سمو وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة (37) من طلبة كلية الملك فهد البحرية    إعلان نتائج أرامكو غدا.. ترقب من سوق الأسهم وتوصيات المحللين    «البلسم» تجري 48 عملية قلب مفتوح وقسطرة تداخلية في أول يومين من الحملة الطبية باليمن    أمير تبوك يقلد مدير الجوازات بالمنطقة رتبته الجديدة    أمير تبوك يستقبل الأمين العام لمجلس منطقة جازان .    أمير المنطقة الشرقية يفتتح يوم المهنة ال39 بجامعة الملك فهد    السعودية وبريطانيا تبرمان اتفاقية لإنقاذ جوعى الصومال    القدية تطلق أكواريبيا.. أكبر متنزه ترفيهي مائي في المنطقة    لماذا شرعت روسيا في إجراء تدريبات نووية؟    وزير العدل يفتتح المؤتمر الدولي للتدريب القضائي في الرياض    بسبب الهلال..عقوبات من لجنة الانضباط ضد الاتحاد وحمدالله    الرئاسة الفلسطينية تحذر: إسرائيل تخطط ل«أكبر جريمة إبادة جماعية» في رفح    أغسطس «2020».. آخر فوز للراقي    مخبأة في حاوية بطاطس.. إحباط تهريب أكثر من 27 كيلوغراماً من الكوكايين بميناء جدة الإسلامي    "آلات" تطلق وحدتَي أعمال للتحول الكهربائي والبنية التحتية للذكاء الاصطناعي    تعليم الطائف ينظم اللقاء السنوي الأول لملاك ومالكات المدارس الأهلية والعالمية    تقديم الإختبارات النهائية للفصل الدراسي الثالث بمنطقة مكة المكرمة.    هيئة الأمر بالمعروف بنجران تفعّل حملة "الدين يسر" التوعوية    وحدة الأمن الفكري بالرئاسة العامة لهيئة "الأمر بالمعروف" تنفذ لقاءً علمياً    انطلاق "مهرجان الرياض للموهوبين 2024".. غداً    في نقد التدين والمتدين: التدين الحقيقي    مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يُنظم مؤتمرًا دوليًا في كوريا    ارتفاع أسعار الذهب    "المرويّة العربية".. مؤتمر يُعيد حضارة العرب للواجهة    550 نباتاً تخلق بيئة نموذجية ب"محمية الملك"    أمطار ورياح مثيرة للأتربة على عدد من المناطق    السعودية.. الجُرأة السياسية    80 شركة سعودية تستعرض منتجاتها في قطر    «كلاسيكو» تأكيد الانتصار أم رد الاعتبار ؟    اللذيذ: سددنا ديون الأندية ودعمناها بالنجوم    مساعدات إيوائية لمتضرري سيول حضرموت    «التعليم»: أولوية النقل للمعلمين لنوع ومرحلة المؤهل العلمي    5 مشروبات تكبح الرغبة في تناول السكَّر    انطلاق بطولة كأس النخبة لكرة الطائرة غدا    محافظ الطائف يناقش إطلاق الملتقى العالمي الاول للورد والنباتات العطرية    سمو ولي العهد يهنئ ملك مملكة هولندا بذكرى يوم التحرير في بلاده    المجرشي يودع حياة العزوبية    تدخل عاجل ينقذ حياة سيدة تعرضت لحادث مروري    وصول التوءم السيامي الفلبيني إلى الرياض    فيصل بن نواف: جهود الجهات الأمنيّة محل تقدير الجميع    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على بدر بن عبدالمحسن    هدف لميسي وثلاثية لسواريس مع ميامي    100 مليون ريال لمشروعات صيانة وتشغيل «1332» مسجداً وجامعاً    القادسية لحسم الصعود أمام أحد.. الجبلين يواجه العين    وزير الموارد البشرية يفتتح المؤتمر الدولي للسلامة والصحة المهنية    بدر بن عبد المحسن المبدع الساعي للخلود الأدبي    فيصل بن مشعل: يشيد بالمنجزات الطبية في القصيم    عزل المجلس المؤقت    وزير الدفاع يستعرض العلاقات الثنائية مع "كوليبالي"    مهرجان الحريد    البحث عن حمار هارب يشغل مواقع التواصل    تأملاّيه سياسية في الحالة العربية    تقدير دعم المملكة ل "التحالف الإسلامي لمحاربة الإرهاب"    الدور الحضاري    رحيل «البدر» الفاجع.. «ما بقى لي قلب»    المعمر، وحمدان، وأبو السمح، والخياط !    