التاريخ ليس فقط هو تلك الأحداث وكتابتها وفقاً لزمن وقوعها، وإنما هو كائن قائم بيننا بوقائعه. فعندما ننظر إلى الضوء القادم إلينا من النجوم التي تبعد آلاف السنوات الضوئية، فنحن نرى الماضي في الحاضر الذي نعيش فيه. فكم من هذه الأضواء انبعث من نجوم المجرَّات منذ آلاف السنين الضوئية، ولكننا نراه الآن بحكم متغيري الزمان والمكان بعد قطع هذه المسافة المكانية. فإذا كان الفضاء والكون من الاتساع واللاتناهي اللذين يجعلان كل هذه الظواهر تحدث فيه في شكل يجعل إدراكنا له مرتبطاً بتحكيم هذين المتغيرين، فالسؤال هو؛ ماذا عن التاريخ، أو بمعنى أوضح ماذا عن الذاكرة الإنسانية؟ هل يمكن الإنسان أن يسبح في الذاكرة من الحاضر إلى الماضي مثلما استطاع الحديث أن يبرهن على ذلك في تعامله مع الكون باتساعه اللامحدود؟ من خلال دراسة تاريخ أي تكنولوجيا خلال المئتي سنة الماضية، نستطيع معرفة المكان والزمان والشخص الذي اخترع نواتها الأولى، الهاتف مثلاً أو القطار أو السيارة. وقد يسأل آخر ويقول إن ذاكرة مئتي سنة لرصد تاريخ نشأة اختراع ما لا تكون قراءة للتاريخ من خلال الحاضر. ولكننا لو أردنا التوسع وبدأنا بما هو موجود في الذاكرة الحضارية الإنسانية عن الموسيقى مقارنة بالحاضر الذي توجد فيه هذه التنويعات التي تتطوَّر إلى أشكال مختلفة سواء في المضمون أو الآلة، وبحثنا في نواة ظهور الموسيقى، فقد نذهب إلى الكهوف وإلى حياة الإنسان الأولى، ثم ننتقل إلى الحضارات القديمة ونقترب من الأدوات التي كانت تُستخدَم في إنتاج الموسيقى. قد نجد ما يشبه الحاضر، مثل المزمار في الحضارة الفرعونية. وبحكم عامل التراكم والتطور، سنجد أنه إذا كان جوهر الموسيقى ومضمونها بدآ منذ القدم، فإن تطور الأدوات والمضمون ارتقى بالذوق الإنساني ووسَّع من وجدانه وقدرته الإبداعية بقدرته على أن يأتي بكل جديد من النغمات والأفكار الموسيقية. وبالتالي، فإن التطور لم يمنع وجود الخصوصية الموسيقية في كل حضارة من الحضارات الإنسانية القديمة وحتى في المجتمعات الحديثة. فمثلاً؛ لموسيقى دول شمال المغرب العربي، طابع خاص يعكس تاريخ وثقافة هذا المجتمع الذي هو خليط من القبائل العربية والأمازيغية دخلته الثقافة الفرنسية، ما ترك أثره في شكل النغمات، ليكون المنتج في النهاية موسيقى مميزة تحكي تاريخ هذا المجتمع. بالمثل؛ الموسيقى السودانية بأنغامها وطابعها المميز تحكي تاريخ وثقافة المجتمع السوداني على مر العصور. وبالنهج نفسه، يمكن تتبع جذور الموسيقى في المجتمعات الآسيوية أو في أميركا اللاتينية. وإذا أخذنا إحدى لغات حضارة قديمة مثل اليونانية أو الآشورية أو الفرعونية، نجد أن لها آثارها التي ما زالت موجودة في اللهجات الحديثة. ودراسة اللغة الحديثة أيضاً بمفرداتها تجعلنا نسافر آلاف السنين إلى الوراء، فكم تحمل اللهجة المصرية العامية من الكلمات التي ترجع إلى زمن الفرعونية أو زمن دخول القبائل العربية إلى مصر. فاللهجة وتحويراتها هي بمثابة ذاكرة تاريخية أيضاً لهذا الإنسان الذي تفاعل واندمج معها. وبهذه المنهجية تمكن قراءة التاريخ من خلال الحاضر، وما نحتاجه هو القدرة على الدراسة والتتبع لكيف وصلت إلينا الأشياء في شكلها الحالي، وما هي الرحلة التي قطعتها عبر آلاف السنين، وكيف تحوَّرت ونضجت إلى أن وصلت إلينا؟ وهكذا نجد أن المعرفة وما تضيفه كل يوم، ما هي إلا ذاكرة تعيننا على قراءة أفكار القدماء، فنستطيع السفر إلى الماضي باطلاعنا وهضمنا لأفكار أرسطو، وغيره من فلاسفة العصور القديمة، مروراً بفلاسفة العصور الإسلامية الذين كانوا حلقة وصل بين القديم والحديث خصوصاً في النظريات المعرفية التي درست النسبية، والعلاقة بين الزمان والمكان، والفلك، ما كسر ما هو معتاد من النظر إلى الماضي والحاضر والمستقبل، وجعلنا نعيد؛ انطلاقاً من الحاضر؛ قراءة الكثير من المسلَّمات التاريخية.