قبل بضعة أسابيع، نشر «البيت الأبيض» وثائق توضح ما سمّاها «خطة استراتيجيّة»، وُصِفَت بأنّها تضع الأمن الاستراتيجي السيبراني لأميركا في أيدي الشركات العملاقة للمعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة في «وادي السيليكون». وتولّى توم بوسير، وهو مستشار في الأمن الوطني لدى الرئاسة الأميركيّة، الدفاع عن تلك الخطة أمام الإعلام العام الذي كان منشغلاً آنذاك (ربما لا يزال) بتدخل روسي مفترض في انتخابات الرئاسة التي أوصلت دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة في بلاد «العم سام». والأرجح أنّ تلك الخطة تحتاج إلى نقاش أوسع مما تتيحه هذه العجالة، خصوصاً أنّ الخطة ترتكز أساساً على تنسيق متقدّم بين المؤسّسات الأمنيّة والعسكريّة الأميركيّة من جهة، والشركات الأميركيّة العملاقة التي تعمل في تقنيات الكومبيوتر والشبكات الرقميّة. ووفق تعبير بوسير، «إذا لم نبادر إلى إنشاء مركز مشترك بين الحكومة والشركات، فسنكون أمام وضع تعمل فيه 192 مؤسّسة خاصة وعامة على وضع خطط مستقلة في الأمن السيبراني». ولم يفت بوسير الذي سبق له العمل خبيراً أمنياً في «وزارة الأمن الوطني» عندما أنشأها الرئيس جورج دبليو بوش، التنويه بالقدرات التقنية المتقدّمة التي تملكها الشركات الكبرى، بالمقارنة مع ما تستطيع المؤسّسات الحكوميّة التوصّل إليه في مجال الأمن السيبراني. لم يفت بوسير توجيه نقد إلى الرئيس السابق باراك أوباما، بأنّه لم يضع لأميركا خطة استراتيجيّة كفوءة في الأمن السيبراني، لكن لم يفت غير وسيلة في الإعلام الأميركي الإشارة إلى وجود تقاطعات كبيرة بين خطة الأمن السيبراني التي أطلقها ترامب، وما كان معتمداً أيام أوباما في المجال عينه. ويكمن أحد مجالات التشابه الذي يصعب تناول تفاصيله كلّها، في النظرة إلى العلاقة بين الأمن الاستراتيجي الذي طالما كان شأن الحكومة ومؤسّساتها الضخمة، وبين الشركات العاملة في المعلوماتية والاتصالات. وفي ذلك الصدد، ربما يكفي استرجاع تلك النبرة التي تحدث بها أيام أوباما، شخص من داخل المؤسّسة العسكرية الأميركيّة، هو نائب وزير الدفاع السابق وليام ج. لين الثالث، مُطالباً البنتاغون بتخفيف قيود الملكيّة الفكرية، كضرورة لنقل البنية التحتيّة للصناعة العسكريّة الأميركيّة إلى مرحلة تتولاها الشركات الأميركيّة العملاقة التي تمتد أعمالها ونشاطاتها إلى أصقاع الكرة الأرضيّة كلّها. بقول مختصر، لم ير لين الثالث بدّاً من انتقال الصناعة العسكريّة الأميركيّة من مرحلة السيطرة العالية التي يمارسها البنتاغون، إلى مرحلة تكون فيها تلك الصناعة منخرطة في سياق العولمة. دروس مستخلصة من هاتف ذكي في تفسيره لمناداته بضرورة تخفيف قيود الملكيّة الفكرية، ساق لين الثالث أسباباً متنوّعة. إذ لاحظ أنّ البنتاغون دأب على رعاية براءات الملكية الفكرية، منذ بدايات الصناعة العسكريّة الأميركيّة. ورسم صورة قوامها سيطرة البنتاغون على التعامل مع الشركات عبر حماية ابتكاراتها بقوة تشابه حمايته لحدود الدولة الأميركيّة. وشدّد لين على أن العصر الرقمي يلقي بتحديات جمّة على تلك الصورة. وضرب مثلاً على ذلك هاتف «آي فون». وأشار إلى أنّه ينتج بواسطة شركة أميركيّة لكنه يتضمن مجموعة كبيرة من التقنيّات التي تصنع في مختبرات «آبل» داخل أميركا وخارجها، إضافة إلى تقنيّات عالميّة تشتريها تلك الشركة. بقول آخر، يمثّل «آي فون» منتجاً تقنيّاً يدين بتقدّمه إلى بنية تحتيّة في البحوث والتطوير والصناعة، تعمل على مستوى معولم تماماً. كم من الجنود الأميركيين يستخدمون «آي فون» أو غيره من الهواتف التي تصنع بصورة معولمة مشابِهة؟ ألا يجدر الاعتراف بأن المعلوماتية والاتصالات تغلغلت في الحياة اليومية للشعوب كافة، كما تغلغلت في قلب الأسلحة كافة، بل صارت ركناً نوعيّاً في التفكير الاستراتيجي؟ وخلص لين الثالث إلى القول أنّ الشركات العملاقة في المعلوماتيّة والاتصالات تبدي نفوراً من التعامل مع البنتاغون لأسباب يأتي في طليعتها تشدّده في مسألة الملكية الفكرية. ولذا، نصح لين بوجوب أن تنتقل الصناعة العسكرية الأميركية إلى مرحلة الانتشار المعولم، وهو أمر يفترض إزالة التشدّد في مسألة الملكيّة الفكرية وبراءات الاختراعات المتصلة بها.