في التاسعة والسبعين من عمره لا يزال محمد بن عيسى في مقتبل الشباب، فكراً وروحاً وحماسة. تراه يجوب ساحات أصيلة في النهار أو ليلاً فتتخيل ذاك الفتى الذي ولد هنا في هذه المدينة البحرية والذي نشأ بين حاراتها وساحاتها جاعلاً منها ملعباً له ولأحلامه البعيدة. لم تثن هذه الأعوام من عزيمة النائب والوزير والمثقف الكبير صاحب الخبرات الكثيرة، فهو مثابر على تجديد حلمه الذي تمكن من تحقيقه، بعد طول كفاح ونضال. ولم يكفه أن يحقق هذا الحلم في جعل مدينة طفولته الفقيرة وشبه المنسية، مدينة نموذجية، فنية وثقافية، مفتوحة على رياح الحداثة، بل شاء أن يكون أشبه بحارس لها، ليس بصفته رئيساً لبلديتها فقط، وإنما في كونه حامي الأمانة والساهر على الحلم الذي أضحى حقيقة. لم التق من قبل محمد بن عيسى ولم أعرف عنه سوى ما شاع وبات معروفاً. لكنّ من يتعرف إليه عن قرب يدرك مقداراً من سر هذا الرجل، ومن سر شخصيته الفريدة، الجامعة بين الثقافة والمراس الثقافي، بين الرقي والتواضع الجم، بين النباهة والحذاقة. لم يشأ أن يظل موقعه مقصوراً على المحافل العالية، سياسياً وديبلوماسياً وفكرياً، بل قرر أن يكون على مقربة من المواطنة، مانحاً إياها بعداً ثقافياً حياً وأليفاً. وكان عليه أن ينطلق من مدينته الأولى والأخيرة، أصيلة، الشديدة الأصالة، والمنفتحة على رياح الأطلسي والثقافات البعيدة والقريبة. لم تكن من مسافة بين منابر الأممالمتحدة والمنظمات الأفريقية والديبلوماسية الخارجية وبين ساحات أصيلة وزواياها. كان ابن عيسى يحيا بين هذين العالمين أو الميدانين: عقله هناك وقلبه هنا، في أصيلة، مسقط رأسه وأحلامه. وبعد حياة ملؤها الترحال والسفر وصعود أرقى المنابر الدولية حط السندباد المثقف في مدينته، لا ليخلد إلى استراحة بل ليواصل السهر على مشروعه الفريد: أصيلة، المدينة والملتقى والحلم... ارتبط اسم محمد بن عيسى بمدينة أصيلة ارتباطاً وجودياً: تقول أصيلة وكأنك تقول محمد بن عيسى. لكن هذا الرجل النادر الخامة لم يستأثر بهذه المدينة ومشروعها، فهما مدينة – ومشروع- كل مثقف وفنان وشاعر من المغرب والعالم العربي والعالم. وعلى رغم تبوؤه «سدة» العمل في ما يعني من تخطيط وتنفيذ، يؤثر ابن عيسى أن يمكث في الظل. لم يرفع صورة له، حتى في مكتبه، ولم ينشر صوره في كتب أصيلة إلا مع الضيوف والزائرين دلالة على رفقته إياهم وترحابه بهم ومشاركتهم فكرياً وإبداعياً. شخص متواضع تواضع الكبار، مثقف مع المثقفين وفنان مع الفنانين وأديب مع الأدباء ومواطن مع المواطنين، يعيش بينهم وكأنه واحد منهم. كنا في جولة مشياً في أحياء أصيلة فشاهد ابن عيسى شاباً عاري الصدر لا يرتدي قميصاً يدخل ممر قصر الثقافة، فأشار له بيده ففهم الشاب وانسحب مبتسماً في ما يشبه الاعتذار. ليس ابن عيسى متزمتاً بتاتاً بل يؤثر اللياقة الثقافية. فشاطئ أصيلة القريب جداً يحفل بعشرات السابحين والسابحات. منذ العام 1978، عام انطلاق ملتقى أصيلة، فتح محمد بن عيسى أبواب المدينة أمام نخب عربية وعالمية ونظم لقاءات وندوات وأقام محترفات. ولا تحصى فعلاً الأسماء الكبيرة التي زارت أصيلة وكذلك الندوات التي أقيمت وكانت محطات لقراءة المرحلة في أبعادها كافة، سياسياً وثقافياً واجتماعياً، مغربياً وعربياً وأفريقياً ودولياً. واللافت أن ابن عيسى يشارك في معظم الندوات واللقاءات ويشارك فيها بمداخلاته العميقة. ونظراً إلى احترامه الإبداع الأدبي والفكري أنشأ ابن علي حدائق تزين أرجاء أصيلة حاملة أسماء مبدعين كبار من أمثال: محمود درويش، الطيب صالح، محمد عابد الجابري، الشاعر الكونغولي تشيكايا أوتامسي. محمد ابن عيسى شخصية نادرة حقاً في الحياة الثقافية العربية وما أحوجنا فعلاً إلى شخصيات بفرادته ووعيه وتواضعه، تواضع المثقف والعارف، تواضع مواطن لم يتجاهل يوماً روح المواطنة الحقة.