11 مبادرة تنفيذية لحشد الدعم الإعلامي للاعتراف بدولة فلسطين    «أرامكو» تعلن تفاصيل توزيع التخصيص النهائي لطرح 1.545 مليار سهم    مستثمرو النفط يتطلعون لانتعاش الأسواق بعد خسارة أسبوعية    سعود بن نهار يدشّن الصالة الإضافية بمطار الطائف    قطار المشاعر المقدسة يستعد لنقل آلاف الحجاج خلال موسم الحج    "أرامكو" تعلن عن هيكل ملكية الشركة بعد الطرح    الوزاري الخليجي يبحث مسيرة العمل المشترك ومستجدات غزة ورفح    90 % من أطفال غزة يعانون سوء التغذية    وزير الخارجية يشارك في اجتماع الدورة ال (160) للمجلس الوزاري لدول الخليج العربية    الأخضر يرفع استعداده لمواجهة الأردن.. ومانشيني يستبعد تمبكتي    .. وتقيم المعرض المتنقل (لا حج بلا تصريح)    محافظ الأحساء يرأس اجتماع لجنة السلامة المرورية    «فتيان الكشافة» يعبرون عن فخرهم واعتزازهم بخدمة ضيوف الرحمن    وزارة الداخلية تصدر قرارات إدارية بحق (18) مخالفًا لأنظمة وتعليمات الحج    وزارة الحج تعقد دورات لتطوير مهارات العاملين في خدمة ضيوف الرحمن    رسالة جوال ترسم خارطة الحج لشيخ الدين    شرائح إنترنت واتصال مجانية لضيوف خادم الحرمين للحج    القيادة تهنئ ملك الأردن بذكرى يوم الجلوس    أمير الرياض يطلع على عرض لمركز صالح العسكر الحضاري بالخرج    جابر عثرات الاتحاد    انطلاق معسكر أخضر ناشئي الطائرة .. استعداداً للعربية والآسيوية    أرصفة بلا مشاة !    «التجارة» تضبط 374 مخالفة ضمن جولاتها التفتيشية في المدينة    رئيس جمهورية قيرغيزستان يمنح رئيس البنك الإسلامي للتنمية وسام الصداقة المرموق    «طيبة»: إتاحة فرصة التحويل الداخلي والخارجي للدراسة بالجامعة وفروعها    تغييرات الحياة تتطلب قوانين جديدة !    وفد الشورى يطّلع على برامج وخطط هيئة تطوير المنطقة الشرقية    الشاعر محمد أبو الوفا ومحمد عبده والأضحية..!    رئيس الأهلي!    فشل التجربة الهلالية    التخبيب يهدد الأمن المجتمعي    ماكرون يحل البرلمان بعد خسارة حزبه في الانتخابات الأوروبية    «ضربه وبكى وسبقه واشتكى».. عمرو دياب هل يلقى مصير ويل سميث؟    اليحيى يتفقد جوازات مطار الطائف الدولي واللجان الإدارية الموسمية بمركزَي التنعيم والبهيتة    الأمير سعود بن نهار يتفقد مواقيت الإحرام ونقاط الفرز الأمني بالمحافظة    الجبير يلتقي وكيل "وزارة الخارجية البرازيلية للشؤون السياسية"    دراسة: التدابير السعودية نجحت في الحد من تأثير الحرارة على صحة الحجاج    خادم الحرمين يأمر باستضافة 1,000 حاج من ذوي الشهداء والمصابين من أهالي غزة استثنائياً    فيصل بن سلمان يرأس اجتماع مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية    أمير الرياض يستقبل رئيس وأعضاء مجلس إدارة الهلال    د. العيسى: ما يعانيه الشعب الفلسطيني سيبقى محفورًا في كل ضمير حيّ    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة تعتني بثقافة