العراق، عام 2003، حقل من الألغام، ومن الأسئلة أيضاً. كيف يمكن تفسير هشاشة النظام العراقي في الداخل، ومثابرة العراقيين حتى الانهيار النهائي، في حين أنّ الخسائر العسكرية والبشريّة والماديّة أخذت تتصاعد من دون توقّف؟ كيف أصبح الشأن العراقي محط اهتمام العالم بصورة لم يسبق لها مثيل؟ ما الذي عرفه العراقيون، جنوداً ومدنيّين، عن الجرائم المرتكبة، وما هي المسؤولية التي يتحمّلونها؟ تساؤلات كثيرة تطرحها رواية الكاتب والمسرحي العراقي عبد الإله عبدالقادر الجديدة «الدايلي فرانس كافيه» (دار العين للنشر). وبطريقة خفية ومبتكرة، يسرد الروائي التاريخ الزمني للحرب على العراق، كما عاشها العراقيون أنفسهم، وكما كتب عنها في الشهادات. تتطلّب بداية القراءة معرفة، ولو نظرية، بسير الحوادث الواقعيّة، بدءاً من الأبسط إلى الأكثر تعقيداً. معرفة تؤمّن فهماً أفضل للخلافات التي تحصل عادة بين المؤلف والراوي، ما يساعد لاحقاً على تكهّن كواليس الكتابة. استخدم الكاتب راوياً لسرد الحوادث التي تشكّل القصة. راوٍ يختلف عن المؤلف. فالأوّل موجود من خلال النص فقط في حين أنّ الثاني هو شخص حقيقي. يقوم كلّ من مسار القصة وعرضها على عاملين أساسيّين اثنين: ما هي وجهة نظر الراوي؟ وما موقفه من الحوادث ومن التاريخ؟ يسرد الراوي العليم حوادث الرواية بأسلوب سلس، منتقلاً من عقدة إلى عقدة ومن شخصية إلى أخرى، ومستعيناً بعلم النفس كي يحلّل دواخل الشخصيات، لعلها تكشف بنفسها حقيقة هذا العمل وخفاياه. عليه، فإنَّ موقع الشخصيَّة ودورها في السرد هو ما يجعلها إمّا شخصيّة رئيسية أو ثانوية، سواء كانت ذات وظيفة مرحليّة أم لم تكن، ذلك أنّ اعتبار الشخصيَّة عنصراً من عناصر بنية سَرْديَّة ما، يستدعي القول «إنَّ وجهاً لا نراه في الرواية وخالياً من العلامات المميّزة يمكن أن يكون له في الرواية حضور بالقدر الذي يشكّله حضور شخصيّة موصوفة بوضوح شديد»، كما هي الحال مع شخصيّة ربيع الغضبان. يستند النص في المقام الأول إلى شخصيات ووقائع، تغطي المشهد كاملاً، والمسارح على اختلافها. الرجال يعملون في مجال تصدير العمالة الأجنبية وتحديداً الآسيويّة إلى الخليج، ما أمّن لهم مدخولاً عالياً، وبحبوحة مالية كبيرة. أما السيدات - الفيلبينيات تحديداً - هنّ زوجات وعاملات ومومسات، يعشن في أنقاض المدن. وقد تجد من بينهنّ البرجوازيات أيضاً، كما هي حال ماري زوجة عبدالوهاب، وجيني زوجة عبدالباري، وذلك بمساحة تتّسع، أحياناً، للحب الذي يسمح للقارئ أن يتقرّب من الشخصية ويتعرّف إليها، فيفهمها بطريقة أفضل، مولّداً مشاعر مختلفة، ومشكّلاً الربيع الدرامي للرواية. ننتقل إلى المكان، وهو هنا جزر «الواق واق» كما تطلق التسمية على شرق آسيا، وتحديداً شوارع مانيلا. تلك المدينة التي تحمل التناقضات، ومنها مقهى «الدايلي فرانس كافيه» الذي يحتضن كلاً من جاسم النجفي، عبدالباري، عبدالوهاب الرفاعي، رحيم الغضبان، إضافة إلى شخصيات أخرى من الرواية. ومنها شخصيات الجنس الثالث التي أصبحت من معالم الثقافة الحديثة، بل وأكثرها رواجاً وأسرعها انتشاراً. شخصيات لا نعرف عنها شيئاً، بل نستنتج