فجأة، عُلقت المفاوضات التي كانت دائرة عبر وسطاء بين ممثلي النظام السوري ومقاتلي المعارضة في حمص القديمة المحاصرة، واستبدلت بمفاوضات بين «الجبهة الاسلامية» وايران. بعد حصار قوات النظام لنحو سنتين لأحياء حمص القديمة ضمن سياسة «الجوع او الركوع» التي اتبعت ايضاً في حزام دمشق وضواحيها، «استجاب» مقاتلو المعارضة في بداية العام الجاري لمساعي الدخول في مفاوضات لعقد هدنة تقضي بخروجهم عبر طرق آمنة الى تلبيسة والدارة الكبيرة في ريف حمص الشمالي مقابل اطلاق 25 مقاتلاً بينهم واحد يحظى بأهمية للجيش النظامي. كانت هذه المفاوضات تتقدم وتتأخر. حاول مقاتلو المعارضة الضغط على النظام بتفجير سيارات مفخخة في احياء موالية للنظام في حمص ثم بهجوم مضاد في حي جب الجندلي الحمصي. في المقابل، حشد النظام قواته و «قوات الدفاع الوطني» لاقتحام هذه الاحياء المحاصرة مع تصعيد القصف. نزلت المفاجأة على الطرفين من مكان آخر. تلقت المعارضة من طهران عروضاً «اكثر سخاء» فعلقت المفاوضات لمصلحة مسار تفاوضي آخر. كانت المحادثات تتناول احياء حمص فقط، لكن المفاوضات الجديدة، تتناول بعداً اوسع من حمص: خروج مقاتلي المعارضة بحافلات منظمة وحماية من الاممالمتحدة يحملون سلاحهم الفردي الى الريف الشمالي في مقابل اطلاق «الجبهة» شخصية روسية وامرأة ايرانية وضمان ادخال مساعدات الى بلدتي نبل والزهراء الشيعيتين في ريف حلب شمال البلاد واطلاق عشرات المدنيين لدى «الجبهة الاسلامية» في ريف اللاذقية غرب البلاد. انها صفقة تختلف عن سابقاتها. ليس كما حصل في غوطة دمشق الغربية وفي جنوب العاصمة او في شمالها. كانت وسائل الاعلام الرسمية السورية تتحدث وقتذاك عن مقاتلي المعارضة باعتبارهم «ارهابيين» او «مواطنيين غرر بهم» وان ما جرى «تسوية اوضاع من لم تتلطخ ايديهم بالدماء» بهدف «العودة الى حضن الوطن». وحصلت وقتذاك مرات عدة ان «العصابات الارهابية المسلحة قامت بقنص اشخاص بعدما سلموا انفسهم» في ريف دمشق. وجرى مرات عدة انقلاب على عهود قطعت لادخال مساعدات غذائية. الصفقة الجديدة، تضمنت الكثير من الدلالات الرمزية - السياسية. «الجبهة الاسلامية» تسعى الى طرح نفسها شريكا سياسياً وتريد ضمانات لتنفيذ ما يتفق عليه. وطهران تسعى الى طرح نفسها كمحاور في الاقليم وتبحث عن شريك محلي. مغزى اتفاق حمص، انه تضمن اعتراف ايران ب «الجبهة»، التي تضم اكبر الكتائب المسلحة، محاوراً سياسياً واعتبار مقاتليها شرعيين وليسوا «ارهابيين» او «تكفيريين» عندما قبلت ب «الشرف العسكري» لدى خروجهم بسلاحهم. اما الكتائب الاسلامية، فان موافقتها على التفاوض مع ايران، اعتراف بدور ايران في سورية الذي كان ينظر اليه معارضون على انه «احتلال صفوي». بداية اعتراف متبادل. بدأ عسكرياً وكأمر واقع وربما يترجم سياسياً وبشراكة. وفي الصفقة ايضاً، ارضاء لابناء الساحل السوري، حيث جرى اطلاق مدنيين كانوا احتجزوا في «معركة الساحل»، بعد تعرض مسؤولين في النظام لانتقادات كبيرة من ابناء الطائفة العلوية كونهم تجاهلوا مصير مئات الاسرى لدى المعارضة في غرب البلاد وشمالها وشمالها الشرقي وريف دمشق، مقابل اكتفائه بالتركيز على عناصر اخرى، تتعلق بالصورة لدى الرأي العام العالمي والحلفاء الاقليميين، مثل صفقات اطلاق راهبات معلولا ومخطوفين لبنانيينوايرانيين، ضمن معادلة «حماية الاقليات» و «مسيحيي الشرق» والدفاع عن الحلفاء الاقليميين. صفقة حمص، جاءت ايضاً في لحظات انتقالية محلياً واقليمياً ودولياً. لا يمكن انكار