لماذا في هذا الوقت بالذات؟ هو السؤال الكلاسيكي المعهود الذي ترفعه، فوراً وبعصبية ظاهرة، عقليات نظرية المؤامرة وتفسيراتها السوريالية لحظة وقوع أي حدث ملفت، إن كان في العالم العربي أو العالم الإسلامي عموماً. أما الملفت للنظر حقاً في أيام ربيع الانتفاضات الشعبية السلمية والمدنية والمدينية على أنظمة الاستبداد العربية – والتي لم أكن أتوقع بأن أحيا بما فيه الكفاية لأعيش أيامها وأتابعها – فهو أن الطرف الذي هرع بعصبية لا تجارى وبهلع لا تخطئه العين إلى الاحتماء ب «المؤامرة» وبنظرياتها وتفسيراتها هو أنظمة الاستبداد ذاتها، وليس الأوساط الشعبية الثائرة والتي كنا نقول عنها دوماً إنها هي المغرمة، إلى حد الخبل أحياناً، بالتعليلات المؤامراتية وبسذاجاتها وتبسيطياتها. هذا، بعد أن كانت أنظمة الاستبداد نفسها ودول الإكراه التابعة لها قد بذلت جهوداً حثيثة في تقديم نفسها على أنها المركز المُرَكَّز للميول الأكثر عقلانية واستنارة وإحاطة ووطنية ومدنية في مجتمعات عربية ما زالت الانقسامات العمودية، الطائفية والمذهبية والإثنية والقبلية والجهوية، تفعل فعلها التفتيتي في شعوبها وفعلها التأخيري التفويتي في مجتمعاتها. إلا أن المعادلة انقلبت فجأة رأساً على عقب. قلبتها الانتفاضات الشعبية من تونس إلى اليمن مروراً بمصر وسورية والبحرين وليبيا و... وقد شاهدنا الأنظمة العربية إياها وهي تتشبث، في ساعة الحقيقة، تشبثاً ميكانيكياً تكرارياً وعصابياً بأكذوبة «المؤامرة» وتتمسك، كيفما اتفق، بالالتواءات الكافكاوية لمنطقها الهاذي والمتضمن كله في السؤال الأصل: لماذا في هذا الوقت بالذات؟ جواب الشاعر العربي جاهز: في هذا الوقت بالذات لأن طبائع الاستبداد جعلتهم من أولئك الذين لا يتّقون الشر حتى يصيبهم ولا يحسنون الأمر إلا تدبّرا ولأنهم غدوا «لا يحسنون الأمر إلا تدبرا»، تحولت في نظرهم تلك الجموع الهائلة المنتفضة من شعوب اليمن وليبيا وتونس ومصر وسورية والبحرين إلى لا أكثر من قطاع طرق، ومندسّين مخربين، وعصابات مسلحة، وإرهابيين قتلة، هذا في أحسن الأحوال، وإلى مجرد جرذان وفئران وحشرات وما شابه، في أسوَئِها. بطبيعة الحال ليس المطلوب كشف أية مؤامرة حقاً ولا أية إجابة جادة أو شبه جادة عن السؤال: «لماذا في هذا الوقت بالذات؟»، بل المطلوب كل المطلوب هو القدح الخبيث في استقلالية الجمهور الكبير الثائر والمطالب والمضحي، والتشكيك الماكر في أهليته وسيادته على نفسه مع التلميح الملتوي إلى قصوره العقلي والسياسي والوطني إضافة إلى الإيحاء بوجود إرادات شريرة خفية ونوايا مؤذية مموَّهة خلف تحركه وانتفاضته، لا تعرف كنهها أو تفهم خطرها على الوطن ووحدته سوى تلك «الأيدي الأمينة» الحافظة للنظام وأمنه ودولته وسلطته ما من شأنه التوحيد بين أمن الاستبداد وتسلطه واستمراره من ناحية، وأمن الشعب والوطن والدولة وديمومتها جميعاً، من ناحية ثانية. الشعب التونسي حرّ لكن جموع المحتجين والمعارضين والمنتفضين من أهل الربيع العربي قدمت أجوبة من نوع آخر عن السؤال: لماذا في هذا الوقت بالذات؟ وما من جواب أكثر بلاغة عن السؤال من تلك الصرخة التي أطلقها ذلك المحامي الشاب، وهو يتلوى فرحاً ويهتز نشوة في أحد شوارع تونس العاصمة: «الشعب التونسي حر»، لحظة سماعه بفرار زين العابدين بن علي وعائلته من البلاد، صرخة مدوية تابعها العالم أجمع صوتاً وصورة في كل مكان تقريباً على سطح الكرة الأرضية. بعبارة أخرى: ثورة الياسمين جاءت في هذا الوقت بالذات لأن الشعب التونسي حر وليس لأنه ضحية لأية مؤامرة. ولا يقل عن ذلك الجواب بلاغة تحسُّر ذلك الشيخ التونسي الذي شاهدناه جميعاً على شاشات التلفزة وهو يتلمَّسُ شيبته ويقول متأسفاً على عمره الضائع، «هرمنا، هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية»، التي أتته وأتتنا متأخرة، ولكن لحسن حظنا جميعاً، قبل فوات الأوان. جواب ثالث بليغ تابعناه بالصوت والصورة أيضاً: في هذا الوقت بالذات لأن «الشعب يريد إسقاط النظام»، إنقاذاً للوطن ولنفسه معاً، وليس إنجراراً أبله وانسياقاً ساذجاً مع مؤامرة أكَّد صاحب «الأيدي الأمينة» الرئيس علي عبدالله صالح، مُحقِّراً شعب اليمن، بأنها تحاك في البيت الأبيض وتدار من تل أبيب. هناك من رأى أن انتفاضات الربيع العربي في تونس ومصر واليمن والبحرين وسورية وليبيا وغيرها هي استمرار للثورة الإسلامية الشعبية في إيران على الاستبداد الشاهنشاهي بالبلاد، أو هي محاكاة ما للحراك الشعبي الديموقراطي العارم الذي أطاح بنظام سوهارتو العسكري الديكتاتوري في إندونيسيا (1997 – 1998)، أو هي امتداد لانتفاضة الأرز المليونية التي خلَّصت لبنان عام 2005 من الوصاية العسكرية والأمنية السورية المريرة على الجار الصغير، أو هي تقليد لحركة الاحتجاج والتظاهر الخضراء في إيران في 2009 اعتراضاً على التزوير الحاصل في الانتخابات الرئاسية هناك لإنجاح مرشح النظام محمود أحمدي نجاد. وهناك من ذكر، في هذا الصدد، الحراك الشعبي السلمي الهائل الذي أطاح بحكم ديكتاتور الفيليبين فرديناند ماركوس وزوجته إيميلدا عام 1986 لمصلحة حكم ديموقراطي جديد ومقبول. ربيع دمشق، 2000 لا تعير هذه الظنون والافتراضات، على جدارتها، أية أهمية تذكر لربيع دمشق في 2000. فهو، في هذا السياق، يشكل، في نظري، نوعاً من «المقدمة النظرية» و «البروفة» الأولية السلمية والمسالمة كلياً وقته لما ستتفجر عنه الانتفاضات العربية اللاحقة من شعارات ومطالب وشكاوى ونداءات وتطلعات وتضحيات. أقول إن الريادة عربياً في هذا المضمار كانت لربيع دمشق لأن مجموع الشعارات والمطالب والاحتجاجات التي رفعتها الانتفاضات الشعبية العربية من تونس إلى اليمن مروراً بليبيا الجريحة، موجودة كلها تقريباً – بصيغة راقية جداً – في الوثائق السياسية – النقدية – الإصلاحية التي طرحتها حركة إحياء المجتمع المدني في سورية أثناء ربيع دمشق القصير. فقد طرحتها للنقاش الديموقراطي العام عبر موجة واسعة من المحاضرات والندوات