إستشارية: الساعة البيولوجية تتعطَّل بعد الولادة    لا توجد حسابات لأئمة الحرمين في مواقع التواصل... ولا صحة لما ينشر فيها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدل السياسة والثقافة في سورية... من الليبرالية الى اختناقات الرأي الواحد
نشر في الحياة يوم 01 - 06 - 2011

عانت الحياة الثقافية في سورية، الكثير من الاحتباسات، والاحتجازات، كان في مقدمها هيمنة الشاغل السياسي، على موضوعاتها، منذ ما سمّي عصر النهضة، وتزايد هذا الشاغل مع وقوع سورية تحت الانتداب الفرنسي وتأسيس الدولة السورية الحديثة، إذ غدا الاستقلال وبناء الدولة، وصورة العلاقة العربية، هي المؤرق الرئيس للفكر، لكن الاحتباس الحقيقي للثقافة، سيلازم حقبة تفرّد البعث بالسلطة، ومصادرته الحياة السياسية، فإذا كانت الثقافة كإبداع للمعنى وللأفكار، قد تشاغلت في المراحل الأولى بالسياسة ومسائلها، من موقعها المستقل عن السياسة والسلطة، فإنها في حقبة البعث، خضعت هي نفسها ل «سياسة» السلطة، وخططها، فكانت النتيجة انحطاطاً شاملاً لها.
خضعت سورية، منذ قرنين، مثل بقية العرب، لزمن ثقافي نوعي واحد، تشابكت فيه صلاتها بالثقافة الغربية، واكتشف مثقفوها تقدم الغرب وتخلفهم، فطرحوا على أنفسهم سؤال النهضة: لماذا تقدموا وتخلفنا؟ وقدموا إجابات مختلفة حملتها الإصلاحية الإسلامية والتياران الليبرالي والقومي، إلا أن هذه التيارات، بما فيها الإصلاحية الإسلامية، اتفقت قبل أن تبتلى بالاستعمار المباشر على ضرورة التجديد والاقتباس من الغرب، وعلى ضرورة الحكم الدستوري، فشهدت هذه الحقبة انتعاشاً للحياة الثقافية، من موقعها المستقل عن السلطة، وعن المستوى السياسي، على رغم تشاغلها بالأسئلة السياسية الكبرى، وشكلت أجوبة عبدالرحمن الكواكبي عنواناً بارزاً لهذه المرحلة.
تغير الأمر بعد الاجتياح الغربي ومعه المشروع الصهيوني. تصلب الموقف تجاه الآخر، وثقافته واحتل هاجس (الهوية) مقدم المسرح الثقافي، في مواجهة الوجه الاستعماري للحداثة، وتصاعد التشديد على (المسألة الثقافية)، والخوف على الهوية، فشهدت سورية في الثلاثينات ولادة السلفية تحت تأثير صفحات «المنار»، وأفكار محمد رشيد رضا، كنواة لولادة الحركة الإخوانية في الأربعينات، التي أعلنت القطيعة الثقافية مع الغرب، وإلى جوارها شدّد القوميون الأيديولوجيون الجدد على «الأصالة» والمعاصرة، والخصوصية الثقافية، واستنفدوا طاقاتهم الفكرية على إثبات وحدة الثقافة كعنصر جامع للأمة. أما التيار الليبرالي فكان أكثر انفتاحاً، لا سيما أنه أصبح نافذاً بحكم مشاركته في بناء الدولة الحديثة في ظل الانتداب، ثم في زمن الاستقلال، فقد شدّد على الجانب الفردي للحرية، وعلى الليبرالية الاقتصادية، أكثر من تشديده على المشاركة والمفاهيم الديموقراطية الأخرى.
