قبل نحو عقد من السنين، وضمن حديث لاذع أطلق مرشد «الإخوان» السابق مهدي عاكف مقولته الشائنة «طز في مصر». وعقب «25 يناير»، تجاهل الإسلاميون الأعضاء في الجمعية التأسيسية عزف السلام الوطني المصري فلم يقفوا مع الواقفين، ولم يرددوا تلك الكلمات الحميمة، ولم تهتز أجسادهم مع أفئدتهم توقاً وتأثراً واستجابة لتلك النشوة التي تسري في أجساد من يشعر بالانتماء إلى وطنه، وتمسك بأفئدتهم. بل أفصحت رموز «إخوانية»، في مناسبات شتى، عن الحلم بخلافة إسلامية، انطلاقاً من عاصمة هي القدس لا القاهرة، المدينة التي يمكن اعتبارها عاصمة التاريخ، إذ ورثت أقدم عواصم مصر وحواضر الزمن منذ منف وهليوبوليس، وصولاً إلى الفسطاط والقطائع... لا يعطي المتأسلمون الوطن تلك القيمة ولا يرونه بتلك العين، والمواطن لديهم ليس الجار القريب، زميل العمل أو رفيق النادي والحزب والنقابة، إنه فقط الشريك في العقيدة، الأخ في الله الذي قد يبتعد كثيراً في الأرض وصولاً إلى أقصى الشرق في باكستان وماليزيا وربما الصين والهند، وإلى أقصى الغرب في قلب أميركا الفاجرة حيث كانت الغزوة الناجحة، وروسيا الملحدة حيث الشيشان الصامدة، وأوروبا الصليبية حيث البوسنة الشامخة، فجميع هؤلاء إخوان حقاً، مواطنون فعلاً، شركاء في وطن متخيل، حضوره يفوق الوطن الواقعي. إنه الوطن الذي يُشتاق إليه حقاً فلا يزدريه أحد ولا يتجاهل رموزه أحد... الوطن الذي يضم مواطنين مفترضين ولكنهم أقرب إلى النفس من المواطنين الحقيقيين، من هذا الليبرالي عن اليمين، وذلك القبطي على اليسار، والذين هم فُجَّار وربما كُفَّار، يزاحمونهم بأجسادهم من دون أن يقاربوهم بأرواحهم، ينادون بقيم بالية، ويتمسكون بانتماءات وثنية، منها الانتماء إلى ذلك الذي يسمونه «وطناً». ولكن، ما سر هذا الاختلاف وذاك التباين بين هؤلاء الذين يعشقون أوطانهم، وأولئك المنكرين له؟ بين من يضعون الوطن على رؤوسهم من دون افتئات على الدين الذي موضعه القلب والضمير، وبين من يضعونه تحت أقدامهم، مطية لتصور عن الدين؟ يكمن السر في درجة الاحتفاء بالعقل وبالإنسان، فالمتأسلمون لا يحتفون بالوطن، كونه من عمل الإنسان وهم لا يحتفون أصلاً بالإنسان، وكونه نتاجاً للعقل وهم لا يحتفون أصلاً بالعقل، وكونه خلاصة للتجربة التاريخية وهم لا يحترمون التجربة ولا التاريخ باعتبارهما ليس إلا تجسيداً للمدنس، فيما لا يقدرون هم سوى الإلهي المقدس. وعلى رغم اتفاقنا معهم على تقدير ما هو إلهي، إلا أننا نؤمن بأن العقل، لا النص وحده، يمثل عطاء إلهياً، وأن خبراتنا واجتهاداتنا التي تراكمت عبر التاريخ ليست إلا استثماراً لذلك العطاء واحتفاء به، لذا نؤكد احترامنا للوطن، لأن في ذلك احتراماً لجوهرنا العقلاني الذي منحنا إياه الله، قريناً وضماناً لرسالة استخلافنا في الأرض، تلك التي لا تكون ولا تقوم من دون بناء الأوطان، مدخلاً لترقية الحضارة. على هذا، صارت المجتمعات الحديثة تبجل أوطانها، بخاصة في اللحظات الخطرة من أعمارها، والتي تثير مشاعر الخوف عليها، عند الحروب والثورات والكوارث، على نحو تبدو معه مقولة الجاهلي عبد المطلب بن عبد مناف، جد النبي الكريم محمد (ص) في مواجهة جيش أبرهة الحبشي نبوءة حداثية بامتياز، فقد بادر الرجل إلى حماية داره وإبله التي هو «ربها» من دون اكتراث للكعبة التي لها رب سواه، أولى منه وأقدر على حمايتها، وهو ما كان، إذ حمى الله الكعبة ونجاها من شر الغزاة. تضع الأوطان دساتيرها بتوافق جموع مواطنيها، واستلهاماً لمقومات روحها، ليصبح دستور الوطن بمثابة كتابه المقدس، إنجيله أو قرآنه، يستلهمه في صنع قوانينه، ويحتكم إليه لحل خلافاته، والويل لكل من أهدره، فالخروج عليه هتك لروح الجماعة وعدوان على ضميرها، هرطقة سياسية تشبه الهرطقة الدينية، الأولى إلحاد بالوطن والأخرى إلحاد بالله، وكلتاهما ترتب أشكالاً مختلفة من الحرمان، روحياً أو جسدياً، قدسياً أو دنيوياً. كما تخط الأوطان حدودها لتضع فاصلاً بينها وبين جيرانها، أصدقاء كانوا أو أعداء، فالحدود علامات كأبواب البيوت، الحدود