يعتبر كتاب «عين الحياة في علم استنباط المياه» من المؤلّفات المتأخرة التي وضعها العرب عن تلك المسألة. وألّف الكتاب الذي يعتبر مساهمة علميّة بارزة في إشكالية تقصّي مصادر المياه في المنطقة العربيّة، العالِم أبو العباس أحمد بن عبدالمنعم الدمنهوري (نسبة إلى بلدة دمنهور المصريّة). ولد المؤلّف في عام 1101 ه، ونشأ يتيماً. وجمع الذكاء مع الطموح والعزم. ووجد في اكتساب العلم والتحلي به ما يخرجه من واقع مرير، إلى ما يطمح إليه من الرفعة والمجد والعلم. ومنذ صباه، قصد الأزهر لتحصيل العلوم، إضافة إلى الفقه. واجتهد في التعرّف إلى المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة، إضافة إلى عنايته بعلوم الهندسة والمساحة والفلك والحساب والميقات، وصنع آلات احتساب الوقت كالمزولة التي ترتكز على حركة الشمس في احتساب الوقت. تولى مشيخة الأزهر في أواخر حياته، لفترة لم تزد عن عام. التَمَسَ الدمنهوري تأليف كتاب «عين الحياة في علم استنباط المياه» من الشيخ يوسف بن محمد الزغواني التونسي، وهو فقيه معروف. ويبدو الطلب مستغرباً بالنظر إلى المسافة الواسعة التي تفصل تخصّص الفقيه التونسي عن موضوع الكتاب. وينجلي الاستغراب عند التأمّل في صلة الفقيه التونسي بأمير بلاده الباي حسين بن علي التركي، وهو مؤسّس الإمارة الحسينية في تونس. واشتُهِر عن الأمير أنه كان حفيّاً بالعمران، ومجدّاً في توفير متطلباته، على غرار الماء الذي لا غنى للكائنات الحيّة عنه. وكذلك اهتم الأمير التونسي بإنشاء الفوّارات والسقايات والصهاريج. لذا، اهتمّ الشيخ الدمنهوري بأن يوصِل إلى الأمير علومه عن وسائل استنباط الماء والتعرّف إلى مصادره. يتألّف ذلك الكتاب من مقدمة، وبابين، وخاتمة. خصّصَت المقدّمِة لأشياء تتصل بطبيعة موضوع الماء، كتفسير مصطلح الاستنباط لغويّاً، والحديث عن العناصر الأربعة التي كان القدماء يظنون أن العالم مُرَكّب منها، وهي الماء والهواء والنار والتراب. كما تضمّ رأي الدمنهوري في هبوب الرياح وصفاتها وعلاقتها مع المياه. ويشتمل الباب الأول في «عين الحياة في علم استنباط المياه» على شرح لطُرُق التعرّف إلى المواضع التي تحتوي مياهاً، سواء كان قريباً أم غائراً في باطن الأرض. ويتناول الفصل الثاني مسائل تتصل بحفر الآبار وطُرُق التعامل معها. وفنّد أقوالاً تتصل بمعتقدات المنجّمين الزائفة عن النجوم والقمر. وتضمّنت خاتمة الكتاب ثلاثة مباحث. يتعلّق الأول بإيضاح المسائل السابقة الذكر، إضافة إلى معلومات عن الأرض وصفاتها وطبقاتها، وما يحيط بها من ماء وهواء، وكذلك صفة الماء وأنواعه وأبخرته وغيرها. ويتمحور المبحث الثاني حول تبيان ما كان يُسمَّى «المعمور من الأرض»، بمعنى القسم الذي استقر فيه البشر على الكرة الأرضيّة. ويشير إلى أن المعمور من الأرض ينقسم إلى 7 أقاليم، ثم يعطي تفاصيل عن أثر الأقاليم في الأبدان والطبائع والأخلاق... ويركّز المبحث الثالث على شرح مستفيض عن العلم وأهله، متضمّناً آيات وأحاديث تحضّ على اكتساب العلوم وترفع مقدار من يكتسب العلم ويسعى إلى التعمّق فيه. في ثنايا الكتاب، هناك رسوم عن هبوب الرياح، وكرة الأرض، والأقاليم السبعة وغيرها. لا ريب في أن معظم ما تضمنه كتاب «عين الحياة في علم استنباط المياه» هو من العلم النافع الذي حظي بعناية الفلكيين وعلماء الأرض والمياه. وظل الكتاب موضع تقدير علمي لأزمان طويلة. ومع أن الدمنهوري لم يأتِ بجديد في كتابه، إلا أنه امتاز ببراعته في تلخيص المراجع العلميّة التي أشارت إلى استنباط المياه. وزادت أهمية الكتاب مع ضياع كثير من تلك المراجع، فصارت الإشارات المتضمّنة في كتاب «عين الحياة...» هي معظم ما يعرفه العلماء عنها. يدل تأليف ذلك الكتاب في هذا الزمن المتأخر من الحضارة العربية - الإسلامية، على مدى تعلّق علماء الإسلام بعلوم الحياة، وتعمّقهم فيها، إضافة إلى حرصهم على تجميع المعلومات عنها ووضع المؤلّفات الموثّقة في شأنها. * كاتب مصري