استضاف معرض «بيروت آرت فير» في دورته الثامنة لعام 2017، الذي أقيم على أرض البيال (سوليدير) ثلاثة وعشرين بلداً من أنحاء العالم العربي والأوروبي والشرق الأقصى، على مدى ثلاثة أيام (21-24 أيلول/ سبتمبر) استقطب إليه كما جرت العادة الذوّاقة والمقتنين، لا سيما أن فكرة استضافة الأجنحة الخاصة التي تحمل تيمات مشغولة من قبل مدراء فنيين، أعطت للمعرض هذا العام إطلالته الخاصة وإشكالياته المعاصرة المطلة على المشهد الفني في لبنان والعالم العربي. المعرض بإدارة لور دوتفيل ومشاركة 230 فناناً من 23 بلداً، يضم 1400 عمل من (الجزائر، المملكة العربية السعودية، أرمينيا، البحرين، بلجيكا، تشيلي، مصر، الإمارات العربية المتحدة، اسبانيا، فرنسا، اليونان، الأردن، لبنان، فلسطين، قطر، الجمهورية التشيكية، المملكة المتحدة، سويسرا، سلطنة عمان، سوريا، تايلاند، تونس، الأوروغواي)، تكشف عن دينامية الحراك الفني الآتي من ثقافات متعددة، والاتجاهات والأساليب والموضوعات الطاغية على هواجس الفنانين المعاصرين حول العالم، يضاف إلى ذلك النزعة الترويجية- الاستقطابية لوجود أسماء فنانين عالميين في معروضات بعض الغاليريات، من أمثال: جيف كونز، بوتيرو، جورج ماتيو، وروسو (من الجيل الثاني للبوب آرت) وصولاً إلى هيلدون زيكسا، والأخير حاز جائزة بينالي البندقية 2015، عن نحت تجهيزي عبارة عن قطعة ثلجية عائمة على مياه القناة تحمل رسالة الى العالم بضرورة تدارك الاحتباس الحراري، إذ إن توجّهاته المعاصرة تعتمد على الضوء كوسيط بدلاً من المادة: «أنا لا أنحتُ الخامات، بل استخدمها لكي أنحت الضوء». البارز في المعرض هو المساحة التي حملت توقيع المنسّق باسكال أوديل، التي خُصّصت لكتاب «النبيّ» لجبران خليل جبران، بروح الفنان الجزائري رشيد قريشي، حيث عُرضت رسوم جبران التي قدّمها في إطار الطبعة الأولى لكتاب «النبيّ، باللغة الإنكليزية عام 1923، ورسوم رشيد قريشي التي قدّمها في الطبعة الأخيرة من الكتاب التي تمَثّلت ب 49 رسماً حول الأمل والسلام. الكتاب هو قصيدة فلسفية عالمية عابرة للأديان في إشعاعها النوراني، وهو رسالة محبة وتسامح دعا إليها القريشي، في طريقة تضمين فحوى النص المكتوب من خلال استعارات غرافيكية ورموز شعائرية، في رحلته عبر الذات. من أضواء مدينة توم يانغ الباهرة، إلى طراز الحارة العربية في جدارية فخر النساء رعد (الأردن)، ومن ثم إلى مناظر مقطوفة بأكثر من ريشة لبنانية في جناح غاليري صالح بركات (تغريد درغوث، هالا شقير، سعيد بعلبكي، هبة كلش)، انتقالاً إلى كابوسيّة مدينة شربل عون الوهميّة وبقايا من ركام الحروب التي جسّدها الرسام شارل خوري والنحات بسّام كيريللوس (غاليري مارك هاشم)، وصولاً إلى البكاء على اطلال التاريخ في صورة رندة ميرزا وتعبيرية يوسف عبدلكي القاطعة بأحزانها الرمادية (غاليري تانيت)، وقتامة الأفق في زهد السراب الذي يرسمه زياد دلّول وكذلك تلاوين الآفاق التجريدية لندى مشنوق عيدو(غاليري روشان). ولئن كانت تعبيرية سعد يكن في التشخيص الإنساني تنبثق من قلب المعاناة السورية، فإن