم يومياً بتقطيع رؤوس البشر كالشياه بسكاكين باردة كما يقوم بإشعال الأفران لشيّ الأطفال والرضع أحياء. وأكثر ما يتقصد في هذه الأعمال الوحشية سكان القرى المسلمين البسطاء ممن تظهر العدسات نساؤهم، وهذا يثير سؤالاً بديهياً مهملاً: هل هناك بشر بكامل وعيه يستطيع ان يرتكب مثل تلك الفظائع؟ ومن يمول تلك الفظائع اللاانسانية التي زادت تقديرات كلفتها الأولية على خمسة بلايين دولار؟ وفي اطار هذه التساؤلات والمطالبة باجراء تحقيق قانوني عن الجنون غير المشروع في الشارع الجزائري، يقوم بعض الاعلاميات والاعلاميين من الكتاب والصحافيين ومعدي البرامج المسموعة والمرئية في الأجهزة الغربية بتقديم بعض الوقائع التفصيلية المروعة عما يجري في الجزائر، مثل أحد برامج الپBBC Dispatches الذي قدم بالصوت والصورة والحركة مشاهد لاانسانية وأكثر وحشية عن قرى الجزائر. وكمقالة روبرت فيسك في جريدة "انديبندنت" قبل بضعة أسابيع الذي صور بالكلمات مشاهد مرعبة ومقززة لترويع مواطني الجزائر في انفسهم وأعراضهم مما لم يعف حتى المعاقين والقصر. غير ان مطالبة هؤلاء الاعلاميين الغربيين باجراء تحقيق لتحديد أطراف الصراع وتحميلها مسؤوليتها التاريخية في الأحداث الانتحارية في الجزائر، لا بد ان لا يعفيهم عن مساءلة حكوماتهم الغربية عن موقفها من شلالات الدم الراكضة تحت جسور الجزائر. فهل يمكن ان يحمل محمل الجد مثلاً تبرير اكتفاء الحكومات الغربية بموقف المتفرج على صراع الجزائر، بأنه مجرد احترام لرغبة الحكومة الجزائرية بعدم التدخل الأجنبي وبعدم التدويل…؟ ام ان لما يحدث في الجزائر وظيفة مرتبطة بخدمة المصالح الغربية في الجزائر والمنطقة سواء في استمرار تدفق النفط والغاز او في تمرير صفقات الاستثمارات الأجنبية التي يقال بانتعاشها في ظل شبح الحرب الأهلية في الجزائر اكثر من أي وقت مضى. او لعلها الوجهة التي يأخذها صراع الجزائر بتحوله الى حرب طواحين شبحية تدرأ عن أوروبا أي خطر بعيد باحتمال قيام نظام خميني آخر على طرف خاصرتها الجنوبية؟ وليس آخراً… ألم يصبح الوضع الجزائري بعد من الكارثية والرهبة والتهديد بما يدق أجراس الخطر في أرجاء الوطن العربي… ام ان قرارات الجامعة العربية بالحفاظ على لحمة المجتمع العربي وقرارات الهيئات الاسلامية العليا بالتصدي للعنف، لا ترى في اصطراع الجزائر شقة وعنفاً بما يكفي لتحريك ساكن؟ ألا يزال في الوقت متسع لئلا نسأل الى أين ستصدّر فلول الأفغان الجدد، ونقمة الاسر الثكلى وغضبة ذبح أحلام جيل كامل من شباب الجزائر وتخبطهم في مذابحهم وحيرتهم وحدهم إذ استمر اطمئناننا الزائف للمثل القائل "جرح في رأس غيري كأنه شرخ في جدار". لأن هناك مثلاً أكثر واقعية يقول: "إذا رأيت قطع الرؤوس، ضع يدك على رقبتك". ولا شك ان الوضع في الجزائر قابل للاندلاع والانتشار والعدوى خارج خارطة الجزائر. ترى ألا تدفع مجازر الجزائر المثقفين والكتاب العرب الى تساؤل موضوعي يحاول ان يحدد الأطراف المتورطة بحياد، ولا يخشى مغبة الخلاف في الرأي او الخط السياسي ليسأل صراع الجزائر الى أين وبمن ولمن ولماذا، دون التعصب الى تلك المقولة السبعينية البائدة والتي ثبتت انتهازيتها عدة مرات وهي تلك القائلة "عدو عدوي صديقي". ولكن إذا كانت تركيبة الغرب السياسية على عللها قد سمحت على ما يبدو ومما نقرأ او نطالع بأن تقوم قطاعات اعلامية وقانونية مستقلة من الصحافيين والكتاب والمثقفين والمحامين بتوجيه الاسئلة الى حكوماتها في الشأن الجزائري من دون ان تُحرج او تخاف من رأيها، فإنه لا بد يجرحنا نحن العرب ان تمر المجازر الجماعية اليومية في الجزائر تحت اسماعنا وأبصارنا، ورائحة الطبخة القذرة تزكم الأنوف، بينما نحن لا نزال نتردد ونحاذر تجريب حق الأسئلة.