كندا تعود للذاكرة مع الشفق الشتائي في الشمال الكبير الذي يلوح لك من وراء زجاج نافذة الطائرة في ذلك الفجر فوق المحيط وهي تقترب من شواطئ القارة. تعود مع السناجب: ملائكة الحدائق اللطيفة التي تقترب منك خلسة لتأكل من كفك النبق البري. مع الأرخبيلات الصخرية والثلجية التي تعبرها الطائرة قبل أن تهبط فوق مطار ميرابال، والتي تذكرك بعوالم هرمن ميلفيل، وإدغار آلان بو، وتقارير الرحالة عن القطب الشمالي. ويأتي إلى الذاكرة فندق كارلتون بأثاثه الإنكليزي الذي يعود إلى أول القرن العشرين، والشاعر فرناند واليت الصوت الميتافيزيقي المتفرد. فرناند واليت مزيج إبداعي من بيير جون جوف وراينر ماريا ريلكه وبول كلوديل. وتستعيد تعبير وجهه وفمه المفتر في شبه ابتسام وهو يتطلع من تحت نظاراته إلى نهر سان لوران من نافذة مكتبه بالطابق الرابع عشر من بناية راديو كندا بشارع شاربروك وهو يحدّثك عن تجربة النور التي أعادت صياغة حياته. كندا مرتبطة بالكاتب والناقد فرنسوا ريكارد أستاذ آداب اللغة الفرنسية بجامعة ماك جيل ورئيس تحرير مجلة «ليبرتي» الأدبية والذي بقي منه في الذاكرة سحنته الخجولة وحديثه المكتئب عن حبيبته المريضة، وعن رومان رولان، وعن مجلة حريّة التي يرأس تحريرها، يعود إلى الذاكرة في ضوء تلك العشية الكابية بمكتبه في جامعة ماك جيل القريب من بوابة برونثمان. قال أعتذر عن موعد البارحة لقد ظللت في البيت كامل النهار أعتني بحبيبتي، واستطرد: ربما لا تدري، نحن في كندا نقضي نصف حياتنا في البيت؛ لأن البيت لدينا هو العالم، نعده بشكل يصير مكاناً للحياة لكلّ شيء، أحياناً نظل طيلة أسابيع في الداخل كامل فصل الثلوج؛ لذلك فللبيت وضع خاص في ثقافتنا. كندا مرتبطة بغاستون ميرون الذي هاتفته ذات سبت في بيته بمونتريال لنضبط موعد لقاء، فاعتذر وكان على سفر من الغد إلى باريس. كان تعارفنا في التلفون صوتياً. ظل كلامنا معلقاً في الهاتف أو في سديم الكون خمس سنوات إلى أن التقينا صدفة في باريس وأنا أجول بين رفوف جناح كيبيك بمعرض الكتاب في القصر الكبير، حيث واصلنا حوارنا الهاتفي في شوارع باريس وكأننا علقنا السماعة البارحة... ودعاني إلى شقته في 11شارع فوجيرار قريباً من ساحة السوربون وشارع البيتي برنس... شقة صغيرة متواضعة ذات جدران حجرية عارية كان حديثه يعود باستمرار إلى فيلولوجيا ومتن فرنسية الكيبيك أراني قواميس هذه اللغة التي يصر على أنها لغة كيبيكية قائمة بذاتها ومستقلة عن اللغة الفرنسية الأم. غاستون ميرون مسكون بالهوية الكيبيكية بفرنسية الكيبيك المزيج من لغة فولتير ولهجات البحارة و المغامرين الفرنسيين في القرن السابع عشر مسكون بتلك النزعة الاستقلالية بل كان عضواً فاعلاً في حركة الاستقلاليين الانفصالية... وهو يريد أن يثبت كما أن هناك إنكليزية أميركية ثمّة أيضاً فرنسية أميركيّة. بدا لي غاستون ميرون شبيهاً بالرسام التونسي زبير التركي بالملامح وبالبنية الجسدية وفي لحظة انسحب التشابه على كامل الشخصية بدا في تعليقاته وطريقة كلامه مثل زبير التركي تماماً... ولعلها مفارقة بلاد الكيبيك فهي بلاد متقدمة اقتصادياً وتكنولوجياً وعلى جميع الصعد الأخرى