لا يُمثّل النص الشعري الجديد حقيقة جمالية فحسب، بل حقيقة اجتماعية أيضاً. هذا لا يعني أن النص يبحث عن وظيفة خارج خصائصه النوعية، بل يعني أن التاريخ الذي تشكَّل النص تحت وطأة أحداثه لا يمكنه أن يشكل حمولة ما خارج حقيقته الزمنية. ولا يفتأ الشاعر أن ينخلع من تلك الحقيقة بالمزيد من المراوغة إلا ليبقى هو ونصه فوق الزمن أو خارجه أحياناً. وربما يمثل ديوان «باب يضيء لك أو لغيرك» (ميارة/ تونس) للشاعر التونسي عبدالفتاح بن حمودة، تلك الحقيقة التي تغري بمزيدٍ من القفز فوق حقولٍ من الرمزية الكثيفة حيناً والرومنطيقية التي تغري بمزيدٍ من الغناء في أحيان أخرى. أما التصدير الذي يتضمنه الديوان للشاعرين اللبناني وديع سعادة، والعراقي صلاح فائق، فلا يمثل وحده باباً إلى الشعر التونسي الجديد؛ بل ثمة شعر تونسي أنجز الشيء الكثير في مخيال الشعراء الجدد بينهم فضيلة الشابي، الرائدة التي قاطعت الواقعية مبكراً وقدمت أكثر من عشرة دواوين معظمها ينتمي إلى قصيدة النثر. وأذكر أن ديوانيها «وادي الأفعال» و «شروق الأشياء»، ساهما معاً في تشكيل أهم ملامح الشعر التونسي الجديد. كذلك الديوان المهم للشاعر والمترجم خالد النجار «قصائد من أجل الملاك الضائع»، بالإضافة إلى الديوان المتفرّد «نافخ الزجاج الأعمى» للشاعر والمترجم آدم فتحي. كانت تلك التجارب المهمة باباً لرمزية اختطت لنفسها خصوصية اعتُبرت واحدة من امتيازات قصيدة النثر الجديدة، وهي امتيازات تسربت، في شكل أو آخر، بين ثنيات السروال الشعري الذي يرتديه بن حمودة. كما لا تمكن قراءة تجربته بمعزل عن تأثيرات تلك الطليعة التي تشكلت قناعاتها بعيداً مِن قناعات شعراء الأيديولوجيا في حقبتي الستينات والسبعينات. ولا شك في أن قصيدة النثر ناءت بالكثير من المشكلات التاريخية وتعثر الكثير من تجاربها، ليس في تونس وحدها بل في ربوع العالم الناطق بالعربية. فصراعات الأشكال الشعرية لا تحسمها رغبات أصحابها مقدار ما تحسمها قدرة هذه الأشكال على إجابة أسئلة لم تدركها المعرفة المجردة، فتظل عالقة في فضاءات تعج بطرائدها الشعرية حتى تقع في يد صائدها المحنك. ولا شك في أن ديوان «باب يضيء لك أو لغيرك» استطاع أن يقبض على جدارة من نوع خاص، هي جدارة الإمساك بطرائده الشعرية، مِن دون أن يتحول الشاعر إلى ضحية لفرائسه. وفضلاً عن تجاوز بن حمودة المشكلات النمطية التي صاحبت قصيدة النثر في سنواتها الأخيرة فأفقدتها الكثير من حيويتها، استطاع أن يوغل ضد مواصفات بائسة كانت رهناً لتصورات مجانية مثل مناهضة قصيدة النثر للأيديولوجيا وكذلك الهبوط بوظائف اللغة إلى أدنى مراتبها الأدائية في ما تمكن تسميته باللغة الشعرية المعقمة. ولا شك في أن «تطوّحات» الرمزية ذات الطبيعة الطقسية في ديوان بن حمودة واحدة من أسباب حيويته. يتبدّى ذلك على مدار أجزاء الديوان الأربعة: «عندما أنظر في المرآة لا أفكر، نافذة البيت وأغصانها، الفراشات ليلاً، نزولاً عند رغبة المطر». ويتبدى للقارئ الكثير من تلك الرموز التي يوجدها النص عبر امتلاكه قدرات فريدة على التعيين والتجسيد. يقول في قصيدة «المياه التي تسبق الجريمة» (ص371): «والشاعر الأعمى الذي يمسك مطرقة ومنجلاً/ جالس منذ أعوام/ يتأبط كتاباً من الدمع/ يقرأ البرق ويتلمظ الضوء/ مازالت عيناه تلتمعان في ليل القطعان الرهيب/ ينتظرهم هناك/ وبيده عصا تلوّح مزبدة في الهواء». تلك ذاتية