والسجالات والمنابر والمنتديات والجلسات والأطروحات والأطروحات المضادة والانتقادات والكتابات التي عمت سورية كلها في تلك الفترة. وكان الأمل في أن تشارك القيادة الشابة لسورية وقتها في هذا الحراك الحي والمنعش وأن تدلي بدلوها في سجالاته الجارية تمهيداً لتشكل رأي عام جامع بالنسبة لما تحتاجه سورية من إسعافات عاجلة وإصلاحات متوسطة ومعالجات آجلة. على سبيل المثال، إن «بيان ال 99» مثقفاً سورياً (دمشق 30/9/2000) و «الوثيقة الأساسية للجان إحياء المجتمع المدني» المعروفة ب «بيان الألف» (دمشق، كانون الثاني – يناير 2001) و «بيان ملتقى أنصار المجتمع المدني» (دمشق، آب – أغسطس 2002) تتناول وتشخص بدقة وإيجاز المسائل والقضايا والمعضلات والثغرات التي ثارت بسببها، ومن أجل تسويتها وإصلاحها، كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية والبحرين عام 2011، وعلى رأسها الحرية والكرامة. معروف أن شيئاً مما ارتجاه ربيع دمشق وتطلع إليه لم يحدث أو يتحقق، بل حدث عكسه تماماً بقيام السلطة الأمنية بخنق مناقشات الربيع تدريجاً وصولاً إلى وأده تماماً قبل أن تتفتح أية زهرة من أزهاره. قُمع ربيع دمشق: لأنه تحسس علناً الأزمات المتراكمة في البلد من دون أن تكون له يد في صنعها؛ ولأنه تلمّس صراحة الانسدادات والاختناقات التي أخذ النظام ينوء تحتها، علماً بأنه لم تكن له يد في جلبها، ولأنه استجاب بوضوح إلى حال التردي العامة في المجتمع، مع العلم أنه لم تكن له يد في إنتاجها؛ ولأنه انفعل بمشكلات مستعصية ومآزق مستشرية في طول البلاد وعرضها، مع العلم أنه لم تكن له يد في فعلها. لهذا السبب وفي هذا الوقت بالذات سالت الدماء الزكية في شوارع مدن سورية وبلداتها وقراها، وليس لأن جموع المحتجين في جميع أنحاء البلاد تنفذ مؤامرة خارجية جهنمية للنيل من استقرار الوطن ومنعته. والخوف كل الخوف في أن تكون سياسة التعامي الإرادوي الرسمية عن هذا كله، وسياسة التعامل الأمني مع كل احتجاج وتظاهر ورفع مطالب شعبي سلمي على أنه فتنة وتمرد وعصيان وخيانة لا أكثر، قد عمَّقت شرخاً عميقاً، لا نجاة منه في المستقبل المنظور، بين النظام الحاكم والمجتمع السوري عموماً – سياسات ستدفع بهذا الشرخ، إن لم تتوقف، للتحول إلى فتنة طائفية وطوائفية معممة في البلاد حتى لو ظلت مستترة تقيةً إلى حين انفجارها مجدداً. طبيعة الانتفاضات سُمِّيت انتفاضات الربيع العربي الراهن بثورات الشباب وثورات التكنولوجيا العالية للاتصالات والمعلوماتية مثل الإنترنت والكومبيوتر المحمول والتلفون النقال وفايسبوك وتويتر ويوتيوب والفضائيات المتابعة لتطور الأحداث لحظة بلحظة وعلى مدار الساعة. وفي هذا كله نقلة نوعية هائلة لعبت بصورة حاسمة لمصلحة الشعوب الثائرة، وبمساعدتها على تعزيز المنحى السلمي لتحركها، وعلى الظهور بمظهر الحراك الواعي والمثقف المتمكن من أحدث إنجازات العصر في ميدان تكنولوجيا الاتصالات وتبادل المعلومات ونقل المعارف والاتصال والتواصل