بعض الأمور ونحللها من خلال الحوادث والحوارات. بعد انتهاء ساعات العمل في مكاتب العمالة، تجتمع كل ليلة في «الدايلي فرانس كافيه»، عناصر شلة العراقيين العاملة في تصدير الرقيق الأصفر الجديد إلى مجتمعات الرفاهية النفطية. يتصدّرون الكراسي – خارج قفص الزجاج – التي تحدّد مساحة المقهى، وتبدأ الحوارات والتحليلات والتوقعات. كذلك يتناولون الأخبار الخاصّة التي ارتبطت دوماً بعائلاتهم ومشكلاتهم، والإشكالات التي ترتّبت على الغربة، وقد تأثرت تحت دوافع مختلفة يمرّ بها الجميع. تمتاز مشاهد عبدالقادر بكونها تورد بالتفصيل، وبكثير من الحنكة، الحقائق والإيماءات، سواء من خلال السرد أو الحوار الذي يحدث بين الشخصيات، والذي يعلّق أحياناً مسار السرد. وهذا ما يدفع القارئ إلى تتبّع مسار العمل بحذر وترقّب. ومن أكثر المشاهد تداولاً هو مشهد الحزن الذي يمتد على معظم صفحات الرواية ليوجد بذلك جواً مزعجاً ينتج من تدهور حال الشخصيات واحدةً تلو أخرى. مشاهد تعكس تصوّرات الراوي وتوثّق معلوماته، حتى تصبح جميع التفاصيل معروفة (الخطاب والأماكن والوقت...). هكذا، يدرك القارئ - بعمق - البعد الذي أراده الكاتب من روايته، سواء من خلال اختيارنا المكان (الأول والثاني...) والتركيز (الداخلي، الخارجي، غير الشامل) الذي يمنح الرواية إيقاعاً صحيحاً. وعلى صعيد الزمن، برع الكاتب في مزج الواقع بالخيال في روايته، حتى بتنا نخلط زمن السرد بزمن الخيال وبزمن الكتابة. فزمن السرد هو المكان والزمان المعطى للحوادث في الرواية. في حين يتم تقييم زمن الخيال في اليوم والشهر والسنة. هذا هو الوقت العام الذي يحدث فيه التاريخ. لكنّ عبد الإله عبدالقادر تمكّن من خلال هذه الأوقات الثلاثة، اللعب على مدى سرده. إلا أننا استطعنا أن نحدّد في السرد عمليات التسارع والتباطؤ: يمرّ حدث واحد في صمت، تليه حوادث تاريخيّة عدّة، ذات أهمية حقيقيّة. فيشكّل هذا التناقض واقع الزمن في رواية «الدايلي فرانس كافيه». صور كثيرة لواقع واحد، أليم ومعقّد. وإن كانت نهايات الشخصيات تختلف، إلا أنّها تتقاطع في العذاب والصراع والموت. صراع بين العرب، وبين العراقيين أنفسهم، على قضايا مضت ربما، أو آنية ربما. إلا أنّ الخلاف بين أبناء العرب لم ينقضِ، حتى وهُم في المهجر. شخصيّات تائهة في حاضر مبعثر موجع بقسوة، فالحرب شرّدتها بين ذكريات الماضي والمستقبل المجهول، دفعها الفقر إلى الهجرة. لكنّ المفاجأة أن معاناتها بدأت تتفاقم نتيجة ظروف العمل الصعبة وملاحقة السلطات لها، ما دفعها إلى أن تعيش حياة لا مبالية. وتبقى هذه الشخصية الهاربة من حال إلى حال موجودة. هكذا، يستمرُّ تبادل أدوار الشخصيات بين الواقع والرواية لأنّها المرآة التي تجلّي للمتلقي صورة واضحة عن المجتمع ككلّ. توضح رواية «الدايلي فرانس كافيه» موقف الكاتب والمسرحي العراقي عبد الإله عبدالقادر الذي يرى أنّ فساد السلطة من فساد المواطنين، هو واقع أوصل العراق وبلداناً عربيّة أخرى إلى هذه الحال. أسئلة كثيرة يطرحها الكاتب ابن البيئة العراقيّة، ولعلّ اختصاصه بالمسرح ساهم في نقل الرواية مشهداً تمثيليّاً كاملاً إلى القارئ.