لعل أول ما يتعين فعله بالنسبة الى الفيلم المغربي الجديد «باسطا» هو قراءة ملصقه، فهذا الشريط، وبدءاً من الملصق يَبِين عن عوالمه، موضوعاً وشكلاً. يمنح للنظر صورة ليل عميق بأضواء خافتة مشتتة هنا وهناك تحيل على ما خَفي، ليس كاختيار جمالي، ولكن كتسمية تنعت واقع حال مليئاً بالحركة والعنف المرتبطين بالقسوة والألم. في كل جانب من الملصق شخص. الأول مستلق على طوار، الثاني واقف وجذعه منحنٍ إلى الوراء، والثالث جالس على مقدمة سيارة. إنها لا مبالاة غياب تنطق فيها حركاتهم بمن يودون تفجير مكنونات داخلية غير مريحة. هذه القراءة الأولية سنجد بعض تجلياتها في وقائع الشريط، بشكل أو آخر، لكن في معطاها الجماهيري والاجتماعي. فلا يجب البحث في الشريط عما وراء الصورة بل في الصورة ذاتها. الاجتماعي والجماهيري فقد ضمن واستخلص المخرج حسن دحاني وقائع عمله السينمائي الأول من الواقع مباشرة في منحاه الذي يحمل ما هو تراجيدي في بعده الدرامي المخالف لما هو إشكالي. من الواقع أخذ موضوع الشباب والمخدرات كثيمة أساسية، والعلاقات بين الأبناء والآباء وكل ما يستتبع ذلك من مآس كثيرة ومؤلمة. وهذه الأخيرة نشرها الشريط بالطول والعرض حد المبالغة القوية مع ما يرافقها من صراخ وتوتر ضاغط وطغيان ظلام بهدف إحكام الخناق على المتفرج خنقاً بعد أن نجح في الاستئثار كلية بالشخصيات. هنا قصص شخوص عديدة حول قصة أربع شخصيات متخيرة. صديقان، نوفل والمعطي، تربطهما لحظات التخدير الطويلة و «السطل» التي لا تنتهي إلا لتبدأ، نتيجة جراح متراكبة متراكمة وفق ما يستشف من الشريط الذي يرى سببها في المجتمع والأسرة وقلة التواصل بين الأفراد بسلاسة وبعد غياب سابق وعي. بجوارهما فتاتان الأولى سعاد صديقة نوفل التي تقاسمه عشقه للمخدرات في تحد سافر للمجتمع الذي يرفض ذلك، وتفعل ما تفعل تمرداً من دون أفق، بل وستؤكد ذلك مانحة صورة كاملة بالتمام والكمال لتجاوز المحظور. هي ثلاث حالات سلبية قاسية لا تحمل ذرة أمل تقابلها شخصية الفتاة سلمى التي ترفع راية التمرد بدورها، لكن بالانخراط السياسي عبر المشاركة في تظاهرات عشرين فبراير التي تزامنت مع ما سُمي بالربيع العربي. يمكن إضافة شخصية الشرطي الذي يظهر حنوناً تجاه والدته المريضة في صورة غير معهودة. هي شخوص تتناقل من أماكن تنشئتها المتناقضة، العمارات بخاصة مدينة القصدير، لتلتقي في الفيلم بقدرة مخرج رأى في تصادمها السبيل لتعريف بواقع مجتمعي مكبل بالكثير من المثبطات: الفساد الإداري والأخلاقي، الجريمة والمخدرات، التناقض بين الرغبات العصية والمحيط المعاكس، انعدام الحلول والمخارج المنقذة. شخوص مأخوذة من كل الشرائح ومختلف المهن. المقاول والأرملة، المناضلة والمنحرفة، الطالبة والعاملة، الموظف والعاطل. ...إلخ. تجميع خاص يثير الاهتمام. النتيجة المحصلة تتبدى في شريط غارق في سوداوية قاسية نوعاً ما. لأن السؤال الذي يطرح بالضرورة يتناول أهمية هذا الرسم الداكن في تقديم فيلم بمنح ظاهرة الانحراف عن الجادة، وتقديم تصور لمشكلات المجتمع. هل يكفي المحاكاة والتقليد من دون تحوير العدسة ومن دون التدخل في معاكسة النقل المباشر. ففي رأينا يفرض هذا التوجه قدرة أخرى على التوجيه. والسؤال مشروع لأن الفيلم يُكْثر من التصادم والصراع كما هو معروف في السينما الغربية الشعبية. هنا لقطة متصلة لسباق مطاردة بدراجة وسيارة، هنا لقطات معارك بالسكين واللكم، وهنا أخيراً تصفيات قاتلة لا تسمح بالتفاؤل والعودة. مما يُوصِف الفيلم بجماهيرية في جزء كبير مما أنتجه معتمداً على جلب المشاهدين بدغدغة مشاعرهم وعواطفهم المرتبطة بما هو معاند للحياة العادية الهادئة. هي سينما حركة حول مشاكل اجتماعية معروفة منذ عقود ومُعَاشَرة بشكل يومي سبَّبتها أعطاب حداثة غير ممثلة بشكل صحيح فردياً ومجتمعياً. وقد أُخِذت كما هي من دون قفازات، ومتروكة كما هي، حادة وجارحة وصلدة، كما لو أراد المخرج أن تَمنح من تلقاء نفسها الفيلم القوي المؤثر بلا تدخل ولا إعادة «كتابة». وهو ما لا يحصل. «باسطا» فيلم سيناريو مُطَبق بالحرف على ما يتجلى عند مشاهدته. جماليات السينما الشعبية وذلك رغم الشكل العام الذي اختاره المخرج المؤسَّس على متوازيات قصص عديدة، ثانوية ورئيسية، تلتقي حتماً في نقطة ما لتنهي مشواراً تُنقِّطه مسامير ومطبات ومفاجآت غير سارة. وهذه مُقَدمة عبر سرد لحوادث متتالية تنثال بتواتر مع سفر من الشمال إلى الصحراء في آخر المطاف. فيجب ذكر إقحام الشريط لمشاهد الفضاءات الواسعة المصورة والمناظر الخارجية الكثيرة. ما يهم هو التأثير بقوة وبسرعة بغض النظر عن العواقب. في النهاية نحصل على عمل يُشاهد كما هو، يملأ العين والذهن بوجوه وحالات ووقائع تختفي في ما بعد تدريجياً. الفنان حسن دحاني مخرج له حضور سابق عبر أفلام قصيرة مهمة أبرزها فيلم «الخبز المر» الذي ضَمَّنه ثيمات «باسطا» نفسها. وقد درس السينما بالولايات المتحدة الأميركية بعد أن كان أستاذاً للرياضيات، وقبل أن يصير أستاذاً للسينما حالياً. هذا المسار يفسر بعضاً من السينما التي يود مراكمة التجربة حولها. «باسطا» دليل حيوية إخراجية ستتأكد لا محالة في ما بعد.