الرمز الذي يتخلّق حول فكرة البطل الأعمى الذي تنفتح تأويلاته لكنها تبقى ممكنة التصور باعتبارها تمثل نوعاً من الانتماء، لكنّ حمولة العمى هنا واحتواءها ذاتياً جعل من رمزية الفعل قيمة متوهّجة بمقدار إيلامها. ووصف النقاد قصيدة غوته «الحنين السعيد» التي يقول فيها: «لا تتحدث بهذا لغير الحكماء/ فالعامة ستتلقاه منك باستهزاء/ إني أريد أن أمجد الحيّ/ الذي يتحرّق شوقاً إلى لهيب الموت»، بأنها تمثل ذاتاً جريحة تحوّلت إلى رمز شبحي للألم والتخفّي، وذلك ضمن أحاديث النقد عن ملامح الرمزية المبكرة لدى غوته. وهكذا أيضاً يبدو الجرح نفسه لدى بن حمودة ملمحاً من ملامح الألم والتخفي. تتخلّص رمزية بن حمودة من حمولتها الأسطورية فتحرّرنا معها من حقول لا نهائية من التأويلات. تتعرّى لغته حتى نُسْغِها فلا تبدو إلا جارحة بما يكفي لتجديد دمائها وضمان ينبوعها. نتابع ذلك في نصه الفاتن «سونيتات مسكلياني»: «أغسطس يا صليب العذارى/ اقطف لي أغنية/ من أغنيات راعي ماعز في مسكلياني/ مسكلياني جحيم عصافير/ جمرات ثلج مكسوة بالفيروز/ أبراج أحرقتها عيون الصبايا». ثمة غنائية عالية الصوت رخيمة في آن. لكنها غنائية لا تقتطع وجودها من قناعات كلية في الشعر أو في غيره، بل هي غنائية ربما تبدّت تعبيراً عن النقص وليس عن الاكتمال. فالنشيج الشعري هنا يمكن ردّه إلى تلك التداعيات التي يخزّنها المكان كذاكرة في مقابل ذاكرة الشاعر الضاجّة لا شك بحياتها الباطنية. إضافة إلى الرمزية الخاصة والغنائية، نجد مزيداً من الكثافة تنطوي عليها قصائده القصيرة التي احتلت معظم الأجزاء الأولى من الديوان، وهي قصائد ربما توارت شعريتها بفعل المزيد من الاختصارات. يقول في قصيدة «عذراء» (ص 115): «بين أهدابها/ بين أجفانها/ إخطبوط حروف لا ترى/ في أصابعها/ ثمة مرفأ غائب/ وبحيرة سكرى بالدموع». تتبدّى قدرة الشاعر على مستوى آخر في المزيد من التعيين لا التجريد، وتلعب الصور الجزئية دوراً مهماً في هذا السياق: «أيتها الوردة يا منديل البحر»، (ص 18)، «رومنطيقية النهايات» (ص 19)، «أسنان الموت» (36)، «مياه» (ص 329)، «حوار النجمة والشاعر» (ص 40). ونرى كيف يتعامل الشاعر الجديد مع الأيديولوجيا في قصيدة «نشيد الملائكة» (ص 386) وهي مهداة إلى «العمال السكارى بروائحنا». في القصيدة تستحيل الأيديولوجيا من وظيفتها الإنشائية والوعظية الغليظة إلى كائن يستحق السخرية عندما يموت العمال دفاعاً عن القيمة بينما الصارخون بالشعار نائمون في بيوتهم. يقول الشاعر: «عادوا أخيراً/ كانوا أول الشهداء عندما كنا نياماً/ عندما كنا مسحورين بالكلمات الناعمة للسيد الرئيس». يبقى القول إن التداخل الواعي بين الرومنطيقية والرمزية في عدد من قصائد الديوان نأى به عن اللغة المركّبة التي ارتبطت تاريخياً بالصوفية وثقل تأويلاتها، كما تعاملت شعرية بن حمودة بحذر بالغ مع تداعيات الأسطورة داخل النص. وفي النهاية حافظت شعرية الديوان على وظيفتيها الجمالية والاجتماعية عبر اعترافها بالتعاقبية في الفعل الزمني الذي هو فعل شعري بالأساس، بنزعها القداسة عن كل ما هو أرضي، وهو ما جدَّد أسطورتها الخاصة ومن ثم حيويتها. هذه إذن الملامح التي تتشكّل بين أصابع عبدالفتاح بن حمودة ورفاقه المدفوعين بجمرة الحداثة في جماعة «نصّ» التونسيّة البازغة، ضمن حركة قادها روّاد مؤثّرون في الشعريتين التونسية والعربية على السواء.