اللحظي في شكل عام. وفي الوقت نفسه وضعت النقلة النوعية هذه الأنظمة وأجهزتها الأمنية في موضع المتخلّف عن الركب الذي ليس لديه من أسلوب للتعامل مع الوضع المستجد إلا الاحتماء وراء الخصوصيات التي نعرف أنها تميز كل دولة عربية عن أخواتها والإصرار المفاجئ على كل ما يفرِّد أي بلد عربي عن جاره أو يفرِّقه عن باقي البلدان العربية. من هنا الادعاء الحكومي الرسمي العربي الصاخب، في زمن الثورات والانتفاضات، بأن مصر ليست تونس وأن ليبيا ليست مصر أو تونس وأن سورية ليست تونس أو مصر أو ليبيا... هذا في وقت لم تكن مصر يوماً أكثر شبهاً بتونس ومصر والبحرين وليبيا مما هي عليه اليوم على أرض الواقع الثوري القائم ذاته. فكما أن المواطن البحريني المنتفض يريد إصلاحاً يؤمن له ملكاً دستورياً حقيقة ورئيس وزراء لا يعيّنه القصر بل تفرزه الساحة، فإن المواطن المصري والسوري المنتفض بدوره يريد هو أيضاً إصلاحاً يؤمن له رئيساً دستورياً حقيقياً للجمهورية ورئيس وزراء لا يعينه القصر، بل تفرزه الساحة الأكثر ديموقراطية في بلده. لذا أقول: لم يشعر المواطن العربي منذ زمن طويل نسبياً بتقارب المجتمعات العربية وتشابهها، مشكلات ومعضلات وتحديات وانسدادات واستبدادات وحراكات ومخارج وحلولاً، كما أخذ يشعر في زمن الربيع العربي الثوري الراهن. حتى المعادلة القومية العربية الرومانسية القديمة القائلة «بوحدة آلام الأمة وآمالها» اكتسبت أخيراً معنى ملموساً، إذ أصبح واضحاً أن آلام شعوب اليمن وتونس ومصر وسورية وليبيا والبحرين وآمالها، على سبيل المثال، لم تكن في يوم من الأيام متوحدة عيانياً، وليس رومانسياً، ومتشابهة عملياً، وليس تجريدياً، كما هي اليوم بالفعل، على ما يتبين من مطالب المتظاهرين وشعاراتهم واحتجاجاتهم وسلوكهم في كل دولة من دولنا العربية تقريباً. لقد أظهر الربيع العربي «وحدة عربية» من نوع آخر أيضاً تجسدت في منهج الأنظمة وأجهزتها الأمنية في التعامل الميداني مع الوضع الشعبي الثوري المستجد. فقد أثبتت كلها أنه ليس عندها من حيلة أفضل من القمع العنيف والقنص من بعيد وإطلاق الرصاص الحي على المدنيين وتعريض جموع المتظاهرين والمحتجين والمعارضين إلى هجمات البلطجية والشبيحة بشراستها القاتلة. لذلك، يمكننا القول أيضاً بأنه لم تظهر وحدة الأنظمة العربية الأمنية وتشابهاتها في الاستبداد ببلدانها وفي الاستتباع لشعوبها كما ظهرت في أيام الربيع العربي المجيدة. لا بد من تحفظ هنا عن بعض النزعات التي تريد أن تختزل ثورات الربيع العربي والجديد فيها، خصوصاً في نموذجي تونس ومصر، إلى الفئة العمرية الشابة الطاغية فيها وإلى تكنولوجيا الاتصالات العالية المستعملة على نطاق واسع في تسييرها. الشعوب تصنع الثورات والانتفاضات، والبشر هم الذي يتظاهرون ويحتجون ويعترضون ويستخدمون التكنولوجيا بأدواتها المتوافرة لهم مهما كان نوعها. معروف أن الشباب يشكلون الفئة العمرية الأوسع والأكبر في التركيب الديموغرافي للشعوب العربية