حدثنا ابن الأعرج أنّه قال: «... خرجت يوماً حزيناً من قريتي وقد تعاظمت كربتي. فكنت سائراً في طريقي، سادراً في همي وفكري، وقد حملت من الهموم ما ينوء به ظهري. ووليت وجهي صوب بيت أحد الأصدقاء، الذي أظن أنّه من الأنقياء، الذين أحمل لهم من الحب في قلبي ما يعادل حب الأصفياء للأوفياء. ذهبت له بعد أن ضاق بي الحال، ونقص مني المال، ولم يعد لي في هذه الدنيا عم ولا خال، وبعد أن بان لي سوء المآل. فغدوت أشبه بميت ملقى على قارعة الطريق، بعد أن تخلى عني القريب والرفيق. ركبت حماري، ووكلّت الله أمري. وبينا أنا في طريقي، ومن الجوع والعطش أزدرد ريقي، رأيت عرج أبو البن المشهور بأنّه مأوى للعفاريت والجن. فقررت أن أريح نفسي قليلاً، حتى يجد جسدي للراحة سبيلاً، ولكي يعلف حماري من الكلأ والحشيش، وأخفّف من ذلك الهم الذي لا يزال في صدري يجيش. ألقيت بنفسي أسفل العرج، ومددت يدي إلى الخرج. فوجدت كسرة من خبز قديم، قضمت منها لقيمات لم تُسكت جوع بطني المقيم، وشربت بعض جرعات من الماء، فحمدت الله وأكثرت له الثناء. وما هي إلا لحظات حتى داعب جفني النوم، بعد أن أكثرت لنفسي العتب واللوم، لأنني أخترت الجلوس والراحة في هذا المكان المشؤوم. وبينا أنا أغالب نعاسي، وبعد أن ثقل بالنوم رأسي، رأيت أمامي فتاة باهرة الجمال، ذات لحظ قتّال، فدارت بي الأرض ذات اليمين وذات الشمال. فقلت مخاطباً نفسي: سبحان الله الوهاب على من أعطى هذا الجمال الخلاّب. تشجّعت فقلت لها: من أنت يا أخت العرب؟ فالتفتت نحوي وقالت وما شأنك أنت أيها الرجل النتن الأجرب؟ فدع عنك اللجاجة وخلّص لسانك من الركاكة ونظّف عقلك من الفجاجة. أنت من وطأت قدماك أرضي بلا طلب ولا إذن مني، فإليك عني، قبل أن يحلّ غضبي عليك، فاحفظ لسانك في فيك، ولا تتفوه بكلمة واحدة، فتكون لك القاضية..فزاد منها خوفي، وبلعت من الرعب ريقي، وسكت ووجف قلبي في جوفي، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم، وطلبت من الله الرحيم العليم أن يبعد عني شياطين الجن والأنس، وأن يحفظ عليّ الجسد والنفس.. فلما رأت أن رعبي قد زاد، وخوفي امتلك جسمي وساد، رسمت على محياها ابتسامة، فانقشعت الغمامة، فارتاحت نفسي لمرآها، ووقع في قلبي هواها.. وطال بيننا الحديث، وشرّق بنا وغرّب، وأخذت أصابعي ليديها تتسرّب، وهي تارة تضحك، وتارة بيدي تمسك. ولبثنا على هذا الحال مدة طويلة، كانت الأمور تمشي بطريقة يسيرة.. فتشجعت وقلت لها ذات لحظة مواتية: إنّ غرضي شريف، وأنا غني عن التعريف، وديدني في هذه الدنيا الكفاح، وقد هفت نفسي للنكاح، فماذا تقولين؟ فأربد وجهها بالحزن، وهلّت دموعها مثل المُزن، وقالت لي بصوت حزين: لن أجد مثلك لي قرين وخدين، ولكن يا سيدي لديّ معضلة، فقلت لها متلهفاً وما المشكلة؟ فقالت لي: لن تقدر إذا رأيت مصيبتي على الثبات، ولن تنساها حتى الممات. فانشغل قلبي لما قالت، وخصوصاً بعدما أحببتها، ونفسي لها مالت.. فقلت لها: قولي ما بدا لك وسأكون طوع بنانك؟ فقالت: لن تقدر على النظر، وسيذهب منك العقل والبصر، قلت لها: هاتِ ما عندك؟ فكشفت عن رجليها وساقيها، فإذا برجليها رجلي حمار، فشرد مني العقل وحار. فذكرت المثل القائل: ذاب الثلج وبان المرج. فنظرت إلى وجهها فإذا هو كالبدر المنير، ورجليها مثل أظلاف الحمير، فانقبض قلبي، وشرد لبي. ونظرت إلى حماري فإذا به ملأ الدنيا نهيقاً وضراطاً، فقمت من مجلسي، فاصطكت ركبتي، وزادت بلوتي. فأسرعت نحو الحمار المرتعب فامتطيته ولا أدري إلى أين يكون الطلب، وغادرت المكان على وجه السرعة بعد أن بانت لي عيوب السلعة. وحلفت بالله عزّ وجلّ ألا أشغل نفسي عن العمل، وسأكافح حتى أنال المنى، وهذا يا سادتي ما حصل لي وجرى. * قاص سعودي.