مع قدوم فصلي الربيع والصيف، يزدهي الساحل اللبناني بوافديه ويرتدي أبهى حلله. وها هي بلدة أنفة الشمالية التي تبعد عن العاصمة بيروت حوالى 65 كلم ترتدي حلة قشيبة تبعث على الفرح والحبور. منازل وبيوتات قديمة تضع لبوس الأبيض والأزرق وغيرهما من الألوان الزاهية، وعلى مدخل هذه البلدة الشمالية تستقبلك دواليب الهواء الزرقاء بألوان تذكرنا بأيام الطفولة. أنفة اليوم تحتل مكاناً في المراتب الأولى كوجهة سياحية مفضلة في لبنان، نظراً إلى طبيعتها الجميلة وحفاوة أهلها وإنتاجها من الأسماك، خصوصاً شاطئها الجميل الذي يطلق عليه اسم «تحت الريح» ببيوته البيضاء والزرقاء ومطاعمه التي تقدّم «أكل البيت». مكان يشبه كثيراً الجزر اليونانية حيث سمّاه بعضهم «اليونان الصغيرة» أو جزيرة «سانتوريني» اليونانية الشهيرة، وحمل الشاطئ الاسم لأنه محمي من الريح بسبب الرأس وشكله الذي يشبه المرفأ الطبيعي. بقي عدد من آثار قلعة أنفة والعديد من الأثارات الفينيقية وغيرها من الحضارات، وبقايا معاصر وفسيفساء ومغاور بحرية وكنيسة سيدة الريح، وهي من أقدم كنائس المنطقة التي شيدت على اسم السيدة العذراء. وفي أنفة «دير الناطور» من عهد الصليبيين، وكنيسة القديسة كاترينا وكنيسة القديس سمعان وكنائس قديمة عدة. هذه الأماكن الجميلة في البلدة جذبت العديد من السياح، حيث تنظم «جمعية مهرجانات أنفة» احتفالات سنوية في البلدة في برنامج سياحي ثقافي فني. يقول السكان إن دواليب الهواء التي تتوزع في أرجاء البلدة تهدف إلى إرجاع التراث إلى أنفة التي اشتهرت بإنتاج الملح، وأول دولاب فيها كان من صنع الحداد رامح مخول المعروف لدى الأهالي ب «أبو الرمح» على الشاطئ قرب الملاحات مع إطلاق أول مهرجان فيها. هذه الدواليب اشتهرت في الماضي لأنها كانت تستخدم لسحب مياه البحر إلى الملاحات، وهو مصدر رزق أهل البلدة. وقد توقف استخراج الملح لفترة لأنه أصبح مكلفاً بسبب مضاربة الأسعار المنخفضة للملح المستورد. وأضيفت ثلاثة دواليب منذ عام ونيّف على مدخل البلدة، حيث كان الفينيقيون يصدّرون منها زيت الزيتون والخمر إلى أنحاء حوض البحر الأبيض المتوسط. وفي القلعة الفينيقية، ما زالت الأماكن والأجران التي كان يطحن فيها الزيتون ويصنع فيها الخمر موجودة. وقد تابعت «هيئة التراث» في البلدة نشر هذه الدواليب على طول شاطئ أنفة. وكان قد ورد في رسائل تل العمارنة الشهيرة التي تعود إلى القرن الرابع عشر ق. م. (بحسب الوكالة الوطنية اللبنانية للإعلام) أن بلدة أنفة تدعى «أمبي» Am-bi ثم تحولت إلى أمبا Ampa حين ذكرت في النقوش الأشورية من عهد الملك أسرحدون في الألف الأول قبل الميلاد. وفي العهد اليوناني الروماني ذكرت باسم «ترياريس» Triere أي السفينة ذات الصفوف الثلاثة من المجاذيف. وفي العهد البيزنطي ظلت ترياريس مذكورة على نطاق واسع حيث أضحت مركز أسقفية، وشارك أسقفها في المجمع الخلقيدوني المسكوني الرابع المنعقد عام 451 م. ونالت المنطقة نصيبها من الزلزال الكبير الذي ضرب الساحل في منتصف القرن السادس الميلادي.