عامة. لذا، لا مفاجأة في أن تميل انتفاضات شعوبنا الآن إلى أن تكون ثورات شباب وشابات، ولا غرابة في أن يستعمل هؤلاء التكنولوجيا المعاصرة المتوافرة لهم تماماً كما استعملت الثورات والانتفاضات في أزمنة سابقة الكاسيت والراديو والترانزيستور والجريدة والنشرة والكُرّاس وإذاعة صوت العرب وحتى الحمام الزاجل، في تحقيق أهدافها وخدمة أجنداتها. قطع مع الزعامة الكاريزمية في الوقت ذاته قطعت شبابية هذه الانتفاضات قطعاً جذرياً مع التقليد العربي العريق الذي يتطلب صعود زعامات كاريزمية تلتف حولها وحول قيادتها جماهير الثورة نفسها، كشرط لازم للنجاح وتحقيق الأهداف والمطالب. فانتقلت بذلك كاريزما اللحظة الثورية من التمركز المعهود في الفرد القائد أو الزعيم الفذ إلى الانسياب والسريان في الجموع المحتشدة في ساحات التحرير والتغيير العربية ليصبح الحشد نفسه هو اللحظة الكاريزمية الحقيقية للثورة والتغيير، وهذا تطور مهم جديد علينا بالتأكيد. لهذا السبب، تميزت ساحات التحرير والتغيير في تونس والقاهرة وصنعاء والمنامة وبنغازي، مثلاً، بمشاركة مدنية كثيفة جداً للنساء وبالحضور المشهود للأطفال والأولاد والبنات في مدن ومجتمعات محافظة جداً، إضافة إلى أشكال من الفن وأساليب التعبير المبتكرة من موسيقى وعزف وأغنيات، إلى تمثيليات ورقصات وبالونات وصلوات، مروراً برسوم ساخرة وتعليقات هازلة وكتابات «غرافيتي» ناقدة، ذلك كله بوجوه فرحة عموماً على رغم البلطجة الهاجمة والتشبيح المميت والقمع المعمم والرصاص الحي بالجملة. هذه كلها ظواهر شبابية جديدة مبتكرة لم نعهدها سابقاً في تظاهراتنا واحتجاجاتنا وانتفاضاتنا التي كانت دائماً عابسة بقسوة، متجهمة الوجه بشدة، غاضبة بحدة، مزمجرة بعدوانية وميالة إلى إحراق الأعلام وغير الأعلام وإلى إضرام النار في الكتب والمنشورات ومهاجمة السفارات ورفع شعارات العنف والتهديد والوعيد. في الواقع، انحصر معظم هذه المظاهر القبيحة، وللمرة الأولى، في محيا أنظمة الاستبداد والقمع نفسها وفي سلوك أجهزتها ورجالاتها وبلطجيتها وشبيحتها و «أيديها الأمينة» دون سواهم، فكانت سيماهُم في وجوههم من كثرة السجود والارتزاق والولاء الأعمى. لقد أثبتت اللحظة الكاريزمية لانتفاضات الربيع العربي نضجاً فائقاً تمكن من تخطي السيناريو الحديد الترويعي الذي روجت ومكنت له الأنظمة وعملت على أساسه لفترة مديدة. إنه السيناريو الذي كان يضع مجتمعاتنا أمام خيارات قاسية وصارمة لا فكاك منها من النوع الآتي: إما استمرار استبداد دولة الأحكام العرفية وحالة الطوارئ والأجهزة الأمنية القائمة حالياً، من جهة أولى، أو حكم القوى الإسلامية الأصولية الظلامية العازمة على إلغاء تاريخنا الحديث باسم الحاكمية الإلهية وعبر أحكام عرفية جديدة اسمها الشريعة الإسلامية بقانون عقوباتها المعروف، من جهة ثانية، أو التفتت العمودي الطائفي والمذهبي والإثني والجهوي والعشائري والقبلي للبلد والدولة مع ما يعنيه ذلك من فتن وحروب أهلية، من