«أنا لا أعرف إن كان أحد قد كتب تاريخاً للترجمة، سيكون كتاباً طويلاً ولكنه مثير جداً للاهتمام»، هذا ما قاله فرناندو بيسوا، الشاعر والكاتب والمترجم البرتغالي المعروف، لعلمه بأنّ الترجمة فن عظيم، وإن لم يجد الاهتمام الذي يستحقه. لكنّ الترجمة عرفت خلال القرن العشرين تطوراً وأخذ العالم يرى إليها فنّاً مهماً في بلورة الأدب وتكريس قيم الانفتاح والودّ والسلم. وفي كتاب «الترجمة والمترجمون عبر التاريخ» (ترجمة محمد محمود مصطفى، دار البيروني)، يتابع القارئ، عبر دراسة شاملة لتاريخ الترجمة أنجزها جان دوليل وجوديث وودزورث- مسار النقل من لغة إلى أخرى، مع توضيح الأدوار الرئيسة التي لعبها المترجمون عبر العصور. وفي مقدمة الكتاب، نقرأ استهلالاً كتبه جان فرنسوا جولي (رئيس الاتحاد الدولي للمترجمين، 1995) يقول: «إن مهمتنا النبيلة هي أن نجعل من الترجمة أداةً لخدمة الإنسانية والسلم والتقدّم»، تلك هي كلمات بيير فرانسوا كايى (1907-1979)، وهو الرئيس المؤسس للإتحاد الدولي للمترجمين، وهي كلمات تعكس فلسفته الشخصية التي بثّها في أرجاء الإتحاد حين تأسّس عام 1953. وتنصّ المادة السادسة من مجموعة القوانين المنظمة للاتحاد الدولي للمترجمين على أنه يقع على عاتق الاتحاد «المساعد في نشر الثقافة في العالم بأسره». وعشرات آلاف المترجمين الذين ينتمون إلى ثلاثة وسبعين منظمة هي المنظمات الأعضاء في الاتحاد لا يألون جهداً في سبيل تحقيق هذه الرسالة. إنّ العمل الذي يضطلع به هؤلاء المترجمون في شكل يومي ليبرهن أنّ الترجمة تمسّ كافة مناحي النشاط البشري، فضلاً عن أنّها تُعدّ نبعاً لا ينضب من ينابيع التقدّم. لقد ترجم الناس لقرون بعيدة خلت. ولفترة طويلة سبقت تأسيس الاتحاد الدولي للمترجمين، وكان المترجمون بمثابة حلقات الوصل في سلسلة مترامية الأطراف انتقلت عبرها المعرفة في ما بين أناس تفصلهم عن بعضهم بعضاً حواجز اللغة. وما انفكّ المترجمون منذ ابتكر البشر نظم الكتابة، يشيدون جسوراً بين الأمم والأعراق والثقافات والقارات، بل ويبنون جسوراً بين الماضي والحاضر كذلك. إنّ المترجمين بإمكانهم أن يجوبوا الزمان والمكان، وإليهم يرجع الفضل في أن نصوصاً محورية معينة- علمية وفلسفية وأدبية- أضحت تحتلّ مكانة عالمية بارزة. إنّ المترجمين يجتازون الحواجز التي تخلقها فوارق اللغة، وهم بذلك يفتحون آفاقاً جديدة، ويوسعون من رؤيتنا للواقع لتشتمل العالم كلّه. «إن المترجمين يحيون على الفوارق القائمة بين اللغات، ومع ذلك تراهم يعملون دوماً على محوها». وعلى رغم ذلك، تعرّض المترجمون لعظيم الازدراء، وطاولت سهام النقد الحادّ أعمالهم. فطالما تعرّض أفراد هذه الفئة المطلعة من أهل الثقافة، رجالاً ونساءً، لسوء الظنّ، بل وألصقت بهم صفات النفاق والخيانة. ولكننا إن فكرنا ملياً، لوجدنا أنّ ما يخشاه الناس حقاً لا يكمن في المترجمين أنفسهم، بل يكمن في تلك القيم الجديدة والدخيلة، والغريبة أحيانا التي يجلبها المترجمون إلى مختلف الثقافات. إننا لا نشعر دائماً بالارتياح تجاه الجديد والمخالف والمغاير، لأنّ في تلك الأمور كلها نوع من التحدي لقيمنا يشبه تحدّي المرآة التي تضطرنا لأن نعيد ترتيب أنفسنا. إنّ الترجمة هي في نهاية المطاف نوع من الكشف. إنها رحلة استكشافية عبر عالم المعرفة البديع».