ميسن سلمان في منحوتة «البحر لي» يمثّل السفر نحو المجهول عبر البحار في زمن الهجرة والنزوح برمزية عالية. والهجرة تحمل ذاكرة قديمة لدى الجيل الثاني من الفنانين الأرمن، ومنهم سركيس المقيم في تركيا الذي قدّمته غاليري ناتالي اوباديا (باريس-بروكسيل)، وجان بول وايمانويل ومانويللا أبناء الفنان بول غيراغوسيان (غاليري ايماغوس)، ولا تقل عنهم تعبيرية بهرام الفنان الكردي المقيم في ألمانيا، الذي قدمته غاليري عايدة شرفان في سياق عرض نتاج كبار المحدثين اللبنانيين: اسادور وحسين ماضي وجان خليفة. وتروي فاطمة الشيباني (من قطر) ذكرياتها مع الزيّ الخليجي التقليدي (البخنق)، في مجسّمات من السيراميك، في حين قدمت غاليري سلوى زيدان (أبو ظبي) موهبة الفنان الإيراني كوروش صالحي، الذي استطاع أن يُخرج موتيف الجمجمة من نطاقه الاستهلاكي المعاصر، إلى حلّته التراثية، فتظهر الجماجم كأجسام مُتحفية هي مغطاة بطبقة من الزخارف التزينية الإسلامية، مستلهمة من الفحوى الروحاني لقصائد عمر الخيّام. ويتجلى الترف البصري في الصور التي التقطها أسامة إسعيد (عن غاليري حافظ- المملكة العربية السعودية)، لنساء عربيات ضمن منحى الاستشراق الجديد بتقنية معاصرة مُشابهة للصوّر الموقّعة بعدسة يوسف نبيل لأيقونات السينما المصرية. ومن الأعمال الباهرة في التجريد المنتمي إلى حقول الفن البصري، تبرز أعمال الفنانة الشيلية كلوديا هيدالغو.، ومعلّقات البلجيكي كاميل لهيربر الذي استعاد رموزاً من تاريخ الحضارات القديمة وشموسها وألوانها وزخارفها كي يضع بورتريه عن الزمن بسموّه الحضاري مقارنة مع تقهقر الحاضر. أما معرض «عروبة: عيون من لبنان» الذي نظّمته المنسّقة الفنية روز عيسى (لبنانية- إيرانية مقيمة في لندن) داخل فاعليات الآرت فير، وقدّم له الوزير السابق جورج القرم رجل السياسة والاقتصاد في لبنان، فهو يهدف «إلى تسليط الضوء على النواحي الجمالية والمفاهيمية والسياسية التي ظهرت في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، كما يحتفي بالحياة والذاكرة والدمار وإعادة الإعمار، والاضطراب والسلم، بطريقة يطغى عليها حس الفكاهة وأحياناً من دون إغفال تاريخ العالم العربي الحديث». المفارقة أن هذه الأهداف تشتمل على كل تيمات المعاصرة التي تهيمن على السوق العربية! وعلى رغم إغراءات بعض الأسماء البارزة، فإن انتقائية الأعمال التي اختيرت من مقتنيات خاصة ومؤسسات وهيئات، جاءت لتعكس غالباً أثر الحروب والهجرات على المشهدية المعاصرة من مقتربات متباينة (سياسية، دينية، اجتماعية،...) واستنسابية وأحياناً من خلال تيمات ليس لها رابط مباشر مع العروبة أو رواسب الحرب في شكل عام. لذا فالمعرض في أحسن أحواله يحيل إلى بداهة أثر الحرب على الفن الراهن، بينما موضوع العروبة له إشكاليته وتاريخه وجذوره الفنية العريقة المتصلة بإنجازات جيل الحداثة بامتياز، الذي غاب عن المعروضات، وكأن الفن قد بدأ الآن مع الجيل الجديد، مما يؤكد أن التعاطي مع هذا الموضوع يتم بذاكرة ممحوة، وهذا المحو خطير لأنه يقطع العلاقة بين ماضي الفن وحاضره.