لأن حياة المصريين في العقود الثلاثة منذ عام 1981 وحتى قيام ثورة يناير زادت صعوبة وقسوة، ولأن أحوالهم المعيشية والمجتمعية سارت من سيء إلى أسوأ على مدار السنوات الست الأخيرة، الملقّبة بسنوات ما بعد هبوب رياح التغيير. فقد نشطت حركة التردد على الأطباء النفسيين في شكل واضح، ومن قبل أشخاص ظلوا طويلاً بعيدين من هذا النوع من طلب العون. فمن «العفريت»، هذا الكيان الخيالي الذي يطارد البشر منذ آلاف السنين، وما آل إليه من تحديث وتعديل في الألفية الثالثة، إلى إدمان فكرة بعينها إدماناً يقلق نوم صاحبها، ومنها إلى مصيدة الموت التي تقلب حياة بعضهم رأساً على عقب، وأخيراً إلى الجنون بطعم السياسة وهو الحالات النفسية التي اضطربت واختلت وتشوشت بفعل السياسة في مصر. «أحوال نفسية: رحلة في حالات نفسية معاصرة في مصر المحروسة» هو عنوان الكتاب الذي صدر قبل أيام لأستاذ الطب النفسي الدكتور خليل فاضل، واستعرض فيه قصصاً وحكايات نفسية وعصبية من أرجاء مصر، أتت بمثابة جردة نفسية لأحوال المصريين. وأحوال المصريين النفسية لم تتخلَ عن «الأصالة» في المرض النفسي، وهي أصالة لا تعني بالضرورة أريحية ورصانة، لكنها إفراط في القدم. فمن شاب قروي يقول أن عفريتاً اسمه «أناناس» تمكّن منه، واستحضر الشيخ لإخراجه فأبى، إلى «غضبان» الذي تملك من سيدة قهرها زوجها حتى في أوجاعها النفسية وغيرهما، يشير العلاج النفسي إلى أن حكاية العفريت أو الجن لا تزال تتمتع بشعبية مفرطة لدى كثر. وهي تجد أرضاً خصبة تمكنها من النمو والاستمرار بفعل اقتناع فئات عدة بها، ووجود «شيوخ» و «شيخات» معالجين ينتفعون مادياً، واستمرار الأسباب التي تدفع بعضهم إلى الإصابة باختلالات نفسية يفسرونها بأنها «عفريت». يقول فاضل معالجاً أن في هذه الحالات يكون الطبيب محاوراً للمريض، لا مستجوباً له. يصادقه مع الاحتفاظ بمسافة بينهما. وهو أشبه بمعلم لفن الحياة، يربط بين نمطها الحياة الذي يعيشها المريض والمشكلة التي تستدعي تغييراً في الطريقة التي يعيش بها. «ما يحتاجه المريض نظرة صحية وصحيحة للعالم من حوله. حينئذ لن يجد نفسه مضطراً إلى العفريت ولا طرقعة عينه (طريقة شعبية في العلاج بالبخور). فقط يحتاج الثبات والإدراك الواعي وروح الدعابة، لأن الذي يخاف من العفريت يطلع له». ومن طلوع العفريت في حياة قطاع من المرضى النفسيين المصريين، إلى دور المخ، وهو دور لا يقوى أحد على إنكاره على رغم أهمية أدوار أخرى كالقلب والكبد والكلى. عبده يعمل في مسلخ، ويسمي نفسه «عبده مخ». وينوّه الدكتور فاضل إلى أنه ربما يدرك أن المخ هو تلك المحطة الرئيسة التي تتحكّم في حياة الإنسان، وإن لم يكن العوض الأهم في حياة الحيوان المذبوح. «فهو يؤكل مقلياً أو مسلوقاً بالزيت والحامض. أما في حي باب اللوق، المنطقة الساخنة التي شهدت أحداث عنف كثيرة إبان ثورة يناير وبعدها، فقد كتب صاحب مطعم على واجهة محله «مخ مصري ممتاز». هذا الإدراك الشعبي الفطري بأهمية المخ يصاحبه كذلك إدراك شعبي فطري آخر وهو بحتمية الموت. لكن بين حتمية الموت والخوف المرضي منه خطاً فاصلاً رقيقاً. نسبة لا يستهان بها من المرضى النفسيين يحملون خوفاً مرضياً من الموت، على رغم الإيمان والإدراك والعوامل الثقافية في البيئة المصرية التي يبدو ظاهرياً إنها تؤهل الجميع إلى هذه الحقيقة الحتمية. وفي ضوء نظرية عالم الاجتماع إريك إريكسون يقول فاضل: «كلما تقدّم الزمن بالإنسان، يصل إلى مرحلة «تكامل الأنا»، وهي تحمل رضاه عن نفسه كما هي، يجد لنفسه مكاناً ومعنى وهدفاً ويحقق ذاته. أما من يفشل في ذلك، فلا