خمسون عاماً، مرت على حرب 1967، بنتائجها الكارثية على مصر والمنطقة. يدفع هذا الحدث إلى استدعاء، ليس المجريات العسكرية التي خاض فيها قادة وخبراء عسكريون، إنما مقدمات هذه الحرب، والتي تبلورت في القرارات التي اتخذتها القيادة السياسية والعسكرية وتحديداً إغلاق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية وطلب سحب قوات الطوارئ من الحدود مع إسرائيل، ثم حشد الجيش المصري في سيناء. ويتفق ساسة وديبلوماسيون مصريون على أن هذه القرارات لم تكن تعني إلا الحرب، ولم تكن تشجع عليها أوضاع مصر الداخلية والإقليمية، فضلاً عن العلاقات بين القوتين العظميين التي كانت تتجه نحو المهادنة. بدأ هذا التطور عقب أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 حيث أعلنت الولاياتالمتحدة اكتشاف بناء الاتحاد السوفياتي قاعدة صواريخ على الأرض الكوبية، ما اعتبرته استفزازاً متعمداً. واتخذت إدارة كيندي عدداً من الإجراءات كان من أهمها فرض حصار حازم على كل المعدات الهجومية التي تتجه إلى كوبا. وعلى مدى 13 يوماً من الاتصالات والبيانات المتبادلة، بدت الأزمة حداً فاصلاً في تاريخ العلاقات بين البلدين لما بعد الحرب الثانية، ونقلت معنى الحرب والمواجهة النووية من مستوى التصورات المجردة إلى الواقع والإمكان الملموس. وقد عبرت القوتان هذه الأزمة عندما أعلن الرئيس السوفياتي خروشوف في خطاب إلى الرئيس الأميركي قرار سحب الصواريخ السوفياتية، معتبراً أن العقل هو الذي انتصر وأن قضية السلام والأمن هي التي فازت. غير أن قيمة أزمة الصواريخ كانت في دروسها التي استخلصتها القوتان، ودعا الرئيس الأميركي الأميركيين الى أن يفكروا في إطار جديد بينهم وبين السوفيات في ظروف العصر النووي. بهذا المفهوم توصلت القوتان إلى العديد من الاتفاقيات كان أبرزها معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية التي وقعها في موسكو (3 آب/ أغسطس) 1963 وزير الخارجية الأميركي دين راسك وكان أول وزير خارجية أميركي يزور موسكو منذ 16 عاماً. وعلى رغم غياب كل من الرئيس الأميركي جون كيندي، والسوفياتي خروشوف، فإن القيادات التي خلفتهما واصلت الإجراءات والاتفاقيات بين القوتين في عدد من أوجه علاقاتهما الثنائية، وبلور الرئيس الأميركي الجديد ليندون جونسون تقييمه لحالة العلاقات بين الولاياتالمتحدة والأمن السوفياتي بالقول «إن علاقاتنا مع الاتحاد السوفياتي في حالة انتقال، فقد تفاديا تصرفات ولغة الحرب الباردة، وحين اختلفنا حاولنا أن نختلف بهدوء... إن هدفنا ليس استمرار الحرب الباردة ولكن إنهاؤها»، وكان مضمون ما تم التوصل إليه من اتفاقيات وتفاهمات بعد أزمة الصواريخ الكوبية هو أن تتفادى القوتان الانخراط في صراعات إقليمية قد تؤدي إلى المواجهة المباشرة بينهما، وهو المضمون الذي تأكد خلال لقاء الرئيس الأميركي جونسون مع رئيس الوزراء السوفياتي كوسيغين في غلاسبورو في 23 حزيران (يونيو) 1967. كانت هذه هي أجواء العلاقات بين القوتين عشية اشتعال الأزمة في الشرق الأوسط، ولعلها تفسر مواقف القوتين في الأيام التي سبقت الخامس من حزيران، وتوافق مناشدتهم للرئيس عبدالناصر ضبط النفس وعدم اتخاذ إجراءات عسكرية. فوفقاً لرواية السفير عبدالرؤوف الريدي الذي تابع الإدارة الديبلوماسية اللازمة من مكتب وزير الخارجية محمود رياض، فقد بلغت القاهرة يوم 28 أيار (مايو) برقية عاجلة من السفير المصري في واشنطن مصطفى كامل عن استدعاء يوجين روستو وكيل وزارة الخارجية الأميركية له لكي يبلغه رسالة، قال إنها باسم الرئيس الأميركي جونسون، تناشد الرئيس عبدالناصر التمسك بضبط النفس وعدم اتخاذ عمليات عسكرية هجومية، وفي الليلة ذاتها توجه السفير السوفياتي في القاهرة إلى مكتب الرئيس عبدالناصر الساعة الثالثة صباحاً لكي يبلغه صورة من رسالة تلقتها القيادة السوفياتية من الرئيس الأميركي أن معلوماتهم تفيد بأن القوات المصرية تستعد للهجوم على مواقع إسرائيلية، وأنه إذا حدث هذا فإن الولاياتالمتحدة ستجد نفسها في حل من التزاماتها بضبط النفس. وقد استجاب عبدالناصر للنداءين الأميركي والسوفياتي، ورفض ما اقترحته قيادات عسكرية مصرية أن تستفيد مصر من الضربة الأولى، معتبراً أن ذلك سوف يضعف موقف مصر الدولي، هو ما استغلته إسرائيل بالبدء بضربتها الخاطفة التي شلت القدرات العسكرية المصرية مع أن البعض توقع أن تستوعب مصر الضربة الأولى وترد عليها. * كاتب مصري