الحج وتاريخ الحرمين    أمير القصيم يوجه بتوثيق الطلبة المتفوقين في كتاب سنوي    لا اتفاق مع إسرائيل إلا بوقف الحرب    شفاعة أمير الحدود الشمالية تثمر تنازل أولياء دم الجميلي عن بقية مبلغ الصلح    أمير تبوك يواسي عامر الغرير في وفاة زوجته    قطاع صحي ومستشفى تنومة يُنفّذ فعالية "مكافحة التدخين"    فريق طبي "ب"مركزي القطيف" ينقذ حياة مقيم    الأرصاد: ابتداء من غد الاثنين استمرار ارتفاع درجات الحرارة لتصل إلى 48 درجة مئوية    وزير الخارجية يصل قطر للمشاركة في اجتماع المجلس الوزاري ال 160 لمجلس التعاون الخليجي    ليس للمحتل حق «الدفاع عن النفس»..!    بارقة أمل.. علاج يوقف سرطان الرئة    نفائس «عروق بني معارض» في لوحات التراث الطبيعي    توفير الأدوية واللقاحات والخدمات الوقائية اللازمة.. منظومة متكاملة لخدمة الحجاج في منفذ الوديعة    نصيحة للشعاراتيين: حجوا ولا تتهوروا    استفزاز المشاهير !    التنظيم والإدارة يخفِّفان الضغط النفسي.. مختصون: تجنُّب التوتّر يحسِّن جودة الحياة    «إنجليزية» تتسوق عبر الإنترنت وهي نائمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ربيع الثورات العربية يتجه الى واقع تاريخي مغاير
نشر في الحياة يوم 09 - 06 - 2011

مشهد الثورات العربية لم ينته بعد، ورقعة انتشارها لا تزال في اتساع مستمر. وفي كل ظهور جديد لها، تكشف عن أبعاد جديدة، تفاجئك وتذهلك، تدرك معها أنك بحاجة إلى المزيد من التدبر لتستوعب كامل حقيقتها، وضرورة أن تتحرر من تصوراتك التقليدية عن الثورات وقوى التغيير. ربما لأن ما يحدث في العالم العربي ليس في أصله وطبيعته من نوع الثورات التي تعمد إلى قلب أنظمة الحكم بالقوة وتعميم أيديولوجية عدالة جديدة، أو ربما لأنها عملية (process) تغيير طويلة الأمد، مجهزة بقوة دفع (Momentum) هائلة، تجعل تغيير الأنظمة مجرد تفصيل صغير، وخطوة أولى لتدشين واقع تاريخي آخر، يحدث نقلة عربية ليس فقط في ترتيبات الواقع، بل في تشكل عقل مختلف (paradigm shift) ذي منطق ومعايير سلوك جديدين، يقطع مع نظم القيم المستقرة في العالم، ويعيد ترتيب أولوياتها ويفكك نظم المصالح التي تشكلت حولها.
وإن كنا لا نزال بعيدين عن خواتيم ما سمي ب «الربيع العربي»، إلا أن هنالك روحاً حاضرة خلف الأحداث المتنوعة، تتجلى أكثر وضوحاً وجمالية وإصراراً كلما احتدم المشهد وتصاعدت حدة تحدياتها.
هذه الروح فاجأتنا جميعاً، لأنها انبثقت من داخل وسط غير متوقع، وكان يُنظَرُ إليه باستخفافٍ وبشيء من الشفقة، هو وسط الشباب، الجيل الجديد الذي انتزع زمام المبادرة من أيدي الجميع، بمن فيهم الأحزاب المعارِضَة والنخب الفكرية التي سعت إلى التغيير على أرضية الواقع القائم ومنطلقاته ونظم مصالحه وفضائه الفكري والإيديولوجي. في حين كان الجيل الجديد يدفع باستمرار إلى منطق علاقات مختلف، يقف وراءه شكلاً تضامنياً جديداً وغير مسبوق في آلية عمله ونظام حركته.
