الأرجح أن هناك شيئاً ما خارج المألوف في العالم اللبناني- الفرنسي حسين منصور الذي تتمحوّر بحوثه على الجهاز العصبي (وتراكيبه الجينيّة)، خصوصاً مرض «آلزهايمر» Alzheimer. ربما إنه شيء لا يتعلّق بمساره العلمي والأكاديمي. ثمة شيء آخر، يدفع إلى التفكير فيه أنّه أرسل إلى «الحياة» معلومات عن سيرته مكتوبة بخط اليد على أوراق تم تصويرها رقميّاً ثم أرسلها باعتبارها موادَّ بصريّة مرفقة ببريد إلكتروني. وبتلك الطريقة، تكون النصوص المكتوبة مخبّأة ومحجوبة عن برامج مراقبة البريد الإلكتروني التي تستطيع قراءة النصوص في متن الإيميل، وتدخل على النصوص المكتوبة في شكل ملفات «وورد» وما يشبهها، لكنها لا تستطيع قراءة النصوص المخبّأة كصُوَر. وفي ذلك الخباء الذكي، يظهر حرص منصور على الخصوصيّة، ومعايشته التطوّرات في عوالم المعلوماتيّة، خصوصاً بعدما كشفت وثائق الخبير الأميركي إدوارد سنودن الرقابة الإلكترونيّة الشاملة التي تمارسها «وكالة الأمن القومي» على شبكات الاتصالات في الكرة الأرضيّة. وتستأهل عناية منصور بحماية بياناته الشخصيّة تنويهاً، لأنها تعطي نموذجاً عن ضرورة انخراط الجمهور الواسع في حماية بياناته ومعلوماته بنفسه، وعدم الركون إلى برامج الحماية التي تصنعها شركات ثبت أنها لا تستطيع حماية بياناتها ولا مواقعها! وتقنيّاً، يعرف أسلوب تخبئة النصوص المكتوبة على هيئة صور مرفقة بالبريد الإلكتروني وبرامج المحادثة، باسم «ستينوغرافي» Stenography. ولعل أشهر من يستخدمه هو المعارضة الصينية التي لا تملك وسائل كافية لمقاومة الأدوات المتطوّرة المستخدمة من قِبَل الحزب الشيوعي الصيني في مراقبتها. ولعل الأمر يذكّر بشيء طريف. فعند حضوره إلى «الحياة» للمرّة الأولى، سئل عن مكان سكنه في فرنسا، ولما تبيّن أنه بلدة «أميان»، قيل له إنها شهيرة بسبب معارك يعتز بها الفرنسيون كثيراً جرت إبّان الحرب العالميّة الأولى، بل تعرف باسم «هجوم المئة يوم» الذي شكّل بداية لنهاية الحرب. وحينها، أبدى منصور استغرابه من الربط السياسي- الحربي المباشر لمكان إقامة شخصي. وتبدّدت الحيرة حين قيل له أن المنطقة تتنفس سياسة وحروباً على مدار الساعة، فلا يستغرب أن تنشغل الأذهان بروابطها. هل توحي ظلال المعطيات الآنفة بأن خيوطاً واهية من السياسة تحضر في سيرة منصور العلميّة؟ بيروت البداية نشأ منصور (مواليد بيروت، 1953) في عائلة تدأب على التمسك بالعلم بوصفه أساساً في الحياة، وذاك مألوف في العائلات اللبنانيّة، خصوصاً الشرائح المتوسطة. وأنهى المرحلة الثانويّة في بيروت بتفوّق علمي حفز والده على تشجعيه على السفر إلى فرنسا كي يلبي شغفه العلمي المبكّر آنذاك في ما يتعلق بالدماغ والجهاز العصبي. استهل منصور مساره في فرنسا بأن تخرّج طبيباً، ثم مختصّاً في جراحة الدماغ والنخاع الشوكي في جامعتي «بوردو» و»غرينوبل»، ثم عيّن اختصاصيّاً في مستشفى «مونبولييه» الجامعي، مع ترشيحه لمنصب أستاذ أكاديمي في جراحة الأعصاب. وسرعان ما تبلوّر لديه ميل إلى البحوث البيولوجيّة العميقة عن الأعصاب، خصوصاً مسألة تجدّد خلايا الدماغ. وحينها، كان السائد علميّاً أن خلايا الأعصاب في الدماغ غير قادرة على التجدّد، بمعنى أنها لا تزيد عدداً بل تنقص مع التقدّم في العمر. وفي مسار البحوث، التقى منصور البروفيسور ألان بريفيه الذي يعتبر من المرجعيات العلميّة فرنسيّاً في بحوث الدماغ والخلايا العصبيّة، وما زال متمتّعاً بعضويّة «الأكاديميّة الفرنسيّة» حتى الآن. وبفضل دراسات معمّقة وبحوث دؤوبة، نال منصور دكتوراه في الكيمياء العضويّة (هي فرع من الكيمياء الذي يتعامل مع المادة الحيّة) من جامعتي «مونبولييه» الفرنسية و «هارفرد» الأميركيّة. وفتح ذلك الباب أمامه لاستكمال مسار البحوث عن الخلايا العصبيّة وآليات تجدّدها، بل انخرط في تجارب معمّقة عن زرع الخلايا العصبيّة في دماغ الحيوان ونخاعه الشوكي، بالمشاركة مع البروفيسور بريفيه. مثلث السياسة والإعلام والعلم وفي بداية 1985، بدأت التجارب تؤتي ثمارها، بل كانت الأولى علميّاً في مسألة زرع خلايا ضمن الجهاز العصبي. كان بديهيّاً أن تحدث ضجّة كبرى، وتلفت أنظار