تفتح على التراب المقدس لدى جموع الناس، والأبواب تفتح على الحرمات الخاصة بأهل البيت، لهذا صارت حدود الأوطان مثل جلد الإنسان أو جلدة الكتاب المقدس، إنجيلاً أو قرآناً، فجميعها يفتح على باطن الإنسان وعوالم الإيمان، وصار التفريط فيها عاراً لا تبرره الحاجة ولا يمحوه الزمان. تحتاج الأوطان إلى من يؤمنون بها وليس فقط من يعيشون فيها، لذا صارت أعلام الدول مثل مآذن حديثة، تشبه وتوازي وأحياناً تتفوق على مآذن المعابد والكنائس والمساجد، ترتفع فوق كل الشرفات وعلى كل المؤسسات طوال الأيام، يتم التلويح بها في الأعياد الوطنية وفي ذكرى الانتصارات العسكرية، وأحياناً الرياضية، مثلما تُنكس في أيام الهزيمة والانكسار تعبيراً عن الحزن والحداد. كما تصنع لنفسها أناشيد تتغنى بها، وتضع لها موسيقى تشبه الترانيم الكنسية، والتراتيل القرآنية، كي تشنف الآذان وتثير الخشوع في جموع المواطنين، وتصنع منهم أمة مؤمنين، تهتز أبدانهم وقد تطفر دموعهم بعزف السلام الوطني، مثلما تطفر بسماع الآيات المقدسة. تبجل الشعوب مفكريها الكبار الذين يرسمون لهم معالم شخصية أوطانهم، ويصوغون السرديات الطويلة عن تاريخها، كما تخلد فنانيها المبدعين الذين ينشدون عنها ملاحم تحكي أمجادها القديمة، وتتغنى بحضاراتها العتيقة، لتصبح الأوطان أساطير تحمل أبعاداً خيالية وعاطفية، بقدر ما تنطوي على حقائق عقلية وتاريخية، ينصاع الجميع لها، احتراماً للدماء المراقة على مذبحها، والتضحيات المبذولة لحفظ بقائها وضمان استمراريتها، من أقدم العصور إلى أحدث الأزمنة، فيصير الأبطال القدماء جداً، كالمحدثين جداً، مثل حبات لؤلؤ تنتظم في عقد واحد، يزين رقاب من ينتمون إليها ويثير الفخر لدى شبابها، فأولئك الرجال الكبار هم من يحملون البوصلة، ويمنحون المعنى، ويؤكدون الهوية في زمن التيه أو لحظات الخطر. وحتى الأبطال الذين لا تُعرف أسماؤهم، صار قبر الجندي المجهول معلماً عليهم، يحج إليه الناس في المناسبات المختلفة، امتناناً لهم وتقديراً لتضحياتهم. ينطوي مفهوم السيادة الوطنية على قيمة رمزية ومعنوية، تطرح نفسها في طقوس جمعية وسلوكات فردية على نحو يشبه العبادات الدينية، فسيادة الدولة وما تعنيه من كلية الأرض وعلو الإرادة تكاد تشبه مفهوم الألوهة، بكل ما يحمله من معاني القوة والقدرة والشمول. بالطبع، يبقى الله هو المطلق الذي يقاس عليه ولا يقاس على سواه، ولكن يبقى الوطن حاملاً قبساً من تلك المطلقات، وتجسيداً لتلك المثالات العليا التي يعنيها الله، فالأوطان نقطة تتم عندها أنسنة الإلهي، وتقديس الدنيوي، ولو عبر التلميح لا التصريح، والوطنية «ديانة مدنية» تعمل مثل الصمغ اللاصق الذي تترابط به الجموع، ويتماسك بفضله الكيان الجامع، وتستفز له النخوة، لتصبح التضحية في سبيله أمراً طبيعياً وممكناً، فالشهداء في سبيل الوطن كالشهداء في سبيل الله، بل كل شهيد للوطن هو قطعاً شهيد في سبيل الله، فالوطن لا يكون وطناً إلا إذا صار بوتقة لمعنى يتجاوز الأفراد، مثلما يسمو الله على الوجود، فالله خالق الكون والإنسان، والوطن رب الناس في كل زمان ومكان. تعبر الطقوس الثورية أفضل تعبير عن ذلك الرابط الخفي بين الشعور الوطني كدين مدني وبين الدين كوطن روحي، فالحماسة الثورية هي مشاعر دينية في الصميم، لكنها أخذت طابعاً دنيوياً، إذ بدلا من انتظار المؤمنين الأبرار «الخجول» للحياة الفاضلة في الملكوت السماوي المؤجل، يسعى الثوار الأحرار إلى تجسيد تلك الحياة الفاضلة الآن، وعلى هذه الأرض. كما يستعيرون رغبتهم في التضحية على مذبح الأوطان ضد الأعداء من روحانية الجهاد ضد الكفار. أخيراً، يبنون تضامنهم المشترك بحسب قدرتهم على تمثل ما في الدين من قدرة على تكتيل إرادة جماعة المؤمنين، فمشاعر الأخوة في الله تشبه مشاعر الثائرين للوطن، يتجمع هؤلاء تحت راية الله، ويتضامن أولئك تحت راية الوطن. الوطنيون لإعادة بناء بلدهم بالصورة التي يحلمون بها بعد أن أرهقه المتسلطون عليه، والمؤمنون للدفاع عن دينهم الذي يعاديه الملحدون، أو يفسده المنافقون.