يحاول الفنان اللبناني سهيل سليمان أن يبني مدينته الحبيبة بيروت على طريقته. يجمع أوراق لعب ويرصفها فوق بعضها بعضاً لتكوّن بنايات عالية بلا نوافذ ولا أبواب. يجهد في بعثرة المدينة ومحاولة إيجاد هوية لها، بعدما سلبتها الحرب الأهلية، ورصاص القناصين، أوراق ثبوتيتها. لا يعتمد سليمان على خرائط أو مهندسين لتقديم مشروعه، إنما على ذاكرته الخصبة. في معرضه «مونوبوليس - بيت من ورق»، الذي يستضيفه هنغار «أمم» في الضاحية الجنوبية لبيروت، ثمة مدينة هشة، غير قادرة على الصمود في ظل أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية. ولانهيار المدينة الورقية التي نفّذها سليمان أسباب جمّة. فالطريقة العشوائية في البناء، تتطابق مع ما حصل خلال الحرب الأهلية وبعدها، إذ بنى كثيرون أبنية تتلاصق بأخرى، وفي أماكن ضيقة، فاختفت زواريب ومساحات كانت ملاعب للأطفال والذكريات. لم تعد المدينة تتسع لموطئ قدم، زحمة الباطون باتت تنافس ازدحام البشر. ومن يتعمق أكثر في قراءة المعرض، يلاحظ ارتفاع الأسعار، وغلاء المواد الأولية للبناء، وصعوبة شراء شقة في ظل الركود الاقتصادي، وانعدام فرص العمل، وارتفاع نسبة البطالة. يُلمِّح سليمان الى اعتماد كثيرين على بطاقات الاعتماد، إذ بات امتلاك المنازل في بيروت حكراً على طبقة معينة، فيما تضطر فئة من الشباب إلى الهجرة لسنوات طويلة لشراء منزل في مدينة «لفظتهم» وتخلت عنهم. قصد الفنان اللبناني المقيم في لندن، أن يبني المدينة بلا نوافذ أو أبواب، ليقول أن هذه الطريقة العشوائية في تراصف الكتل الاسمنتية، لا تدعو إلى الأمل. فالنافذة مساحة نُطل منها على العالم الخارجي، هرباً من الداخلي، وكأن سليمان يقول أن داخل بيروت بات يُشبه خارجها. الورق المستخدم هو ورق لعب، أعيد إنتاجه وفق مسار صناعي لا يبتعد كثيراً عن ذاك المتّبع في بناء المنازل. ومن خلال علب التوضيب المصنوعة من كرتون صلب، جمعها من ساحات لندن وشوارعها، يصنع سليمان أوراق لعب، محددة القياس واللون والشكل، تحمل كل واحدة منها بصمة لا تشبه الأخرى. وإذا كان قياس ورق اللعب محدداً بطريقة عشوائية، فإن اختيار أوراق «الكُبّة» و «الديناري» ليس عن عبث. فمن خلال أوراق «الكُبّة»، التي يرمز إليها بالقلب، يريد سليمان القول أنه يعشق بيروت، أما أوراق الديناري، التي يرمز إليها بشكل يشبه قطعة ألماس، فمرتبط بإعلان لفته خلال زيارته بيروت السنة الماضية، مذيّل بعبارة باللغة الفرنسية: «Mon bijou, mon droit»، أي «مجوهراتي، حقّي». وهنا يسأل سليمان: «لمن هذه الأبنية الشاهقة في بيروت؟ وهل يمكن الركون أو الوثوق بمغامرة تشييدها، التي ينبغي أن يرتكز الاقتصاد الوطني إليها، فيما أزمة السكن بلغت حدّها الأقصى مع عجز الشباب وأصحاب المداخيل الصغيرة والمتوسطة عن تملّكها؟». ويضيف: «هل بات الحصول على حقوق الإنسان الأساسية، المكتسبة نظرياً، مرهوناً بقدرتنا الشرائية؟». تساؤلات يحيلها سليمان في عمارته إلى كل من يقصدها أو يتأمل أنساقها العشوائية، تاركاً صوغ الإجابات إلى كل فرد، ببصمته الخاصة ووفق تجربته الشخصية وإمكاناته. تندرج عمارة سليمان هذه في إطار سلسلة أعمال قدمها في السنوات الأخيرة، تتمحور حول مسألة العمران في لبنان. وعلى عادته في معظم أعماله، ينطلق من حدث أو فكرة سياسية أو قضية اجتماعية ملحّة، مقارباً مادته وفق أسلوب خاص ونظرة فنية ثاقبة، انطلاقاً من تصوّر مسبق لما سيكون عليه نتاجه الفني. سليمان الذي ولد في نيجيريا عام 1952، درس في لندن وعاش فيها، وأقام العديد من المعارض الفردية والجماعية في لبنان ودول أوروبية.