أما الماركسي فقد استعار النقد الاشتراكي لنقد الوجه الاستعماري للحداثة، والتشديد على النزعة الأممية، لكن الجميع، إذا استثنينا التيار الليبرالي، لم يفكروا بالدولة الواقعية وبتطوير عملها وتحديث آلياتها، أكثر من تفكيرهم بالدولة الطوبى، فكّر الإسلامي بدولة الشريعة أو بدولة الخلافة، والقومي بالدولة الأمة، والاشتراكي بالدولة البروليتارية، لا سيما أن الفكرين القومي والإسلامي لم يتعاملا مع «الكيان السوري» بجد، إذ نظرا إليه على أنه محطة موقتة، أو جسر لكيان أكبر (الدولة العربية) أو (الدولة الإسلامية)، وكان لهذا التطلع السياسي الكبير، موقعه المركزي في الإنتاج الثقافي لهذه الحقبة، لهذا فإن سورية وإن أنجبت في مجال الشعر والأدب شخصيات مهمة أمثال نزار قباني، وأدونيس، وعمر أبو ريشة، وعبدالسلام العجيلي، وزكريا تامر، وحنا مينه، وفي الفنون التشكيلية أمثال فاتح المدرس ولؤي الكيالي وممدوح قشلان، إلا أنها لم تقدم مؤرخين كباراً في التاريخ السوري كجمال حمدان في مصر، وفيليب حتي وألبرت حوراني في لبنان، أو مفكرين اجتماعيين وصانعي أفكار، أمثال طه حسين وزكي نجيب محمود وأحمد أمين، غير أنها تفردت في تقديم أبرز المفكرين القوميين العرب وأشدهم تأثيراً: ساطع الحصري، ميشيل عفلق، قسطنطين زريق، زكي الأرسوزي.
وعلى رغم سيطرة الأسئلة السياسة الكبرى، على الثقافة، إلا أنها ظلت مستقلة، عن سيطرة السلطة، والسياسي، وأكدت حضورها كفاعلية حرة لإبداع المعنى، والفكر، ومارست هيمنتها على ميدان السياسة، وعلى السلطة، وعلى الدينامية الاجتماعية، وسلوك الأفراد والجماعات، واستطاع المثقفون السوريون أن يساهموا، مع غيرهم من المثقفين العرب، في إنتاج ما يمكن اعتباره ثقافة عربية جامعة، بلورت أهدافاً كبرى للجماعة العربية في النهضة والوحدة والتقدم وفي إيضاح الخطاب الثقافي للأيديولوجيات السياسية، وأنجزوا كثافة في التأليف تدعو إلى التبصر والتغيير، في مناخ من الحريات الديموقراطية البرلمانية والليبرالية، لا سيما في الأربعينات والخمسينات، حين ازدهرت عشرات الصحف الحرة والدوريات ودور النشر.
سلطة الحزب الواحد
وما لبثت (الثقافة) أن دخلت في أزمة مديدة في مرحلة حكم البعث وتفرده بالسلطة، فلم تعد الثقافة تقصر علاقاتها بالسياسة على الانشغال بموضوعاتها من موقعها الحر، بل غدت مسخّرة للسياسة تقودها في بداية حكم البعث النخب السياسية للسلطة، ثم لاحقاً، مثقفو أجهزتها الأمنية، فافتقدت علاقتها بالجسم الاجتماعي وطابعها التلقائي الحر، القائم على الاقتناع، وتحولت إلى محض أيديولوجيا سياسية حزبية متصلّبة فقيرة، تُفرض قسراً على الجماعة، بواسطة (الأجهزة) الأيديولوجية للدولة. وشهدت سورية انطفاء مُطرداً للثقافة بعد أن احتكرت السلطة الإعلام والمنابر الثقافية، وصادرت حرية الصحافة والنشر وسخّرت الدولة وأجهزتها وهيئات المجتمع المدني لمراقبتها وهيمنتها المباشرة، فانحطت صورة مثقف السلطة مع ترسخ هيمنته وتداخل وظائفه بالسلطة، وإن احتفظ ببعض إهاب حملة الرسالة والمبشرين بتغير العالم، ومظاهر التقشف الخارجية ونظافة الكف في بداية أمره، لكن ما لبثت أن تآكلت تلك المظاهر مع شروعه في بناء صرح الدولة الأمنية العتيدة، وتطبيقه منهجاً يساروياً أفقر فيه المجتمع والدولة معاً، في خضم تنافسه مع زعامة جمال عبدالناصر العربية، ومع الحركة الناصرية في سورية، وقدّم اثناء بحثه المحموم للخروج من عزلته ولبناء شرعية مفتقدة، خطاباً يساروياً علمانياً راديكالياً رثاً نفّر المجتمع برمته، وحط من مستوى الثقافة والفكر اللذين أصبحا مصادرين، عندما أغلق جميع منافذ التعبير عن الرأي، وصادر المنابر الثقافية وأجهزتها، من الصحافة إلى دور العلم، إلى المدرسة والجامعة، وسلّمها إلى الأكثر طاعة، وانقياداً، من المثقفين، الذين نقلوا ولاءهم تدريجاً إلى الأجهزة الأمنية.
