على قدر طموح القائمين على مهرجان أبو ظبي في تحويل عاصمة الإمارات العربية منبراً للثقافة وملتقى للفنون العالمية، تتراءى أبو ظبي مدينة حاضنة للتجارب الفنية المتميزة، واعدة بالأحلام والمشاريع التي تؤسس لوعي حاد بأهمية الزمن العمودي بطبقاته المتعاقبة، من خلال استيعاب ثمار الفكر والتشكيل والموسيقى والعمارة والمسرح ومختلف مجالات الإبداع. فالمهرجان الذي حمل شعار «لأجل السلام والوئام الإنساني» استقطب في دورته الثامنة 2011، كوكبة من كبار الفنانين على المستويين الإقليمي والعالمي، سعياً إلى إثراء الرؤية الثقافية بشتى تنوعاتها. لكأن أبو ظبي تشهد لمرحلة مهمة من التأسيس لبنيان الثقافة التي تتجه غرباً وشرقاً، ضمن خطة تسعى إلى تعزيز دور الثقافة في المجتمع الإماراتي وهي ما ترمي إليه هدى الخميس كانو - المؤسس والمدير الفني لمهرجان أبو ظبي - فضلاً عن برامج تعليمية وأكاديمية وتقديم المنح للتخصص في الخارج، وذلك لصقل المواهب وتعزيز إمكانات الجيل الإماراتي الصاعد على التعبير الفني، إضافة إلى تكريم المبدعين العرب والعالميين. يستضيف مهرجان أبو ظبي رائعة الفنان الجزائري العالمي رشيد القريشي «طريق الورد»، وهو طريق السفر الروحي عبر الأزمنة والتأمل في القيم الجمالية المستمدة من الدلالات الحروفية والإشارات والرموز والكتابات المرتبطة بالروح والإنسان كارتباطها بدلالات التصوف العميقة المستلهمة من تراث الشاعر والمتصوف جلال الدين الرومي منذ القرن الثالث عشر. وهو تركيب تجهيزي ذو بنية فضائية متعددة الوسائط ومتنوعة الوجهات، يمكن أن يندرج ضمن الفن المفاهيمي، لارتباطه بالقيم التنظيرية - الفكرية والخبرات المتشعبة التي يمتلكها القريشي، في بحثه المتنامي طوال خمسة وأربعين عاماً عن كيفية التعبير عن الفكر الصوفي (العطار وإبن عربي والرومي والجيلاني والحلاج) بأسلوب تعبيري غير تقليدي وغير مباشر، يذهب إلى الرمز من خلال احتوائه على عناصر من الحِرف اليدوية التقليدية، كالمطرزات والرسم على الخزف وتفريغ الفولاذ في أشكال نحتية تنبري للعيان بدينامية لافتة متأتية من تقدم تجربته في مرحلة ما بعد الحداثة نحو تجديد العلاقة مع التراث الإسلامي. لعل ميزة القريشي أنه أعاد للفنون التطبيقية الإسلامية سحر حضورها في سياق وظائفية جديدة ضمن إطار ورشة عمل جماعية تسعى إلى تحقيق تميزها في مشهدية الفن المعاصر، الذي يشهد صعود رواج الموجة الثانية من الحروفية. ولطالما ربطت الفنون الإسلامية بين الفن والحِرفة في فكر استباقي لما سيؤول إليه التجريد في الفن الغربي الذي ظهر مع مدرسة الباوهاوس. منذ البداية كانت مقاربة القريشي للتجريد الحداثي الغربي من خلال الرموز والطلاسم والكتابة الحروفية، تتصف بالمرونة والحرية غير المقيدة، لذا تميزت تجربته عن سائر الفنانين العرب - الذين استلهموا الحرف العربي كنوع من المقاومة الاستعمارية، بحثاً عن هوية خاصة متجذرة في التراث - باستخدام الورق والحرير والزجاج والسيراميك. في مرحلة ما بعد الحداثة ذهب القريشي إلى أبعد من ذلك في استقطاب مهارات الفنون الإسلامية كي يضعها موضع التجهيز في إنشاءات فضائية قائمة على مبادئ جمالية مستوحاة من الكتابات الصوفية على غرار قول إبن عربي: «الوجود حرف معناه يكمن فيك أنت». لا يمكن النظر إلى فن القريشي بعيداً من العوامل التي أسست لمكوّناته البصرية