لم يبق كثيرون من معارضي رجب طيب أردوغان خارج السجن، فالانقلاب الذي فشل أتاح للرئيس التركي إصابة جميع خصومه بضربة واحدة أعقبت ليلة الانقلاب الذي استقبله الأتراك بالرفض، بعدما طالبهم الرئيس بالنزول إلى الساحات، ففعلوا منددين بكل من ساهم فيه. لكن العرب استقبلوه بغير ذلك، فكان دفاعهم واحتفالهم ببقاء رجب طيب أردوغان بدل أن يحتفلوا ببقاء تركيا الديموقراطية والدولة الوازنة في الإقليم والحيلولة دون وصولها إلى الفوضى وحكم العسكر. عملياً كان أردوغان الرابح الأكبر من الانقلاب، بعد تغييرات جوهرية في المواقف التركية في الملفات الإقليمية والسياسة الخارجية، كانت التوقعات تطرح تحولاً داخلياً في الدولة التي بدت في الآونة الأخيرة عرضة للإرهاب والتوتر وغياب الحريات والتضييق على المعارضة السياسية وتطويقها، لا بل غلق جلّ وسائل الإعلام المعارضة للرئيس التركي، لتحقيق الانفراد بالسلطة. في الاحتفال التركي بالفشل توحد العلماني مع الإسلامي والكردي مع التركي وكل مكونات الدولة، من أحزاب سياسية دانت الانقلاب ورفضته باعتبار أنه يمس الجمهورية وقيمها، لكنه توحد أمام لحظة الصدمة، لتصحو تركيا بعد أيام على عودتها إلى زمن الاستبداد «الحميدي». لكن لماذا استقبل الأتراك الانقلاب بشكل مختلف عن ثورات العرب على جمهورياتهم في السنوات الأخيرة، واستقبله العرب بذاتية شديدة اختصرت تركيا برجل واحد هو رجب طيب أردوغان؟ لماذا ثار الغضب على كل من انتقد أردوغان واتُّهم بالكفر والعلمانية؟ لماذا تغيرت كل الصور الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي ليحل محلها الرئيس الرمز؟ لماذا بحث العرب عن رمز لهم من خارج المجال العربي؟ أردوغان الذي نسي العرب أنه ضمنياً كان الحليف الأهم للولايات المتحدة، وهو المطبِّع لعلاقاته مع إسرائيل قبل فترة وجيزة، أسعفه الانقلاب ليعود من بوابته إلى الوجدان العربي بكل ودّ وحنين، فيما العرب يعيشون أزمات ثوراتهم التي لم تنته، وينسون ثوار تركيا عام 2013 ضد الفساد والمحسوبية. وفيما يتصرف الأتراك وفق مصالحهم وليس عواطفهم، فإن أخطر ما في اللحظة التالية للانقلاب هو تهديد قيم الجمهورية والديموقراطية، في حين نحن العرب رأينا في الانقلاب شخص أردوغان كما رأينا بشار الأسد وعلي عبد الله صالح ومعمر القذافي وصدام حسين، فبقي التعلق بالشخص الزعيم سيد الموقف. الخبرة العربية في الانقلابات متوافرة، ووعودها التقدمية والإسلاموية انتهت بدولها إلى الفساد والاستبداد والتفكك، فيما الخبرة التركية انتهت بالدولة إلى التفرد وصدع الإسلام التركي بين إسلامين: إسلام سياسي يحكم، وإسلام اجتماعي يتعقبه أردوغان بحجة تقويض الدولة. الجهمور العربي ظلّ عند الدفاع عن رموز السيادة العليا للدولة واختصرها برجل واحد، والجمهور التركي جيّر إبداعه للشبكات والقدرة على تعقب أنصار الداعية فتح الله غولن... هنا نجد أن العرب قرأوا الانقلاب وفق ثقافة الاستبداد والمطالبة بالقصاص، والأترك قرأوا المشهد وفق تجربتهم التاريخية. لقد كان الانقلاب الأول في المنطقة وفي الذاكرة العربية تركي الوصفة، وشارك فيه العرب العام 1908 على السلطان عبدالحميد، وسبقه انقلاب إيران، أو ما سمي بالثورة الدستورية العام 1905، لكنه من دون مشاركة عربية. واليوم وبعد قرن وقرابة العقد من الزمان، نجد العرب بين مشهدي انتظار، فجهمور يؤيد ملالي إيران ويحج إليها، وقسم متعلق بنموذج تركيا، والنموذجان لا يخلوان من استبداد، بل في إيران قمة الاستبداد، لكن على تركيا أن تخرج من هذا الانقلاب أكثر رحابة وأن لا تختنق، لأن ما جرى من ممارسات بعد الانقلاب يؤكد الذهاب بسلطات مطلقة في يد أردوغان، وبالتالي التراجع عن خيار الديموقراطية ونهجها في احترام التعددية والحريات. في الشرق ودوله الاستبدادية، أصعب ما يكون توفير العدالة، نمط شرقي يقوم على إزالة الخصوم، وكل مقولات العدالة الانتقالية فشلت في الدول العربية التي أصابها «الربيع»، وفي التقليد العثماني ثمة رسوخ للدموية، إذ يقتل السلطان خصومه منذ أول ليلة لتبوّئه عرش السلطنة ويضع إخوته في إقامة جبرية. وفي المجال التركي، تتحول تركيا بديموقراطيتها المغطاة بحزب ديني إلى نمط الديموقراطية الدينية التي لا تتفق والديموقراطية الليبرالية، وفي المنطقة ديموقراطية ثيوقراطية في إيران عنوانها الاستبداد، وهناك ديموقراطية إسرائيل وهي أفضل الشركاء لتركيا أمنياً واقتصادياً. يبقى الحديث عن الجيش التركي الذي بات مهاناً، والقضاء الذي أصبح على مقاس يد الرئيس، وهذا معناه الإخلال بمركز العدالة والقوة المتكافئة لحل أي خصومة أو أي محاكمة عادلة للمتهمين بالانقلاب. * كاتب أردني