بلغ هذا الميل حدوده القصوى في ظل «الحركة التصحيحية»، عام 1970 حين أصبحت الاجهزه هي المشرف المباشر على الثقافة، والسياسة، وعلى المجتمع، وهو المعنى الذي عبرت عنه، بصورة مواربة، المادة الثامنة من الدستور، بقولها، ان حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع. واستعاضت السلطة، في هذه المرحلة، عن نهج إفقار المجتمع وتقشف النخبة، الذي اعتمدته نخب المرحلة الأولى للثورة، باستراتيجية إعادة إنتاج التركيب الهرمي للمجتمع بدءاً من ذروة الهرم، أي من النخب السياسية، والدولتية البيروقراطية التي أمسكت بالقرار السياسي والاقتصادي والإداري، وذلك بإطلاق يدها لاكتناز الثروة والنفوذ شرط طاعتها وولائها، فأصبح صعودها السياسي والإداري متلازماً مع تنامي ثروتها، وبذخها، وانفتح الطريق أمامها لتراكم ثروتها من نهبها المال العام أو رعايتها لصعود قطاع خاص، لا سيما التجاري الذي غدا شريكاً شرعياً لها في نهب قطاع الدولة، وفي تقديم الأتاوات ثمناً لصكوك الاستيراد والتصدير، إضافة إلى ما تفرضه على القطاع الصناعي من «خوة» ل «حمايته» و «رعايتها» له من مرحلة الإنشاء إلى مرحلة التداول مروراً بمرحلة الإنتاج!
وبدلاً من الاعتماد على الذات، وعلى قيم الإنجاز والفاعلية والإنتاج التي هي عماد المجتمع الحديث، وبلغ الوضع قمته في الثمانينات، في حلبة الصراع مع «الطليعة المقاتلة» للإخوان، التكفيرية الارهابية، التي كانت بمثابة الحصيلة ورد الفعل الخاطئين على نهج النظام الأوامري الصارم، وعلى نزعته الدهرية المتهافتة على السلطة، إذ أنجزت في هذه الحقبة عسكرة المجتمع برمته، وبلغ نمط الدولة الأمنية ذروة اكتماله، وجرت تصفية ما تبقى من رمق لقوى المعارضة الديموقراطية، المنضوية تحت يافطة (التجمع الوطني الديموقراطي)، التي طرحت مشروعاً ديموقراطياً للتغيير يعتمد نموذج النظام الديموقراطي البرلماني، وجرى خنق أي صوت معارض، في السياسة والثقافة، التي باتت موظفة، بما فيها الادب والفنون التشكيلية لإطراء السلطة وامتداح رموزها، أو الاشتراك في مهرجاناتها الاحتفالية، وطقوس «أعيادها»، فانتشرت الأعلام والصور الهائلة، والشعارات والتماثيل في كل مكان تسبيحاً برموز السلطة، وكأن الشعب السوري قد تحول على حين غرة إلى الوثنية، بأن كرّس نفسه لتقديس زعامته!
لم يعد ممكناً، في ظل هذا الوضع، الحديث عن حياة ثقافية حقة في سورية، بعد أن فقدت الثقافة استقلالها وأضحت تابعة للسلطة ولسياستها، في مناخ تحولت فيه السلطة، بإدارتها الحكومية، والحزبية، والنقابية وأجهزتها البيروقراطية، إلى خيوط متشابكة تحركها الأجهزة الأمنية، بطريقة أصبح فيها الجميع، في المدينة والريف، في الوظيفة أو خارجها، تحت ضغط نظام الطاعة الصارم. حينها أصبح الفرد من القماط حتى الموت، تحت المراقبة والعقاب الصارمين، وبالتالي غدا للتعبير عن الاختلاف، ناهيك عن المعارضة، كلفته الغالية الثمن، أقلها الأقلّ ما حدث لكاتب بوزن زكريا تامر، عندما افتتح مجلة «المعرفة» الحكومية بمقتطفات من عبدالرحمن الكواكبي فتم عزله، ودفعه إلى الهجرة.
