إزاء جدار يكاد يسقط، إزاء أبنية منهارة طبقاتها ومخروقة برصاص القنص وفجوات القذائف، إزاء الصمت الذي يخيم على أحياء مهجورة رطبة يسكنها الظلام، ما من حقيقة أصعب على الاحتمال، سوى استذكارها، ذلك لأنها الحقيقة الصارخة والطاغية والقاسية والمتحكمة التي لا تقوى الذاكرة على نسيانها أو تجاهلها. والمعرض الذي نظمه غاليري مارك هاشم للنحات بسام كيريللوس تحت عنوان الفوضى the Chaos (ميناء الحصن- يستمر لغاية 6 مايو) يعكس رغبة الجيل الجديد في الربط بين ذاكرة الحرب وتداعي الأمكنة. ولا ننكر أن هذه التيمة باتت الأكثر رواجاً وانتشاراً وسيولة في تداوليات الفنون المعاصرة والقيّمين عليها عربياً ودولياً، لأنها تعكس ليس الماضي القريب لسنوات الحرب الأهلية في لبنان فحسب، بل الحاضر المتفجر بكل أهواله ورعبه ومآسيه الذي يطغى على مشهدية الصورة في حياتنا اليومية. ليس أدعى للحزن من رؤية الأوطان ذاتها تئن وتتلاشى في سقوطها نحو الهاوية. لكن بسام كيريللوس (من مواليد جبيل العام 1971) تمكن من إيصال فكرة الزوال والتلاشي إلى أبعد من الأمكنة، حين جسّد الكوكب الأرضي على أنه هو أيضاً مهددٌ بالزوال استناداً إلى حقائق علمية تتحدث عن الازدياد الحراري للأرض الذي قد يؤدي مع مضي الوقت إلى ذوبان الجليد وارتفاع منسوب مياه البحار التي من شأنها أن تغمر اليابسة. التفكيك والخرق والتشويه والحرق والتقطيع قد تكون من حيث المبدأ أفعالاً عدوانية على وحدة الشكل وانتظامه، ولكن فنانين كثر حول العالم في حقبة ما بعد الحداثة استنبطوا منها جماليات جديدة اصبحت من مقومات البداهة الفنية في المعاصرة، غير أنها تتخذ في اسلوب كيرللوس رموزيتها ودلالاتها التعبيرية الخاصة، من خلال البحث عن الطاقات الخفية الكامنة في التشكيل والقولبة والمزج بين الخامات المتعددة الصلابة والشفافية (ألمونيوم وريزين وباتين ومساحيق لونية)، ذلك فضلاً عن أن التأملات ذات الطابع الشعري، تجد وحدة عميقة في القوة التركيبية التي تتواصل عبرها مختلف انطباعات الحواس، بل أصوات الألوان: الأحمر والأزرق والترابي. فكيف نستطيع أن نرى من دون أن نسمع؟ والأشكال المتداعية المعوجّة، تَصدُر عنها أصوات حتى وهي ساكنة سكوناً على مضض، بينما الأشياء المشوهة تواصل إصدار صريرها. وثمة أشكالٌ بالية أخرى تزحف إلى الأعلى، ليست سوى ما تبقى من جدارن واقفة كالمسلات الجنائزية، وهي ذات سلالم تتلوى على نحو متقطع من طابق إلى آخر لكنها تفضي إلى الفراغ العبثي للوجود، أو إلى الحوافي الخطرة للمجهول. إنها الأبنية التي استطاعت بغرابة أن تقاوم زوالها برسوخها عمودياً كي تروي بعضاً من الذكريات المظلمة التي سقطت من حسبان الزمن، لكأنها واقعة بين زمنين (الحقائق العالقة بين الماضي والذاكرة) اعتبرهما الفنان مرحلة ما بعد الخرائب - المحدثة. ثقوبٌ كثيرة مثل عيون مفتوحة ونوافذ نائمة داخل عمارات مغمورة بوحول الأرض وغبار السنين. غير أن تقصي آثار العنف لم يقتصر على جمع صور الأبنية الرسمية والتاريخية التي تعرضت للقصف أثناء الحرب (مبنى البرلمان، ومباني الوسط التجاري لبيروت)، بل سعى لإظهار الانسلاخ الداخلي للجسم الإنساني في حروقه وعطوبه وكوابيسه، ليشير إلى خديعة لطالما كرستها الحضارات القديمة التي تتحدث عن شجرة الحياة. فالمسار ليس إلا الصورة المهزوزة عن عالمنا الذي فَقد الرّقة والدّعة، مقابل العنف والقتل والتدمير الشرس، حتى باتت الأرض شبيهة بتفاحة حمراء مقضومة، ولم تعد مثل «البرتقالة» كما تخيّلها يوماً الشاعر بول إيلوار.