والعاطفية. فهو يجمع ما بين التنشئة الإسلامية الصوفية، كونه متحدّراً من نسل قبيلة قريش التي خرج منها نبي الإسلام محمد (صلّى الله عليه وسلم)، والثقافة الفرنسية الناتجة من رواسب الاستعمار الفرنسي، غير أن إقامته في باريس وضعته في قلب تيارات الحداثة وما بعدها، كمشارك ومتفاعل ومدرك لأهمية مكونات التراث الإسلامي التي غيرت وجه الفن في العالم الأوروبي، منذ عصر النهضة حين دخلت زخارف المنسوجات والقطع الإسلامية وفنون العمارة إلى الغرب بعد سقوط الأندلس ومن ثم انتقال فنون الحضارة العثمانية، لا سيما فن المنمنمات إلى الغرب مرة جديدة في القرن السابع عشر، ما مهد للاستشراق، وصولاً إلى مرحلة الحداثة مع ماتيس وكاندنسكي وكلي ورانسون وسواهم. هكذا بين لقاء الشرق والغرب بين حوار الحضارات أو صراعها في مرحلة الانفتاح والعولمة تقف أعمال القريشي شاهدة على هذه التحولات العميقة في الاتجاهات والأساليب كي تؤكد حضورها الراسخ المبني على قناعات وإن بدت للعيان أنها شديدة الرمزية. فقد أخرج القريشي مرسوماته الخطوطية من قلب لوحة المسند كما كان سائداً في مفهوم الحداثة إلى حيز البصر واللمس والإحساس، لكي ينشرها في فضاءات الأمكنة وعلى مختلف الحوامل بطواعية مدهشة، قائمة على تطبيق تعبيراته الغرافيكية مع موتيفات معمارية وزخارف طلسمية بما يتيح لمشهدية معاصرة يسودها المنهج الصوفي - الطقوسي الطابع والنظام الهندسي الخفي الذي يتجلى في طريقة التفكير والتكوين الفضائي - المكاني. إذ إن تجهيز «طريق الورد» يبدو متقشفاً من خلال هيمنة لغة الأسود والأبيض في استعارة شعرية لثنائية الظلمة والنور، لكنه يحتفي باللون الأزرق الذي يرتسم على الأطباق الخزفية والنسيج الذي لطالما كان يتصدر البيوت ويزين الأضرحة. وما بين السكون والحركة يتخذ هذا العمل تأليفاً أفقياً وعمودياً ينقلب فيه البصر إلى الأعلى ليعود في دائرة لولبية جامعة لكل عناصر التجهيز إلى نقطة البداية: ألا وهو اسم الجلالة، للإيهام بطريقة دوران الدراويش وفق الطريقة المولوية (المتأتية من فكر جلال الدين الرومي في تركيا)، حيث التقاطع الوهمي للأقواس ينشأ منه شكل الوردة التي أعطت اسمها لكامل التجهيز. بدأ «طريق الورد» يرتسم منذ عام 2001 بدءاً من قونيا - تركيا، حيث عمل القريشي في ورشات السيراميك في كابادوكيا وأزنيق والأخيرة هي إحدى الدعائم الثلاث للسيراميك الإسلامي منذ القرنين الخامس والسادس عشر. ثم سافر إلى المغرب كي ينجز منحوتاته المعدنية الكبيرة في الدارالبيضاء. أما التماثيل الصغيرة فقد نفذها في وقت لاحق في تونس والمنسوجات في مراكش. وبالتالي، فإن ابتكار العمل كله أشبه بالزيارة المقدسة الى مناطق مختلفة من العالم. هكذا ضم القريشي مجموعات مختلفة كي يكتب فوارق المكان والثقافات والشخصيات والمهارات تماماً مثل رحلة مكونة من خبرات ثرية بالظروف والشخصيات التي قابلها المسافر على طول الطريق. جالت أجزاء من هذا العمل في البندقية ونيويورك وعمان والجزائر، أما العرض الخامس للتركيبة الفنية الكاملة فهو في أبو ظبي عام 2011 مع موقع مسرحي مبتكر حديثاً. وبالتالي فإن هذا التجهيز يميز عقداً من الزمان سافر خلاله العمل عبر أوروبا والولايات المتحدة والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وصولاً إلى شبه الجزيرة العربية، والذي تستعيد حركته بالمعنى