وضاقت منافذ التعبير والنشر، إذ اقتصرت الصحافة، وهي مرآة العالم الحديث، على ثلاث صحف لها مهمة واحدة، هي ترجمة نشاط السلطة، والدفاع عن توجهاتها، واقتصرت وظيفة الإذاعة والتلفزيون على نقل هذا النشاط إلى الصورة والصوت، وانحسرت مراكز النشر والحياة المسرحية، والفنون التشكيلية، وسيطرت «التوجهات» الرسمية على الحياة الثقافية برمتها، فوصل الوضع الثقافي إلى حد الإفلاس الشامل وتكاملت تلك الصورة السوداء، مع ما حدث من تدهور للجامعة والمدرسة، بعد أن أشرفت على حياتهما الداخلية الأجهزة الأمنية، فتدهور المستوى الأكاديمي، ولولا الترجمات التي أنجزتها وزارة الثقافة، لكان التدهور أكبر.
وفاقم حالات التدهور هذه، أن السلطة لم تترك للقوى الثقافية والسياسية الأخرى حق التعبير عن النفس، حين حصرت الأجهزة الثقافية ومنابرها بها، وضيقت المجال على المجتمع الأهلي والمدني، فطاول التأميم حتى الأندية الرياضية، أما ما تبقى من أندية ثقافية فكانت تحت مراقبتها وسلطتها، فحُرمت المعارضة باتجاهاتها كافة حق التعبير، واقتصر نشاطها السياسي على صحافة بدائية تتناقلها الأيدي بسرية كاملة، وإذا كانت قد أبقت من هامش على صحافتها السلطوية ودورياتها، في عقد السبعينات، في المناخ الذي أعقب حرب تشرين، فهي قد حصرته في مجالات الأدب والتاريخ والتراث، فكانت حصيلة النقاشات النظرية بائسة، ويعود ذلك إلى سيطرة النزعة «الطبقية» وتوظيفاتها على النص الأدبي والتراثي والتاريخي، فسيطر على النقد الأدبي البحث عن الحامل الطبقي للرواية والقصة والمسرح، فتحول النقد إلى محاكمة «طبقية» لأبطال العمل الأدبي، لينتقل بعدها الى محاكمة الكاتب، كما سيطر على دراسة التاريخ والتراث، البحث المحموم عن الحامل الطبقي للأفكار، فتحولت الثقافة إلى مسرح عرائس لصراع الطبقات الموهوم، على خلفية حرب طبقية حقيقية بين الدولة الأمنية والمجتمع الذي جُرّد من حقوقه، بينما كانت ترتفع فوق هذا كله، ثقافة المديح لرجال السلطة، والهجاء والتخوين لخصومها.
وساعد، على ذلك أيضاً، اشتراك النخبة السورية، حتى السبعينات، إذ استثنينا المثقف الليبرالي الذي توارى دوره، في ثقافة سياسية واحدة، تنطلق من موقف نخبوي للسياسة تجعلها مناطة ب «الطليعة» المعبّرة عن الأمة، أو الطبقة، أو جماعة المؤمنين، أما «الديموقراطية» ودور الشعب الحاسم في المشاركة، فكانا خارج مرمى النظر حتى بداية الثمانينات. فالمثقف الإسلامي، وريث الإصلاح الديني، والذي بات يتمثل في الإخوان المسلمين، نظر إلى نفسه على أنها في الموقع المدافع عن الإسلام ودولة الشريعة، وبشر بسلطة شبه ثيوقراطية، وفي النهاية أفرز «الطليعة المقاتلة» التكفيرية التي كانت الوجه الآخر لاستبدادية السلطة وإطلاقيتها، فكفرت المجتمع والدولة ودعت إلى تطبيق الشريعة بالقوة.