البعد الاقليمي فيها وغياب البعد المحلي – السوري، مهما قيل عكس ذلك. في الاتفاق غلبة للقرار الخارجي مقابل اضمحلال للقرار السوري. من يعرف ايران، يقول ان قادتها يعتقدون ان المرحلة الاولى التي كانت تتضمن «تغيير النظام» في سورية طويت. مرحلة الحل العسكري انتهت. كانت الكلفة البشرية والمادية من دماء السوريين وبلدهم، على ايران هائلة لن تمحى خلال عقود. وان الجرح السني – الشيعي سيبقى مفتوحاً لعقود. حافظت على جزء من سورية حامياً لظهر «حزب الله» والحديقة الخلفية لرئيس وزراء العراق نوري المالكي وأبقت على خط التماس مع اسرائيل عبر الجولان وجنوبلبنان. وحافظت على اصابعها في المياه الدافئة في البحر المتوسط. مع بدء الاعداد للانتخابات الرئاسية وترشيح الرئيس بشار الاسد لولاية ثالثة، تريد ايران تدشين المرحلة الثانية. الحل السياسي وفق رؤيتها ومصالحها. الكل في مأزق ويبحث عن منقذ يفي بتعهداته. اقدام ايران على قيادة اتفاق حمص في شكل علني ومن دون مواربة، هو محاولة لاستدراج عروض للتسوية في سورية انطلاق من ثمانية عناصر: اولاً: فشل مفاوضات جنيف بين ممثلي النظام و «الائتلاف الوطني السوري» المعارض وانكشاف هشاشة التفاهم الروسي – الاميركي. ثانياً: انكشاف حدود تقدم القوات النظامية ومواليها بعد استعادة السيطرة بدعم من «حزب الله» على القلمون واقتصار ذلك على «الهلال الموالي» من دمشق الى طرطوس مروراً بحمص من دون القدرة على استعادة حلب وشمال البلاد وشرقها قبل الانتخابات بداية الشهر المقبل. ثالثاً: زيادة التوتر في المنطقة الواقعة بين دمشق والجولان مقابل خط فك الاشتباك مع اسرائيل، وامكانية اغراء الغرب برعاية استعادة الهدوء على هذه «الجبهة». رابعاً: حديث اميركي - غربي عن خطط لاستنزاف ايران وحلفائها لتكون سورية «فيتنامايران» وامكانية تزويد المعارضة السورية بالاسلحة والوسائل اللازمة ل «النزف البطئ» لايران اقتصادياً وامنياً وعسكرياً، اذ لا تريد ايران الخوض في البحر السوري كما خاض الاتحاد السوفياتي في المستنقع الافغاني. خامساً: ارتفاع سد منيع في البحر السني امام النفوذ الشيعي في المنطقة بحكم التورط الايراني في سورية خلال السنوات الثلاث الماضية. سادساً: اقتراب موعد مفاوضات الحل النهائي على الاتفاق النهائي مع الغرب ازاء البرنامج النووي. سابعاً: بدء العد العكسي لولاية باراك اوباما المتردد والمعتصم بالانسحاب من العراق وافغانستان والرافض للحلول العسكرية. ثامناً: انشغال اللاعبين الكبار، روسيا وأميركا والغرب، بمآلات الخلاف في اوكرانيا مع اجواء استعادية للحرب البارد. تقترح ايران حالياً حلولاً اقليمية وتغري منافسيها في الشرق الاوسط بالبحث عن تسويات وتفاهمات خلال انكفاء اللاعب الاميركي. تريد الانتقال من العسكرة الى السياسة، من الصدام الى التفاهم. تريد الاستثمار بتثبيت اتفاقات في لحظة مفصلية، ان تقطف ثمار عدم التدخل الغربي في سورية مثلما قطفت ثمار التدخل العسكري في العراق. يقول عارفون بالتفكير الايراني، انه كما كانت طهران ومن خلفها موسكو وراء اقتراح سياسة «الجوع او الركوع»، فإنها كانت وراء فكرة الاتفاقات المحلية لوقف إطلاق النار. وهي تسوق ذلك على انه بدلاً من التركيز على اتفاق جنيف الاول الذي نص على تشكيل حكومة انتقالية بين النظام والمعارضة من فوق الى اسفل والفشل في ذلك، تقترح الطريق العكسية من تحت الى فوق. ليس من القصر الرئاسي الى الضواحي والارياف، بل من الازقة والاحياء المحاصرة الى رئاسة مجلس الوزراء بعد