تناقض كبير يسجّل في لبنان بين نسبة الفقر المرتفعة، حيث يعيش 30 في المئة من مواطنيه تحت الخطّ الأدنى للفقر، أي بمعدّل دخل يومي لا يتجاوز 8.6 دولار، والانتشار الواسع واللافت للتكنولوجيا الحديثة خصوصاً من ناحية الهواتف الذكية والاستخدام اليومي للإنترنت. فغالباً ما تترافق نسب الفقر العالية في البلدان الناشئة مع محدودية في انتشار هذه التكنولوجيا، لكن لبنان يُعتبر من البلدان القليلة التي تكسر القواعد في هذا المجال. فوفق مسح أجراه Pew Reasearch Center بين شهري آذار (مارس) وأيار (مايو) 2015، تبيّن أنّ 88 في المئة من اللبنانيين يمتلكون هاتفاً خليوياً أي النسبة ال20 الأعلى بين 40 دولة عالمياً، وال11 بين 29 دولة ناشئة شملها المسح. لكن اللافت أكثر، أنّ 52 في المئة من البالغين في لبنان يمتلكون هاتفاً ذكيّاً أي النسبة ال15 الأعلى عالمياً. ومن المعروف أنّ أسعار هذه الهواتف تتراوح بين 200 و1000 دولار. وإذا كان التساؤل حول نسبة ذوي الدخل المنخفض الذين يملكون مثل هذه الهواتف، فالنسبة تصل إلى 20 في المئة، وهي ليست ضعيفة أبداً. ولا يتوقّف الأمر عند حدود اقتناء هواتف ذكية، بل إنّ الاستخدام المكثّف للإنترنت ملفت أيضاً إذا ما قورن بالقدرات المادية المحدودة للبنانيين، ف66 في المئة من المُستطلعين يستخدمون الإنترنت أحياناً، والنتيجة الأهم أنّ 41 في المئة من المواطنين ذوي الدخل المحدود يفعلون ذلك في شكل دائم. حاجة ضرورية الماء، الكهرباء، الغاز، البنزين، إيجار السكن، التعليم، الطبابة... كلّها دفعات تُقتطع من مداخيل اللبنانيين شهرياً، وهي مداخيل في معظمها محدودة باستثناء ذوي الإمكانات المادية العالية. لكن ماذا عن الإنفاق على التكنولوجيا والإتصالات والإنترنت؟ غالباً ما تغيب هذه الناحية عن الدراسات التي ينجزها البنك الدولي في لبنان بالتعاون مع الجهات المحلية. لكن المعاينة الميدانية تظهر أنّ فاتورة الإنترنت وما ينفقه اللبنانيون لاقتناء أحدث التقنيات من الهاتف الذكي إلى الأجهزة اللوحية وحتّى الساعات الالكترونية ليس بسيطاً أبداً. نادر، مواطن لبنان، دخله لا يتعدّى 1000 دولار شهرياً وهو أب لطفل صغير. يعاني من صعوبات شهرية في تأمين الدفعات المطلوبة خصوصاً مع دخول ابنه إلى المدرسة. لكن على رغم ذلك، فإنّه يحمل بين يديه هاتف «آيفون 7» الجديد، وهو مشترك في خدمة الإنترنت بحجم 10 جيغابايت شهرياً. لا يمكن إلا التساؤل عن الطريقة التي اعتمدها للحصول على مثل هذا الهاتف، لكن جوابه أنّه يقوم بتقسيطه إلى متجر إلكترونيات. فعلى رغم وجود عشرات المستلزمات الضرورية للمنزل، يُعتبر الهاتف والإنترنت المكمّل له ضروريين، ولو احتاج ذلك للإقتطاع من أمور أخرى. وعلى غرار نادر، لبنانيون كثر لم يترددوا حتّى في الاستدانة لاقتناء هاتف ذكي والإشتراك في الإنترنت بهدف استخدام تطبيقات مثل ال «واتساب»، ال «فايسبوك»، ال «إنستغرام» وغيرها. فنور، التي تبلغ من العمر 30 سنة، لا يسمح لها مدخولها بإقتناء أحدث الهواتف. لذا لم تتردّد في طلب قرض من المصرف لشراء جهاز جديد، فذلك «أصبح جزءاً أساسياً من هويتنا وحاجاتنا الضرورية» على حدّ قولها. وهذا الاتجاه يؤكّده أصحاب متاجر الإلكترونيات، الذين يحاولون أيضاً تقديم تسهيلات في الدفع على الأجهزة الحديثة لتعزيز نسب الشراء. ويرى سامر الذي يدير متجراً في هذا المجال، أنّ اللبناني مستعدّ للإنفاق على هذه التقنيات لأنّه يرى فيها توفيراً له على المدى الطويل، مثل استخدام اتصال ال «واتساب» المجاني بدل الاتصال الفعلي الذي يكلّف دولارات. استثمار لمواجهة البطالة لكن هل يوفّر اللبنانيون فعلاً بهذه الطريقة؟ يشير في هذا السياق جو خوري، وهو خبير في الاتصالات، إلى أنّ كلفة الهواتف الذكية هي متقاربة بين البلدان. لكن من ناحية كلفة الإنترنت، فهناك فارق كبير مع الدول الأخرى، فالأسعار وعلى رغم التخفيضات التي حصلت أخيراً، لا تزال عالية وتكبّد المواطن عبئاً غير سهل، خصوصاً إذا اختار خدمة الإنترنت السريع عبر الشركتين المشغّلتين لخطوط الخليوي، وليس عبر الشركة الخاصة بالاتصال الثابتة ذات التسعيرة المنخفضة ولكن الخدمة البطيئة أيضاً. ويلفت خوري إلى أهمية خفض الأسعار أكثر وتأمين خدمات أفضل، وذلك لأنّ التكنولوجيا هي الطريق الأساسية لمواجهة الفقر والبطالة، من خلال تطوير مهارات الشباب خصوصاً، ودفعهم إلى دخول سوق العمل العالمية عبر الإنترنت. وكلّما ساهمت الجهات الحكومية في إدخال التكنولوجيا إلى المجتمعات الأكثر تهميشاً، استطاعت أن تحقّق تغييراً فعلياً، شرط أن يترافق ذلك مع التدريب وتأمين المعرفة اللازمة حول التكنولوجيا وطرق استخدامها.