br / أما المثقف القومي (الناصري) المتمثل ب (الاتحاد الاشتراكي) الذي كان المعارض والمنافس الأول حتى وفاة عبدالناصر، فقد ظل ينظر الى سلطة البعث على أنها غير شرعية، تجسّد الانفصال، بل كان يشكك بشرعية الدولة السورية نفسها حتى تعود إلى الوحدة مع مصر، ولقيادة رئيسها جمال عبدالناصر، وكان الهدف الرئيس لهذا المثقف، قبل ما جرى له من تحول، الاستيلاء على السلطة لإعادة الوحدة. وكان المثقف الشيوعي، قبل الانقسامات التي أصابته، يعتقد نفسه طليعة البروليتارية وجزءاً من جيشها العالمي، هدفه النهائي الاستيلاء على السلطة، وقد تحالف مع سلطة البعث خوفاً من المشروع الناصري الوحدوي، ولخدمة الصداقة مع الاتحاد السوفياتي، فكانت للنخب التقدمية حاكمة ومحكومة، مفاهيم مشتركة حول دولتها التنموية المرتقبة ودورها النخبوي، فضحّت بمرجعية الأمة والجماعة والطبقة لمصلحة النخب التي تمثلها، فتضافرت بذلك ذهنيات النخب ومواقفها مع ضغط النظام الأمني الشامل، كي تزيد من تدهور الحياة الثقافية.
كان لا بد من منافذ جديدة ليطل بها المثقف السوري على العالم، فكان لبنان نافذته شبه الوحيدة ليعبر عن نفسه، وكان لا بد من انتظار التحولات الذهنية التي ستطرأ على المثقف ذاته، لإعادة انطلاق روح جديدة تحيي ثقافته، وتضع نقاط انطلاق جديدة لها... ففي نهاية السبعينات، واستمراراً في الثمانينات، شرعت النخب المعارضة تنقل خياراتها إلى الديموقراطية، فقد توصل المثقف القومي الناصري من خلال مراجعته للتجربة الناصرية، وللتجارب المخفقة للنظم التقدمية الأخرى، إلى اعتبار الديموقراطية شرطاً مهماً للتنمية والتحرر، ولتقرير مصير الجماعة العربية، كما انحازت بعض النخب الماركسية، إلى الاتجاه نفسه، ولن يطول الوقت على المثقف الإسلامي، بعد تجربته المرة في الثمانينات، لأن يزاوج بين مفهوم الشورى والديموقراطية، وتوسعت دائرة تأثير المثقف الليبرالي، الذي ازداد ثقة، مع الانقلابات الكبرى في العالم.
وكان أبرز ملامح هذه الفترة من الثمانينات، بروز أطروحات برهان غليون المهاجر، والأطروحات المقابلة لياسين الحافظ، وجورج طرابيشي، حيث هيأت لهما الغربة سبل الإطلالة على العالم، وهما، على اختلافهما قدما النقد الأكثر جذرية لمنظورات الحقبة (التقدمية)، وأعطيا العلامة الأبرز على بزوغ وعي جديد.
تواكب مع استمرار تلك الاتجاهات الديموقراطية وتعمقها، دخول السلطة في أزمة نهاية الثمانينات العميقة، التي ترافقت مع انهيار التجربة الشيوعية وسلطة الحزب الواحد المروعة، فشهدت سورية بداية تراجع قبضة الدولة الأمنية، كمحاولة للتكيف، مع هذا المناخ، فتزايدت دور النشر، وتوسعت إصداراتها الثقافية، أمام الأجيال الجديدة من المثقفين في مجال الأدب والترجمة والفكر، الذين غدوا متسلحين بالمنهجيات الجديدة وبالموجة العالمية الجديدة للديموقراطية، وانتعشت الدراما بعد أن رفعت السلطة وصايتها عنها، ثم تعزّز هذا الاتجاه الانفتاحي بقوة الحياة والأفكار وضغط أزمة شرعية سلطة الحزب الواحد، فشهدت سورية الإفراج عن الآلاف من المعتقلين، فوجاً إثر فوج، وهو أمر لم تنته السلطة منه إلى الآن.
العهد الجديد وإمكانات التغيير
تسلّم الرئيس بشار الأسد الابن السلطة، في هذا المناخ، الذي كان فيه الجميع إما منتظراً الإصلاح، أو خائفاً من ضروراته، فأطلق هذا التبدل، في الموقع الرئاسي، الآمال عند الجمهور، لا سيما عند المثقف المستقل والمعارض بإمكانية التغيير الديموقراطي، وكان هذا المثقف، على تضاؤل مكانته وموقعه أمام حصار السلطة له، قد انتقل إلى تربة فكرية جديدة، هي على النقيض من أيديولوجية الدولة الأمنية القائمة، وهو على ضعف حيلته، وحجم التهديد الذي أحاط تحركه، والتكلفة الغالية التي يتوجب عليه تقديمها اذا تجاوز (حدوده)، بات يمتلك نداء المستقبل، والقوة التعبيرية عن حاجات شعبة، وفي مقدمها الديموقراطية، وحرية التعبير، وحق الشعب في إدارة مصيره.