سحب القصر الرئاسي من التداول باجراء الانتخابات في موعدها وبمشاركة الاسد. اتفاقات محلية لوقف العنف مع شراكة على المستوى المحلي بين قادة المجالس المحلية ومقاتلي المعارضة. ترك السياسة الخارجية والتحالفات الاقليمية للنظام المركزي مقابل تخلي النظام عن ادارة الاحياء للقادة المحليين و «المخاتير». اقتراح لامركزية في ادارة شؤون الحياة ومركزية في «القضايا الكبرى». عقد اجتماعي جديد: الخبز وادارة الافران والمازوت والكهرباء والجباية مقابل تأييد الحلف الاستراتيجي على طريق دمشق – بيروت – بغداد – طهران. وفق المعلومات، بالتوازي مع هذه الاتفاقات، قدم مسؤول ايراني رفيع «مفوض» من الرئيس حسن روحاني الى مسؤولين غربيين في مفاوضات سرية جرت اخيراً تصوراً سياسياً للحل، يتضمن وقف دعم مقاتلي المعارضة وتوحد الجهود الاقليمية والدولية ل «محارية الارهاب» ومنع تمويله ودعمه باعتبار ذلك نقطة تقاطع المصالح بين الحلفاء والاعداء، مع الاتفاق على سلسلة من المبادئ بينها «الاعتراف بوحدة سورية السياسية» و «احترام حقوق الغالبية السياسية» مع «ضمانات للاقلية العلوية»، اضافة الى برنامج للحل السياسي، يقوم على انه بعد الانتخابات الرئاسية يتم تشكيل «حكومة وحدة وطنية» بين النظام والمعارضة مع تسلم شخصية سنية تحظى بتمثيل وقاعدة شعبية رئاسة الحكومة لاطلاق «العملية السياسية» وفق برنامج زمني ملزم برعاية اقليمية ومن الاممالمتحدةوروسيا واميركا، بحيث يجري الانطلاق من الاتفاقات المحلية لوقف اطلاق النار على ان تشرف الحكومة الوفاقية على اجراء انتخابات ادارة محلية برقابة دولية ثم انتخابات برلمانية. يتضمن ذلك «حواراً سورياً – سورياً» لتعديل الدستور بما يعني عملياً تخفيف صلاحيات الرئيس على ان يبقى قائداً للجيش والقوات المسلحة مع زيادة صلاحيات رئيس الوزراء ودور اكبر في الاقتصاد وله مع رئيس البرلمان الاشراف على اجهزة الامن. تحاول ايران ان تطرح نفسها مفتاحاً وضامناً للحل والمصالح الغربية في سورية، بطريقة ذكرت مسؤولين غربيين، بدور النظام السوري في لبنان بعد الحرب الاهلية. وقال احدهم، بعد جلسة حوار مع مسؤول ايراني، ان طهران تحاول ان ترث دور سورية في معقله بعدما ورثته كله في لبنان وبعضه في العراق. تجس النبض ازاء «طائف سوري» يقوم على محاصصة طائفية – سياسية. لم يمانع المبعوث الدولي – العربي الاخضر الابراهيمي هذه المقاربة، بل انه اعرب عن قناعته ان ايران «اكثر مرونة» من روسيا. كما ان بعض الدول الغربية بات مقتنعاً بعد ازمة اوكرانيا ان «مفتاح الحل» في طهران وليس في موسكو. في الاقليم وليس في الاروقة الدولية. لكن الاقليم ليس على قلب واحد. كثير من الدول لا يريد اعطاء سورية «هدية» الى ايران كما اعطي العراق قبل عقد وهو يستعد ل «الاستنزاف». كما ان النظام السوري ليس على ذات الموجة مع ايران. يعرف المسؤولون السوريون، انه كما ان ايران مهمة لهم في معركة البقاء، فانهم مهمون للدور الايراني والروسي في المنطقة وينظرون من بين شقوق دعم طهران الميلشيات والقوات غير الحكومية وبين دعم موسكو مؤسستي الجيش والامن. ويعرفون نقاط القوة والاعتماد المتبادل ويراهنون على فشل الرهان على توسيع الشقوق كما فشل في السنوات الثلاث الماضية. وستكون انتخابات الرئاسة محطة في ادارة التوازانات في ضفة الحلفاء ومناسبة لمحاولة استعادة شرعية محلية بدلاً من البعد الخارجي. لذلك لم يكن مفاجئاً ان تؤكد صحيفة مقربة من السلطات ان اتفاق حمص سوري – سوري، من الألف الى الياء.