طال أمد المسكنات، وانتهى مفعول ضخ المنشطات ليبدو المكان صامداً قوياً قابلاً للمنافسة. لكنّ الجسد الواهن والمحتوى المتهالك كشفا عن واقع قبيح لم يعد في الإمكان تزيينه بتحديث استوديو أو تجديد برنامج أو الدفع بمذيعة جديدة هنا أو استعادة مذيع مهاجر هناك. فأعضاء الجسد الواهن التي كانت يوماً قلباً نابضاً بالعمل الإعلامي المتميز، وعقلاً ينضح بأفكار ومخرجات هن السباقات في عالم عربي يخطو خطواته الأولى في عالم الشاشة الفضية، لم تعد قادرة على المقاومة. نال المرض والتحجر والمكابرة من مبنى «ماسبيرو» العتيق الأصيل، الذي تحول من منارة ريادية للإعلام التلفزيوني والإذاعي العربي إلى أطلال تسير بقوة الدفع اليومية. وبدلاً من تطوير القدرات، ومواجهة المشكلات، وعلاج الآفات، اعتمد أسلوب المسكنات ومنهج المثبطات وادعاء القدرة على الاستمرار بقواعد أمس وأول من أمس في عالم تلفزيوني يبتكر على مدار الساعة وقنوات فضائية وأرضية تنافس الأنظمة في القوة والهيمنة، وتطيح حكومات، وتقلب كوكب المعمورة رأساً على عقب عبر دقة زر على الريموت. الريموت الذي عانى أول من أمس دقات متتالية متسارعة للتأكد من أن ما يراه ملايين المشاهدين من المصريين الموعودين بمشاهدة لقاء الرئيس عبدالفتاح السيسي مع نجم شبكتي «بي بي أس» و«سي بي أس» المذيع الأميركي اللامع تشارلي روز حقيقة وليس خيالاً. قليلون من المتابعين للمشهد الإعلامي والعالمين ببواطن الأمور التلفزيونية الأميركية والملمين بأحاديث الرئيس السيسي على مدى السنوات الثلاث الماضية فوجئوا بأن تشارلي روز الذي أجرى اللقاء ما هو إلا كبيرة مراسلي الشؤون الخارجية مارغريت وارنر، وما الحديث المذاع على أنه جرى قبل ساعات إلا حديث أجرته معه الشبكة قبل عام بالتمام والكمال. كمال الفضيحة أتى من التعامل معها. رئيس قطاع الأخبار مصطفى شحاتة الشاكي من قرار إقالته، قال إن «تغيير الشيفت (فترة العمل) بين العاملين في القطاع ولجوء الموظفة الأقدم إلى موقع «يوتيوب» للبحث عن الحوار حتى يتم بثه، بما أنه يتعذر التقاط تردد الأقمار الأميركية، أوقعها في الخطأ، إذ عثرت على الحوار القديم، فتم بثه اعتقاداً منها أنه الحديث. وزاد شحاتة طين بث حوار قديم على شاشات التلفزيون الرسمي بلة بتبرير استمرار البث حتى بعد اكتشاف أن الحديث عمره عام بحجة أن قطع البث كان يمكن أن يثير البلبلة. البلبلة التي ضربت الجميع بعد انكشاف أبعاد الفضيحة لم تكن صادمة بمقدار ما نكأت جراحاً كثيرة عميقة اكتفى الجميع بتجاهلها وتناسيها واعتبارها واقعاً لا يمكن تغييره. فمبنى «ماسبيرو» المثقلة كواهله بما يزيد على 43 ألف موظف يجيئون ويروحون يومياً، حيث يصطفون بالمئات لركوب المصاعد، وينتشرون في المكاتب، ويمضون سويعات وهم مكتظون حول المكاتب، ثم يعيدون الاصطفاف أمام المصاعد، ويغلقون شارع الكورنيش سويعات أخرى لتتبضع الموظفات خضراً وفواكه، والموظفون ملابس وأدوات منزلية، قبل أن يعودوا إلى بيوتهم، لم يعد قادراً على التأوه. فقد تواترت الآلام وانتشر المرض العضال حتى باتت عصية على الكلام. كلام كثير أثير، وتشخيصات وصفت، وخُطط لا أول لها أو آخر سردت، ووعود حصرية بإعادة الهيكلة أو معاودة السيطرة من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تاريخ البلاد التلفزيوني والإذاعي ومستقبلها الإعلامي. ولكن كلها تبخر في هواء نحو ست سنوات من الثورة والفورة وركوب أمواجها ووضع ماسبيرو وغيره من الأمراض المزمنة على ناصية الانتظار. انتظار عودة «ماسبيرو» إلى الحياة، أو معاودته القدرة على المنافسة، أو إثبات وجوده في عالم يتغير على مدار الدقيقة رابع المستحيلات. فبعدما ترك «ماسبيرو» نفسه ليكون ريشة واهنة في مهب رياح الأنظمة السياسية، وكرة ثلج متضخمة تنمو وتتضخم بتراكم المشكلات، وإسفنجة مترهلة تمتص موبقات المجتمع من تعيينات الأبناء والأقارب والجيران، واختيار مفتقدي الموهبة على حساب من يملكونها، أصبح المبنى قوة طاردة لأبنائه المتميزين والموهوبين الذين تلقفتهم القنوات الخاصة والعربية والإقليمية والدولية. وعلى مدار عقود تُرك «ماسبيرو» يواجه مصيراً مجهولاً وهو لا يملك سوى جيش جرار من أصحاب الياقات البيضاء الذين تحولوا قوة عطلتها العمالة الزائدة ووأدتها البيروقراطية الخانقة ووضعتها على أجهزة التنفس الاصطناعي إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وخيراً فعلت قيادات «ماسبيرو» بإقالة رئيس قطاع الأخبار، لا لأن قرار إقالة سيعيد الحياة إلى الجسد الميت، ولا من منطلق عقاب المخطئ حتى يرتدع الآخرون، فقد باتت أوضاع «ماسبيرو» أكثر تعقيداً وسوءاً من أن تأتي الإقالات بنتائج. ولنا في حزيران (يونيو) الماضي عبرة، حين عرض التلفزيون المصري جزءاً من حوار أدلى به الرئيس مع الإعلامي أسامة كمال على اعتبار أنه الحديث الكامل. وبعدها اكتشف العاملون الخطأ، فأعادوا إذاعته كاملاً في خطأ جسيم اعتقد بعضهم أنه الأفدح. ولم تسفر التحقيقات والعقوبات الموقعة حينئذ عن تغيير. وقبلها بأسابيع فوجئ المشاهدون بتقرير سياحي عن فندق في قرية إسرائيلية وكأنه يروج للسياحة في إسرائيل. وحين اكتشفت القيادات ما حدث، صدر قرار بوقف مسؤولين عن التقرير. ومن تقرير السياحة في إسرائيل إلى تقرير إنجازات الرئيس الإخواني السابق محمد مرسي الذي أذيع بعد إطاحة المصريين حكم «الإخوان». وكان التقرير أذيع ليلاً على شاشة قناة النيل الدولية «عن طريق الخطأ». وقد نتج من ذلك إطاحة رئيسة القناة، وتحويل خمسة من المسؤولين عن بث التقرير إلى أعمال إدارية لثلاثة أشهر! ومن أشهر الإيقاف إلى قرارات الإقالة ومنها إلى حلقات متصلة من الإخفاقات التي لم تعد تتوقف عند حدود مستوى غير لائق لواجهة البلاد التلفزيونية الرسمية فقط، بل تمتد لتسفر عن فضيحة هنا أو كارثة هناك يعاقب فيها «أقدم موظف» ويحول فيها «أصغر موظف» إلى التحقيق ويخصم من راتب هذا أسبوع ويحرم ذاك من علاوة دورية ليمضي «ماسبيرو» بخطى ثابتة نحو الانتحار بكامل حمولته. حمولة «ماسبيرو» لم تعد قابلة لتلقي مسكنات تجديد أو حتى جلسات علاج بضخ دماء جديدة تشبه القنوات الخاصة أو تحفيز دماء قديمة بالعودة إلى البيت القديم. ولم تعد أساساته تتحمل مزيداً من التخريب عبر عمالة زائدة أو السكوت على أموال مهدرة أو تأجيل تدخلات جراحية لا بد منها. ويكفي أن الآراء أجمعت على أن النقطتين المشرقتين الوحيدتين في هذا المبنى حالياً هما: تاريخ المبنى العريق، وقناة «ماسبيرو زمان»، وكلتاهما ترتكز إلى ما كان في سابق العصر والأوان. شحاتة: إقالتي تعسفية وما حدث مجرد إهمال