وعلى رغم أنه لم يتخذ صيغة قانونية أو دستورية محددة أو حتى هيئة حزبية متعينة، لكنه موجود هناك وحاضر بكل ثقله، لأن أفقه، ليس كأفق الكثير من الأحزاب التي تعتبر أن ذروة الإنجاز عندها هو الوصول إلى السلطة، بل هو أفق تغيير منطق السلطة نفسها ومبادئ التنافس عليها وطرق تداولها وتحديد مرجعياتها، أي أفق وضع مجريات الواقع على خط الديموقراطية بنسختها الأحدث والأكثر معاصرة. وهو مسار لا يمكنه أن يتمثل في حزب حاكم يرعى عملية التغيير، لأنه متى ما فعل ذلك، استحال إلى نخبة ذات مصالح تحتمي بقيم شمولية وهمية، بل تكمن فاعليته في خلقه لمشهد سياسي جديد وفق معايير جديدة، من دون أن يكون بالضرورة جزءاً من تكوينه السلطوي وداخلاً في شبكة مصالحه. لذلك لا يصح الحكم على هذه الروح من زاوية إنجازاتها العاجلة، بل من زاوية الأرضية التي تجترحها وترغم الجميع على الدخول فيها والتقيد بتضاريسها الجديدة.
ويمكن لنا هنا تلمس سمات تلك الروح المقتحِمَة خُلوة النظم القائمة المتمترسة بنضالاتها وتقوائيتها:
أولاً: هي روح عربية بامتياز، لا تتجاهل خصوصيتها الإقليمية أو تقفز فوق مكوناتها الوطنية، وقادرة في الوقت نفسه على التفجر في كل مكان ينطق بالضاد، لأن الأرض أرضها والشعب شعبها، وتتخذ في كل مرة شكلاً جديداً وتضامنات متنوعة، وتخلق إصراراً لا يتراجع وتُحدِثُ وَقعاً كالسحر. هذا يعني أن لهذه الروح الجديدة بنية غير مرئية قابعة وراء تجلياتها الظرفية، تجد مرجعياتها العميقة في مكونات الثقافة العربية، وتستمد زخمها من مضامين الفكر العربي القديم والمعاصر، بل تجدها تعمد إلى إخراج الوعي العربي المعاصر من أسر الثنائيات المعطلة، مثل ثنائية التراث والحدثة، أو الأصالة والمعاصرة، وتجهد في شق طريق ديموقراطي يحررها من منظومة أخلاق الطاعة التي تجلت في الشكل الإمبراطوري أو الريعي للنظم السياسية.
حين وفَّرَ الإقليم الخاص شروطاً موضوعية لانطلاقة الثورات العربية الراهنة، فإن المضمون العربي وفَّر منطلقات ودوافع ومرجعيات لها، جعلها جميعاً ذات أفق واحد يملك قوة التعميم والانتشار، وأكسبها تكويناً مركباً، وخلق حالة تغذية متبادلة بين المكون المحلي والمكون القومي، فبقدر ما يصنع الوقع المحلي شروط فعاليته الخاصة، فإنه يضيف إلى الذاكرة العربية شيئا جديداً. فالذي يتغير ليس المصري أو التونسي أو اليمني أو السوري فحسب، بل هو الإنسان العربي.
ثانياً: هنالك تحول ملموس في وظيفة الإسلام السياسي، عبرت عنه مجلة فورن أفيرز (Foreign Affairs) ب «ما بعد الإسلاموية» (Post Islamism)، حيث انتقل الخطاب الديني عموماً من أيديولوجية أسلمة النظام إلى خطاب تقوائي يركز على الحقوق الإنسانية. أي انتقل من أدلجة سياسية للدين إلى أدلجة حقوقية له. ما جعل الإسلام ينتقل من مجال الدولة والحكم إلى مجال الفرد والمجتمع، ويتحول إلى قوة تحفيز أخلاقي ووجداني، وقوة إسناد معنوي، في مطالبة وسعي الفرد في أن ينعم بحياة حرة وكريمة. لم يعد الإسلام غاية تتجند من أجلها الطاقات، بل صار هو الطاقة التي يستمد منها الإنسان اندفاعه وإصراره وصبره ويقظته وتضحياته، لتحقيق كينونته ومنطلقاته الوجودية الكبرى. وقد تجلى هذا في التظاهرات التي كان للمسجد فيها الدور المحوري، من دون أن تكون الصلاة هذه المرة طريقاً لإقامة «شرع الله»، بل كان تحقيق الذات هذه المرة هدفاً للشهادة.
