15 مرة، زار فيها المخرج الشاب جون ميلاد مناطق متفرقة من محافظة أسيوط ( إقليم وسط صعيد مصر) المعروفة بتقاليدها المحافظة، على مدار ثلاث سنوات، لعرض مسرحياته الصادمة بالنسبة إلى ذلك المجتمع، إذ تعمّد عبر دمج مدارس فنية عدة إلى صياغة عمل لا يضفي على الواقع أي مساحيق تجميلية، فيتحدث بجرأة عن «الطائفية، ختان الإناث، الزواج المبكر، حقوق المرأة، القمع الأسري ...»، لتقابل في كل مرة بالاستنكار والرفض والمواجهة، ويعود ب «خفي حنين». «كل مرة كنت أعود ومشاعر الإحباط تتملكني، أشعر أنها الأخيرة، لكنني أعود...» يقول ميلاد في حديث إلى »الحياة» مختلف النبرة ومفعم بالأمل «تلك المرة اختلف الوضع، أشعر أنني بدأت أجني ثمار السنوات الماضية، المشاركون بدوا أكثر تقبلاً للتصحيح، أكثر انفتاحاً ووعياً، باتوا أكثر إيماناً بقدرات الفن غير المحدودة في التغيير». والمثير أن التفاعل الإيجابي مع ورش المخرج الشاب لترسيخ مفهوم عالمي آني حول «التغيير بالفن» عبر ورش تعتمد على المسرح التفاعلي الذي يصوغ مشاكل المشاركين في عروض فنية متنوعة، إضافة إلى نشاطات تنشيط الخيال والتعبير عن الذات عبر الرسم والكتابة والحكي، جاء من آخر مناطق كان متوقعاً تفاعلها مع تلك المفاهيم، قرية النخيلة والتي اشتهرت بزراعة المواد المخدرة والاتجار بها، وبها قُبض على التاجر الأشهر عزت حنفي (أعدم عام 2006) وعنه اقتبست قصة فيلم «الجزيرة» (إنتاج عام 2007). على مدار خمسة أيام، ناقش ميلاد مع 55 طفلاً ومراهقاً وشاباً من أبناء القرية وبناتها، قضايا العنف من «التحرش، العنف التربوي، المدارس، الإدمان، ختان الإناث، العادات والتقاليد، التفرقة بين أساس الدين والجنس، الزواج المبكر...»، عبر سبل تفاعلية، بحيث يتولى المشاركون أنفسهم صياغة تلك الأزمات في قوالب فنية تجعلهم أكثر قدرة على التعاطي معها، وترسخ قيم التغيير داخلهم، إضافة إلى العمل على صياغة أحلام الفئات المشاركة، والتي تباينت بين «بحلم أني أكمل تعليمي، بحلم أن لا يكون في فرق بين ولد وبنت في المعاملة، بحلم أني أعبر عن رأيي بحرية...»، إضافة إلى ورش لتعليم الرقص المعاصر (التعبير الحركي) ليتم تضمينها في العروض. وبعرض يدمج بين الرقص المعاصر والإنشاد الصوفي «نور» لفرقته المسرحية «ولسه»، بدأ جون جولته في صعيد مصر تلك المرة، في تغيير لافت لإستراتيجية التغيير التي يتبناها، إذ بدلت مواقع الأولويات بين المصارحة الكاشفة الصادمة مع المجتمع، إلى البحث عن المشتركات والخوض بداية عبر رحلة روحانية، فتسمو الروح بعيداً من المادة، وتصبح أكثر قابلية للتغيير وتصحيح المسار. واللافت أن تلك العروض جذبت أبناء تلك القرى أكثر من غيرها، ففي قاعة لا تستوعب أكثر من 40 مشاهداً على أقصى تقدير، تكدس 60 متفرجاً، فيما عاد أكثر من 40 آخرون من دون أن يتمكنوا من مشاهدة العرض. وعن تلك التغيرات يقول ميلاد: «الصدمة كان لابد منها في البداية، ليست صدمة بالمعنى الحرفي، إذ إن تلك المجتمعات تعي جيداً حقيقة أزماتها، لكن المشكلة أنهم لم يكونوا على استعداد كي يشاهدوها صراحة، ومع ذلك فقد كان التغيير الآن مناسباً، فالهدف في الأساس السعي نحو الأفضل بكل السبل. من التغيرات أيضاً أن عروض الورشة الأخيرة لن تتمركز فقط حول السلبيات في محاولة لتغييرها، لكن ستعرض كذلك الإيجابيات لترسيخها». تقام تلك الورش بدعوة من جمعية «معاً» وهي مبادرة مجتمعية في قرية النخيلة حول قضايا النزاع ونشر السلام. وتقول مديرة المشروعات بالمبادرة مريم نبيل: «على مدار 4 سنوات من العمل، فاقت تلك الورش كل الفاعليات الأخرى، في الغالب لا ينجذب الأهالي إلى ما نقدمه من ندوات تعتمد على الحديث التقليدي، فلا يتجاوز الحضور 30 شخصاً، ولا نلحظ تغيرات فعلية بعدها، لكن تلك المرة فاق التفاعل توقعاتنا، حتى أنه على مدار كل يوم ينضم إلينا أشخاص جدد. وتشير إلى هدفهم بتكوين كوادر من الشباب يتولون مهمة التغيير في قريتهم في ما بعد». هدف التغيير ذاته تحمله وسام عبدالحافظ ( 26 سنة) وهي إحدى المشاركات في الورشة والتي على رغم اندماجها من قبل في العروض المسرحية خلال الدراسة الجامعية، إلا أنها تدربت في تلك الورشة على سبل توظيف الفن لخدمة قضايا المجتمع، وقيام نص مسرحي على مجهودات الهواة بأقل التكلفة. تقول: «حفزتني التجربة للتفكير في دمج الفن في سبل التعلم الذي هو مجال تخصصي حيث دراسة اللغات، أو في مواجهة أزمات مجتمعية، أفكر جدياً في تأسيس فرقة عقب تلك الورشة». وعلى خلافها كانت المراهقة كاثرين تلتقي لأول مرة مع ذلك النوع من الفنون، تقول:» انضممت إلى الورشة لأقدم ما أجيده وهو الغناء، غير أنني أبصرت آفاقاً أخرى، تعلمنا التعبير الحركي، تدربنا على الحديث أمام الجموع من دون خجل، ورواية قصص من مخيلاتنا» مؤكدة «جعلتني تلك الورش أبصر نفسي كما لم يحدث من قبل».