تفاعل المثقف الديموقراطي المعارض، مع الوعود التي أطلقها العهد الجديد، فبرزت في المدن السورية، ظاهرة «المنتديات»، التي مثلت مجالاً جاذباً لنشاط النخب الثقافية والسياسية، والتي حولتها إلى منابر ثقافية سياسية، ما فتئت تتسع لتنضم إليها رموز جديدة، ولعلها لو استمرت، واتسع نطاق نشاطها، لشكلت مدخلاً لبعث الحياة الثقافية السياسية، وأسست مناخاً للحياة الديموقراطية، وقاعدة اجتماعية ملائمة لنجاح عملية الإصلاح أو التغيير الديموقراطي، لولا أن انقضت عليها السلطة، وخنقتها في مهدها، إلاَّ أن هذه الانكفاءة إلى الطرق الأمنية القديمة، لم تنل من عزيمة إرادة التغيير، ومن الحركية الثقافية، التي خرجت من القمقم.
فعلى رغم مظاهر استعراض القوة، فإن أيديولوجية «حكم الحزب الواحد والدولة الأمنية» تهاوت، والنظام الأمني برمته بدأ يصيبه التفكك، وثراء الحياة السياسية والثقافية شرع يؤكد نفسه، في شتى المجالات، واغتنت الحياة الثقافية في سورية بذلك الجدل الصاخب، بدلالة مفهوم «المجتمع المدني»، وإن كان بعض حلقات ذلك النقاش، فتح محوراً ثانوياً «للاختلاف» على حساب الاتجاه نحو الحريات الديموقراطية، إلاَّ أن الإنجاز المهم الذي حققته النخب السياسية والثقافية، على تنوعها، هو الوصول إلى قناعة مفادها أن آليات النظام الديموقراطي هي المدخل المناسب لتصحيح علاقات الاجتماع السوري، ولمواجهة مخاطر الخارج، والمفتاح الحقيقي لحل المسألة الوطنية، وللعمل العربي الموحد، فضلاً عن رفض الاستقواء بالخارج والدخول في أجندته، وهو ما يسهل عملية الإصلاح الديموقراطي، والمصالحة الوطنية، ويضع الإطارات اللازمة لانتعاش الثقافة الوطنية، التي لم يعد يقتصر مسرحها على المثقف التغييري الديموقراطي، فهناك المثقف الليبرالي العلماني، وإلى جانبه المثقف الإسلامي الذي انحاز إلى الديموقراطية، والذي جمع بين توجهات الإخوان الجديدة، وتوجهات الجيل الجديد من الإسلاميين، الذين اغتنوا بالمنهجيات المعاصرة، وانفتحوا على الثقافة العالمية.
كما شهدت الساحة الثقافية ظهور المثقف/ الباحث، الذي اهتم بالدراسات الاجتماعية والسياسة الميدانية، وهو ما يشي باغتناء الحياة الثقافية السورية إذا قيض لها المناخ الديموقراطي، وما يلازمه من حرية تعبير، حينها يمكن أن نتحدث عن ولادة علاقة حية بين الثقافة والاجتماع السياسي السوري، بتأكيد استقلالية الثقافة عن السلطة، وعن السياسة المباشرة، وذلك بعودة ارتباط الثقافة مجدداً بالإنتاج الحر للفكر والمعنى، وهو ما يتيح لها أن تعرض «بضاعتها» في «سوق» الأفكار والقيم والمعاني، برهافة حرة من دون وساطة أو قهر أو وصاية، فيتداولها أفراد المجتمع ويقتنونها باختيارهم الحر، وهو ما يعيد الى الثقافة مهابتها وقدرتها على التأثير الاجتماعي، ويتيح للأفكار أن تندمج في الكتلة الاجتماعية، في إطار تبادلية حرة شفافة. ولعل الكثير من المسائل السياسية والثقافية يتوقف على المآل النهائي للتحرك الشعبي الراهن، الذي قد يفتح إطلالة واعدة على مستقبل الثقافة والسياسة في سورية. 
* كاتب سوري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.