الوعي الجديد لوظيفة الدين، هدَّم بضربة واحدة أخلاقيات الطاعة المستندة إلى مسوغات دينية، التي كانت بحسب محمد عابد الجابري، حاضرة بقوة في لاشعور الوعي العربي، وتتحكم بكل نظم علاقاتنا. استطاع جيل الثورات العربية الجديد أن يسحق هيبة الطاعة المتقومة بالرعب والخوف، وأن يعطل استحكامها على أرض الواقع، بعدما عجز المثقف العربي أن يفكك شبكة استحكاماتها العقلية والنقلية.
ثالثاً: استطاعت ثورات الربيع العربي كشف لاجدوى وعطب الاصطفاف القائم في العالم العربي، وهي اصطفافات تمحورت على التنافس بين أولوية المواجهة وأولوية الاستقرار، فنشأ ما يسمى بقوى الممانعة وقوى الاعتدال، وهي قوى تُبسِّط النظر إلى الأمور وتبالغ في تسطيحها.
فقوى الممانعة تستمد مشروعيتها من مواجهة الاستعمار والكيان الصهيوني، لا في ممارسة السلطة فحسب، بل في قمع وسحق أية معارضة واحتجاج داخليين، مقيمة بذلك ملازمة وهمية بين التصدي لمؤامرات الخارج والإمساك بيد من حديد ملتهب في الداخل. أما محور الاعتدال، فيقوم على نظام رِعائِي، يقوم على تقديم ودعم مواد الغذاء الأساسية مقابل سلب كامل الحقوق السياسية. إنها معادلة بسيطة: «كُل واسكت»، لكنها معادلة في غاية الخبث، لأنها تقيم تلازماً وهمياً بين مسؤولية الاستقرار وتأمين الحاجات من جهة وبين الحكم المطلق الذي لا يحده حد من جهة أخرى، ولأنها ترى في الإنسان كائناً خالياً من المعنى، وتنحصر كينونته في تأمين قٌوتِهِ اليومي.
اختلفت هذه المحاور في ترتيب الأولويات، لكنها اشتركت وتواطأت على حقيقة واحدة: هي الاستبداد المولِّد بدوره للقهر وسلب الحقوق السياسية وحجب الحريات وامتهان الكرامات وشتى صنوف الإذلال، أي تغييب كامل لإنسانية الفرد. ما جعل المحورين، في لحظة التطلع للحرية والكرامة، محوراً واحداً وفي خندق واحد معاد للإنسان العربي المنبعث من جديد.
كشف ربيع الثورات العربية عقم الانقسام بين الاعتدال والممانعة، وفكك الملازمة بين مواجهة العدو ونظام الحزب الواحد، وعرى قيام الاستقرار على إلغاء التعدد والتنوع والاختلاف، فالاختلاف مصدر حيوية وسبيل إبداع وابتكار، في حين أن الاستقرار اللاغي للإرادات هو خروج من التاريخ.
أقام ربيع الثورات العربية منطقاً جديداً للتحالفات والانقسامات وحتى لتشكل محاور جديدة، لم يعد يقوم على فرز المؤيد للمقاومة الممانِعة ومن هم ضدها، أو فرز الحريصين على الاستقرار الداخلي والمهددين له، بل يقوم على الفرز بين مؤيد وداعم للحرية والكرامة والإنسانية وساعٍ لتأسيس قواعد تكفل للإنسان وتمكنه من تحقيق إمكاناته إلى حدها الأقصى من جهة، وبين متنكر ومناهض لهذه الحقوق والقواعد ومنتهك لها من جهة أخرى.
قضية الإنسان العربي اليوم هي الحرية، التي بها وحدها يعيد الاعتبار لذاته عند نفسه وعند الآخرين.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.