المجتمع العلمي العالمي. ونشرت نتائجها في عشرات المقالات العلميّة التي وثّقتها مجلات مرموقة ك «نايتشر» و «مجلة بحوث الدماغ» Brain Research. وكذلك اهتمت بتلك التجارب وسائط الإعلام في فرنسا والغرب، كما تفاعل معها «المركز الوطني للبحوث الطبيّة الفرنسيّة» بأن ضخّ مزيداً من الأموال لدعمها. ضمن سياق تلك الضجة الكبيرة، ظهر تفاعل بين مثلث السياسة والعلم والإعلام. إذ حرّك الإعلام المخيلات عن الاحتمالات المذهلة الكامنة في مسألة زرع أعصاب في الجهاز العصبي، فتجدّد شباب الدماغ والنخاع الشوكي، بل تخلصهما من أمراض مستعصيّة. وتلقفت السياسة الأمر، فأصر الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران على الحضور إلى المختبر الذي يعمل فيه منصور وبريفيه، جاراً بيديه كرسيّاً متحرّكاً جلست عليه وزيرة مقعَدَة، في إشارة إلى إمكان شفائها من الشلل عبر زرع خلايا في جهازها العصبي. وغطى الإعلام الفرنسي تلك الزيارة بتوسّع، مكرّساً التفاعل بين مكوّنات المثلث الآنف الذكر. وكوفئ منصور بجائزة نجاح من «المؤسّسة الفرنسيّة» Institut Francais وتنويهات من «المعهد الوطني للبحوث». ثم ظهر أفق آخر، مع عرض علمي مميّز تقدّمت به جامعة «هارفرد» الأميركيّة، يتضمّن الانتقال بتجارب زرع الأعصاب إلى القردة العليا، وهي الحيوانات الأكثر قرباً إلى الإنسان في بيولوجيا جهازها العصبي. وكذلك شمل العرض موازنة بحوث تقارب 700 ألف دولار، ثبت لاحقاً أنها لم تكن سوى...مجرد بداية! إذ أبدى الجيش الأميركي اهتماماً كبيراً ببحوث زرع الأعصاب، فضخّ قرابة مليون دولار إضافيّة. وبديهي القول أن صورة زرع خلايا للتجديد الجهاز العصبي تثير آمالاً كبيرة لدى العسكر، خصوصاً أن إصابات الأعصاب وشللها تمثّل إحدى أضخم شرائح الإصابات في الحروب. على رغم أن تلك الأرقام تربو كثيراً عن كونها مجرد حفنة من الدولارات (باقتباس عنوان فيلم كاوبوي أميركي نال شهرة واسعة في سبعينات القرن العشرين)، إلا أنّها لم تنجح في اقتلاع بيروت من دماغ منصور وأفكاره وخيالاته. وغادر أميركا حاملاً عقداً مع «الجامعة الأميركيّة في بيروت»، وأملاً بالعودة إلى بلاد الأرز للمساهمة في نهوض بحوث علوم الأعصاب (وجراحتها أيضاً) فيه. وتحديداً، كان في حوزة منصور موافقة من الإدارة الأميركيّة لتلك الجامعة، على فكرة إنشاء مختبر مختص ببحوث خلايا الأعصاب وزراعتها، ورفده بالمعدات الحديثة، وتكوين فريق مختص للعمل فيه. العودة الى أميان لم تجر رياح الوقائع اللبنانيّة بما اشتهت سُفن عودة منصور إلى بلاده. ولم يستطع قهر عوائق ظاهرة ومستترة أفشلت مشروع تأسيس مختبره المأمول. وفي ما يشبه التشبّث بخيوط الأمل، حاول منصور تأسيس مستشفى خاص به يكون نوعاً من البديل للمختبر المتلاشي. وضاعت أموال وجهود في مسعى لم يتكلل بالنجاح. كانت النتيجة عمليّاً هي عودة منصور إلى... فرنسا. وفي حضن عائلته الصغيرة في "أميان"، ينكب على عمله جراحاً، ويواصل بحوثه العلميّة، ما يجعل نهار عمله يلامس ال18 ساعة يوميّاً. لا يعني ذلك أن حلم الوطن غادره، بل ما زال يلتمع في أفكاره بصيغ مختلفة. وما زال يعمل على محاولة نقل بحوثه المتقدّمة إلى المنطقة العربيّة، فيتواصل مع مؤسّسات رسميّة وجهات حكوميّة على أمل بالحصول على موافقة إيجابيّة في شأن تأسيس مختبر لبحوث زراعة الأعصاب ودراسة الدماغ والجهاز العصبي. وقدّم مقترحات علميّة وعملانيّة مفصلة عنه، إلى عدد من دول الخليج العربي، منتظراً رداً ربما يجيء في يوم لا يكون بعيداً. وفي فرنسا، تستمر البنى العلميّة في التعامل إيجابيّاً بصورة مستمرّة مع منصور. وحدثت نقلة نوعيّة في بحوثه التي صارت تجرى بمشاركة البروفسور بريفيه، لكن انضم إليها البروفيسور الياباني الشهير ياماناكا الذي نال جائزة نوبل في 2012 عن اختراق علمي حقّقه عبر تحفيز الخلايا الجذعيّة (خلايا المنشأ) كي تنتج خلايا عصبيّة جديدة في الدماغ والنخاع الشوكي. وبهذا، انفتح أفق آخر أشد تقدّماً في بحوث منصور على تجديد الجهاز العصبي، سعياً للتوصل إلى شفاء الإنسان من الشلل وخرف ال "آلزهايمر" الذي يعتبر من الأمراض المؤرّقة للبشر في الأزمنة المعاصرة.