وفي الآن ذاته شبيهة في نضالها الاستقلالي وأيديولوجيتها التحررية ببلاد العالم الثالث. قال لي فرنسوا ريكارد وكان أيامها يرأس مجلة حرية، لقد تأثرنا كثيراً بأدبيات التحرير الجزائرية وذكر كاتب ياسين وفرانز فانون. مونتريال ملتصقة في الذاكرة بتمثال العشاق لرودان، بشارع شاربروك، بالصديق أيمن الياسري الذي كان أيامها يعدّ رسالته الرائدة عن المملكة العربية السعودية... والذي قادني ذات يوم الى جامعة كونكورديا لألتقي صديقه أستاذ الفلسفة اليهودي القادم من ألمانيا، والذي كان أيامها يكتب فصلاً عن الرياضة في الكتاب الأخضر، أجل الرياضة. ولم أصدق أيمن، كنت أظنه يمزح حتى أدخلني إلى مكتب الأستاذ العتيد، في ذلك الضحى الخريفي من شهر أكتوبر، وبعد التقديمات السريعة بادرني الأستاذ العتيد بقوله إن أهم ثلاثة كتب أنجزها العقل البشري على الإطلاق عبر التاريخ هي: جمهورية أفلاطون، ورأس المال لكارل ماركس، والكتاب الأخضر للقذافي... سقط فكي الأسفل وأنا أصغي إلى الأستاذ العتيد الذي درس في شبابه الفلسفة الكلاسيكية في ألمانيا مهد الدراسات الفيلولوجية الإغريقية وها هو يسخر منّي... يقدم له القذافي فرصة للضحك على العرب، ثم عرفت السرّ في ما بعد من طريق الصديق علي القبلاوي، كانت اللجان الشعبية الليبية تذهب بالكتاب الأخضر في ترجماته الفرنسية والإنكليزية والألمانيّة إلى أركان العالم الأربعة وتعرض على أساتذة الجامعات كتابة شيء عن فكر معمر القذافي بمقابل باهض ثم يعودون إليه ويقولون له إن فكره غزا العالم؛ والأهم في تلك الزيارة أنهم يقضون بقية وقتهم في مونتريال يتبضعون... وفهمت أن الفساد شامل في بلداننا ومتغلغل في النسيج الاجتماعي عابر الطبقات وهو شرعة الحاكم والمحكوم، أي أنّ الفساد لدينا له سمة العقد الاجتماعي... ورأيتني وأنا في العشرين أعبر الصحراء الليبية إلى مصر... ومشهد رؤوس أمواج بحر ليبيا المزبدة بيضاء وزرقاء فيروزية تظهر وتبين من وراء الكثبان الصفراء في تلك المشاهد الخالية حيث يلامس البحر الصحراء وأنا مشدود إلى نافذة السيارة السيمكا فودات Simca Vedette الزرقاء السماوية تنهب أوتوستراد طرابلسبنغازي الذي كان قد شيده القذافي حديثاً... ونخيل القرى يشتعل في حمرة المساء كل ذاك العالم اختفى وراء الكتاب الأخضر... والرياضة في الكتاب الأخضر لأنهم لا يرون وجوداً لفكر خارج سياقات تاريخ الفلسفة الغربية من اليونان القديمة إلى يومنا هذا. ليبيا بالنسبة إلى الأستاذ العتيد جغرافيا بلا تاريخ أو هي تعيش خارج التاريخ... ولعل هايدغر هو الفيلسوف الوحيد بعد أوزفالد شبنغلر الذي انتبه إلى أن ثمة ثقافات أخرى خارج الغرب من الممكن أن يكون للغرب حوار معها وأجرى تلك المجادلة في كتابه Acheminement vers la parole «الطريق إلى الكلمة» ولكن هذا الفيلسوف الآسيوي لا يمنحه هايدغر اسماً ويجعل عنوان المحاورة كالتالي عن حوار حول الكلمة بين شخص ياباني وآخر يسأله. ويعود الحوار إلى أواسط الخمسينات. أما العرب فلا حوار معهم اليوم. انتهى العصر الذي كان فيه النص الفلسفي العربي يحرك الفكر الغربي. وهكذا بعدما كان الغرب يقرأ ابن رشد صار يقرأ الكتاب الأخضر.