جهة ثالثة. في الحقيقة، سلكت الأنظمة إياها سلوكاً ماكراً واعتمدت سياسات داخلية مصلحية فئوية ضيقة وهدامة هدفها الأساسي تدمير كل الاحتمالات والإمكانات والبدائل التي يختزنها المجتمع المدني في ذاته، بحيث لا يجد الناس أنفسهم إلا أمام الخيارات الثلاثة الشريرة المذكورة أعلاه، فيضطرون لاختيار أهون شرورها، أي الاستكانة والخضوع والقبول ببقاء كل شيء على ما هو عليه مهما كان رديئاً. أما الأخ القائد العقيد معمر القذافي فقد ذهب إلى أبعد من ذلك بتبنيه الاختيار الشمشوني: إما أنا... أنا... أنا... والعائلة والأولاد في السلطة، أو أهدم معبد الوطن الليبي على رؤوسنا جميعاً. تجاوزت الانتفاضات الشعبية هذا السيناريو التهديدي التجميدي – تجاوزته من حيث المبدأ – بمدنيتها الشفافة ومواطنيتها الجامعة ووطنيتها المنفتحة وإنسانويتها المتسامحة وديموقراطيتها الوليدة. كما أن الجهد المطلوب لتفعيل هذا التخطي وتعزيزه واستكمال عناصره على المدى المنظور، والعمل بوحي القيم والخصائص والمبادئ التي أفرزها بالممارسة العملية اليومية في لحظته الكاريزمية المؤسِّسة، هو القادر على استيعاب الولاءات والعصبيات والمذهبيات الأهلية تحت المدنية والوطنية في مجتمعاتنا وعلى كبح جماحها وإذابتها عبر تصعيدها باتجاه اندماج وطني أرقى. وهو القادر أيضاً على التعامل مع الديموقراطية وآلياتها الدستورية والانتخابية في شكل لا يسمح لأية أكثرية سياسية – انتخابية، مهما كانت، باحتكار السلطة والاستبداد بالبلد مجدداً، وذلك عبر حفظ حق الأقلية السياسية – الانتخابية في أن تمارس دورها الديموقراطي المعارض في المجتمع والدولة، وحقها في أن تُحوِّل نفسها ديموقراطياً إلى أكثرية حاكمة جديدة لاحقاً. إذ من قال إن الأكثرية، متروكة لسجيتها بلا ضوابط، لا تستبد بنفسها وبشعبها وبدولتها وبأقلياتها. وهو القادر كذلك على تأمين المزيد من التمكين للمجتمع المدني وقواه وحراكه وقواعد التعامل فيه؛ وعلى تأكيد التوسع في معنى مدنية الدولة وحياد أجهزتها ومناصبها وأحكامها وإجراءاتها بما في ذلك مبدأ فصل السلطات واستقلال القضاء؛ وعلى ضمان حد أدنى من الاحترام لحقوق الإنسان والمواطن والمواطِنة وحرياتهم الشخصية والعامة جميعاً وعلى رأسها حرية الضمير والتفكير والمعتقد والتعبير والعبادة أو عدمها. ***** أخيراً، قالت لي زوجتي إيمان إذا كان المجد يعود إلى الشاب محمد البوعزيزي لإطلاقه شرارة ثورة الياسمين في تونس، بإحراقه نفسَه وليس غيرَه احتجاجاً، وإذا كان المجد يعود إلى الشاب المصري خالد سعيد الذي قضى تحت التعذيب بعد أن اعتقلته الأجهزة الأمنية المعروفة، فانتقلت شرارة الانتفاضة إلى الساحات والميادين في مصر، فإن مجد إطلاق شرارة انتفاضة الشعب السوري يعود، بالتأكيد، إلى فتيان درعا الذين اقتلعت أظافرهم وأحرقت أكفهم بالنار بعد الاعتقال. * مفكّر سوريّ... والنصّ أعلاه يُنشر في وقت واحد مع مجلّة «الطريق» اللبنانيّة في عدد خاصّ بالانتفاضات العربيّة.