نعم، على الفارين من «جحيم الشعر» إلى «جنة الرواية»، أن يتوخوا الحذر، ذلك لأن طموح الروائي هو أن يكون شاعراً. وتفصيل ذلك: للشعرِ لغةٌ مجاوزةٌ للعادي المسكوك على ألسنة الناس. لغته ذاتيةٌ وليست عامة، ما يجعلها عند الناس أنفسهم؛ جديدة دائماً؛ ومن ثم تدعوهم إلى التفكير والرؤية بطريقة ذاتية تأويلية ليست معتمدة على التذكر والاجترار والتكرار المنوم. لغة كثيفة مقطرة ضيقة العبارة متسعة الرؤية، تمتح من الخيال الذاتي للشاعر وتنأى بنفسها عن العادي المستقر المألوف الراسخ السلطوي. لذا، يخاطب الشعر النخبوي فينا والنادر. وكل نادرٍ هو للنادرين؛ كما يقول نيتشه؛ ما يجعلنا معه أحراراً من التصورات المستقرة، والتي تشكل قيداً على تجدد الإبداع. والرواية الآن تمتح من معين التكرار والعادي والمبتذل وتجري وراء التصورات المستقرة؛ ليس طمعاً في التفرد، وإنما في مكاسب سلطوية تنحصر في الحصول على جوائز مالية، وأكبر عدد من القراء العاديين، الذين يرومون التسلية والإثارة الفجة؛ لذلك تظل نماذج كثيرة منها بعيدة مِن الجمال الذوقي الفردي. يؤكد ليوتار أن المعرفة الإنسانية الما بعد حداثية؛ ليست إلا ألعاب لغة، وذلك بعد سقوط الأيديولوجيات التي هي سرديات كبرى ونظم متكاملة مطلقة، تلم بالكل ولا تترك الجزء وتدعي الشمول والكمال. ومن ثم نحن أمام لعبة لغة العلم ولعبة لغة الفن ولعبة لغة الدين... إلخ. وما يميز لعبة لغة عن أخرى هو رهانها، فرهان لعبة لغة العلم مثلاً؛ هو المنطق، أي أن لكل نتيجة يعرضها العالِمُ سبباً منطقياً رغم الإقرار باللايقين والفوضى. ولعبة لغة الفن هي الذوق وهو فردي وخاص بالفنان، ولعبة لغة الدين هي الاعتقاد. ويلاحظ هنا أن العرب قديماً حدَّدوا الإبداع بوصفه «الإتيان على غير مثال»... يقول ابن عربي: «مَن ليس عنده خيال، لا معرفة له». والخيال حر وذاتي يتبع الذوق الفردي، وبوساطته يجمع الفنان ما لا يمكن أن يجتمع في الواقع. فالنار لا يمكنها أن تجتمع مع الثلج في الواقع، لكن في الفن، يمكننا أن نرى كائناً نصفُه مِن النار ونصفُه الآخر من الثلج. هكذا، نجد أن المتناقض في الواقع، متناغمٌ في الخيال. ومن ثم، نلاحظ أن الخيال هو الأداة الإنسانية لتغيير العالم لمصلحة الإنسان، وتتجلى به الحرية الإنسانية في أجل وأجلى معانيها ومظاهرها. والشعر؛ على هذا؛ هو كلامٌ أصلي، لأنه يتأسس على ذاته ويأتي من نفسه. هكذا، انتهت مفاهيم مثل الانعكاس والمحاكاة والتمثيل؛ من النقد الأدبي، ورأينا أن الكلام غير الصمت؛ فللأخير معنيان؛ الأول فيزيقي أي «لا أتكلم»، والثاني يقوم على المحاكاة السطحية بأن يتكلم المرء الكلام الشائع الموجود من قبل؛ فيكون بذلك ناقلاً الكلام، ويستخدمه الكلام السابق ليتكلم بوساطته، فيما هو في العمق صامت. الكلام إذاً، هو خروج صوت الخاص الحر متخلصاً مِن أصوات الآخرين. وحتى يكون لي صوت خاص فاعل في الواقع، فلا بد له من الوجود متشكلاً في كيانات مبدعة مفارقة ذلك الواقع المألوف حتى أحقق به فرديتي وسط مجتمع حر، وقدرتي على الإضافة إلى العالم، وليس البقاء فيه مستهلكاً ما يقوله الآخرون، مِن دون دفع ثمن تحقيق ذاتي مثلما فعلوا هم. يقول هيدغر: إن التخلي عن التفكير الشائع لا يكفي وحده للولوج من باب التفكير الماهوي؛ وإنما هو مدخل فحسب. ويرجع هذا إلى أن الأفكار الحق نادرة، فهي ليست من صنع الفكر وتأليفه، كما أنها لا ترقد في الأشياء رقاد الحجر على سطح الأرض، أو الإسفنجة على سطح الماء. إن الإنسان يكوِّن أفكاراً كثيرة، غير أنها ليست أصلية. فالأفكار الأصلية تقدَّم للإنسان، توهب له، حين يضع نفسه في ذلك الانتباه الحقيقي الذي هو بمثابة نوع من التهيؤ لما هو خليق بالفكر؛ وهذا لا يتأتى إلا بالخيال الخلَّاق للفنان المبدع. في بداية عصر التنوير المصري والعربي برزت مقولة: إن القلم في يد الكاتب كالفأس في يد الفلاح؛ حاثةً على الدور الاجتماعي للمعرفة عموماً وللفن خصوصاً؛ ما جعل الفن عندنا جزءاً من علم الاجتماع، وليس جزءاً من نظرية المعرفة الجمالية. صار الكاتب أشبه بعالم الاجتماع؛ يرصد أنماط المجتمع وسلوكات الأفراد بوصفها تعبيراً عن العام في صورة نمطية، وغابت ثقافة التفرد، فكان هذا امتداداً لثقافة القبيلة والقرية. وكان الروائيون والأدباء عموماً يكتبون بالفصحى الجارية على صفحات الجرايد. يوسف إدريس؛ مثلاً؛ كان يكتب قصصه بالمحكية المصرية، ثم «يترجمها» إلى الفصحى؛ بحثاً عن تواصلٍ سهل مع الجمهور العادي. وكان أن تحوَّل الفن القصصي والروائي إلى سلطة تفكر للجماهير، وتدس ما تريده بوصفه الصحيح في المطلق، في هيئة موضوعات تهتم غالبيتها بالإنسان العادي وطريقته في الكلام والتفكير وأشواقه وأحلامه. ظل ذلك يحدث حتى رُفِعَ الإنسان العادي - الذي هو صنيعة القوى المسيطرة أساساً على الواقع – إلى مرتبة النموذج، ما ألغى المغامرة الذاتية، ودفع ذلك الإنسان نفسه إلى الاجتراء على كتابة الرواية، وغاب دور النقد الذي يستطيع فرز المتفرد مِن الساذج، وإثبات أن الرواية لن يمكنها أن تكون فناً إلا بأن تأخذ سمات الشعر؛ بأن تخاطب الخاص فينا والنادر وليس الشائع المبتذل.