الشعري، تفعيل الارتحال لشخصية إبن الرومي التاريخية التي خصص العمل من أجلها. يحتوي التركيب على ثلاث سلطانيات كبيرة مزخرفة مصنوعة من البورسلين و21 سلطانية أصغر منها، تحتوي على ماء للتذكير بالوضوء وثلاث أوراق من الورد (ترمز إلى الديانات الثلاث)، و28 تمثالاً كبيراً من الصلب و89 تمثالاً أصغر، و28 قطعة منسوجة يدوياً ومطرزة، وتمثال وحيد من البرونز يقوم بدور نقطة محورية يقف تجاهها الباقون نُقش عليه صفة الخالق: الودود الحكيم. هكذا يبدأ «طريق الورد» بنقطة مركزية هي اسم الله وظله، وهي نقطة لامعة من الضوء المحاط بالظلال السوداء، بما يشبه الأسود فوق الأسود، مما يخلق انعكاساً شيقاً حيث التأثير الذي تراه هو الضوء الذي يلقي غياب الظل. وتقع هذه النقطة اللامعة في مقابل جدار يحتوي 196 تمثالاً تمثل المؤمن المصلي، إذا نظر إليها المرء مواجهة عن قرب لن يرى منها غير القاعدة وحركة الظلال التي يرسمها الضوء على سطح الجدار. أما التماثيل الكبيرة فهي عبارة عن أشكال خطوطية مفرغة على الفولاذ باللون الأسود وقد رُتبت أفقياً بطول ممر محوري مركزي، محاط عن الجانبين بستائر تحتوي في قسمها العلوي على أسماء الله الحسنى مكتوبة بالنور وهي عبارة عن تصميمات ضوئية نفذها الفنان حليم فايدي مع جورج بيرن، حتى إذا فُتحت الستائر كشفت عن منسوجات معلقة داخل حجرات صغيرة منعزلة، وهي باللونين الأزرق النيلي والذهبي (كرمزين للحكمة المقدسة وضياء الأثير السماوي). هذه الحجرات الجانبية تمثل عزلة المؤمن والحجاب الرقيق الذي يحول بينه وبين الخالق. تذكر خطوطية القريشي بغرافيكية ألشنسكي (فن الكوبرا) غير أنها تلتقي أكثر ما يكون مع رموز الكتابة الصينية، التي ينفي القريشي علاقته بها ويعللها بأنها اختصارات للأشكال الإنسانية. ولكن من الغرابة أن ينفي الفنان عن نفسه صفة «الحروفي» ربما لاستبعاد فكرة ترسيم الحروف العربية على طريقة الخطاطين. غير أن ما يمثُل في فن القريشي هو ليس الحرف وحده، بل يظهر شكل الإسطرلاب، الذي يجمع بين الرسم والعلم والفن والتنجيم والدين معاً في توليفة شعائرية، تتردد على الأواني والنسيج. فلدى القريشي صورة مفاهيمية مشبعة بالرموز ما بين العربية والبربرية وحروف الطوارق والمربعات السحرية وأرقام الطلاسم (كالرقم 7) وكذلك رسوم الكف والعلامات الايقاعية للفن الحجري على جدران الصخور في تاسيلي ناجير في الجزائر، وهي الجذور الفنية الأولى التي ينتمي إليها القريشي، بحكم نشأته في عين البيضا عند جبال الأوراس. وقد عمل على تحويل هذه العلامات والرموز الى شيفرات شخصية وشعر مجسد تجريدي في تكاوين جمالية تعتمد على الكتابة العكسية (من الشمال إلى اليمين، بما في ذلك إمضاء الفنان)، أشار اليها القريشي بأنها «حروف هجاء الذاكرة» لأنها تتجاوز حدود الزمان والمكان. والكتابة العكسية هي من ألغازه الكبرى، لأنها تحتاج إلى مرآة لقراءتها في شكل صحيح. والمرآة في الفكر الصوفي هي الحقيقة وهي رمز الإظهار والعلن، وطريق لمعرفة الخالق. «طريق الورد» هو طريق حافل بالطقوس والشعائر والذكريات وتجارب السفر. وفي سفر القريشي إلى الرومي إنما يسعى للتعبير عن نفسه، في خضم الوقت الزائل كرديف للأبدية وغياب الحياة العابرة. هذا السفر المسكون بالعزلة والرهبة والذكر، إنما هو لاقتفاء خطى السالكين شوقاً لاكتشاف النور في مرآة الحقيقة المطلقة.