يصل إلى مراده. هؤلاء يعانون أكثر من قلق الموت، لأنهم لم يشبعوا من الحياة ولم يحققوا هدفهم منها». ومن الأهداف المحطّمة على جدران المشكلات الأسرية والقصص العاطفية الفاشلة والعراقيل المهنية إلى الانخراط في السياسة كمهرب أو ملجأ، وهو ما يسميه فاضل ب «جنون السياسة». ويوضح أنه منذ بداية عمله في بريطانيا قبل نحو 30 عاماً وهو يرى أن الهوس ما هو إلا دفاع ضد الاكتئاب. إنها رسالة يقول فيها الشخص: أيها الناس، أنا لست مكتئباً، لست مهزوماً. أنا شاطر. أنا جدع (قوي)». ظاهرة «أنا جدع» سمة آنية تجمع بين كثر من أبناء جيل التسعينات في مصر، لا سيما الذين ولدوا بين عامي 1995 و1999. يقول فاضل إنهم يشكّلون ظاهرة بالغة الخطورة في وعيها وفهمها وتطوّرها وتعقّد تصوراتها. يعيشون في مجتمع السموات المفتوحة، عصر الإنترنت بكل ما يحمله من معرفة وعلم وإدراك للأمور وسط خواء واضح في تفاصيل الحياة الأخرى ومقوماتها. صبي في ال17 من عمره. ابن وحيد لأم مسيطرة وانفعالية وأب ضعيف منسحب من الحياة. لا يتفقان على شيء باستثناء أرض واحدة تجمعهما عنوة وهو الصبي. خلافات مادية متفاقمة في هذا الظرف الاقتصادي المؤلم الذي يعيشه المصريون، حالة استثنائية من عدم الأمان واليقين، على رغم المدرسة الأجنبية وتوافر شاشات التلفزيون التي تبث ليلاً ونهاراً مشاهد العنف وأصوات الرصاص. أصاب الصغير هوس ديني، استبعد والديه من شؤون حياته، اكتأب، خاف، حزن وانتحب. حتى علاجه في المستشفى لم يكتمل لاتفاق الوالدين على أن الولد سليم والعيب في الأطباء. يشير فاضل إلى أن هذه الحالة تمثّل شريحة في الطبقة المتوسطة التي قامت «افتراضياً» بالحراك الثوري في كانون ثاني (يناير) 2011. ويضيف: «على رغم مشاركة كثيرين من أبناء الطبقات الميسورة، الوسطى العليا والطفيلية العليا مالكة النقد السائل (الطفيلي) من خلال تجارة العملة وتبييض الأموال في العقارات والسلاح والمخدرات. وهناك أيضاً الليبراليون والماركسيون وغير المنتمين الذين ضجوا جميعاً بنظام الرئيس حسني مبارك الجاثم على الصدور. لكن الصبي وأسرته ينتمون إلى الطبقة المتوسطة الكادحة بدراستها وعملها. فكيف في زمن التقلّب السياسي والاقتصادي الشديد أن يمرض نفسياً؟ الإنكار إذن كان الحل». حل مغاير اتبعه مريض آخر. شاب في ال28 درس الترجمة الفورية وعاطل من العمل. يكرر دائماً «لازم (يجب) أقابل (الرئيس عبد الفتاح) السيسي. هناك مصائب سوداء تحدث في البلد ولدي الحل لها». تحدّث عن (الرئيس السابق محمد) مرسي وبكى، ليس لانتماءات سياسية لكن لتأثر سلبي بالأوضاع السياسية. ويرى فاضل أن الإشارة إلى الرئيس السيسي تتكرر كثيراً لدى مرضاه، لا لأسباب سياسية، ولكن لعوامل تتعلّق بافتقاد الأمان والحاجة إلى الاستقرار النفسي والمهني والقدرة على تحقيق الطموح. يقول: «ذكر السيسي يجيء كمرجع وقوة مطلقة لكثيرين من المرضى الباحثين عن الأمان، وعن مصدر قوة وسط البعثرة والتشظي واللاطمأنينة وحالة الفوضى النفسية وعدم اليقين والقدرة على استشراف المستقبل. العمليات النفسية السابق ذكرها هي مجرّد حيل نفسية دفعية تُترجم في صورة خلل كيماوي في الدماغ ينتهي بكونه مرضاً واضطراباً لا بدّ من علاجه». دفتر أحوال المصريين النفسية متخم بالقديم والجديد، التقليدي والحداثي، ومنه يمكن تشريح الأوضاع وتفسير الأسباب. لم يعد الأمر مقتصراً على عفريت يتملّك هذا، أو خوف من موت يتربّص بذاك، أو وساوس قهرية أو هلاوس فكرية هنا وهناك، لكن الأوضاع السياسية والظروف الاقتصادية في ظل المعطيات التقنية تطرح حالة نفسية جديدة للمصريين.