استراحت الموسيقى لبرهة بينما الكؤوس تتعانق في الملهى الليلي الأشهر في الساحل الشمالي. وكانت الراقصة الجميلة انتهت للتو من وصلة هز لأردافها تمايل معها الساهرون. «والله ولعبت يا زهر» هي بلا شك أغنية الموسم الأكثر إلهاباً للمشاعر هنا! صعد منظم الحفل إلى المسرح ليقول لجمهوره من المصيفين إن الليلة (منتصف ليل الجمعة) ليلة استثنائية بالفعل... ظهرت بالتزامن مع خطبته المرتجلة على الشاشة العملاقة خلفه صورة لرجب طيب أردوغان وقد ركبت له بطريقة الفوتوشوب أذنان طويلتان. «ما يحدث الليلة في تركيا يستوجب الاحتفال»... قالها الشاب الأربعيني بنبرة السياسي العارف ببواطن الأمور. فجاء صوته رناناً ملأته النشوة والحماسة... تعالت صيحات الفرح في المدرجات واصطكت الكؤوس... عادت الموسيقى لجنونها وعبقت في المكان روائح انتصارات وهمية. في تلك الليلة كانت مصر تتابع أنباء محاولة الانقلاب كما تتابع مباريات كرة القدم. لا جماهير محايدة في الملاعب أو أمام شاشات التلفزيون. بدا وكأن أبناء النيل يعيشون واقعاً خاصاً موازياً لآخر عاشوه قبل ثلاثة أعوام حين أزاح الجيش المصري عن صدورهم كابوس حقبة «الإخوان المسلمين» في الحكم. فاسترجعوا في الليلة التركية الدراماتيكية ذكرى ثورة 30 يونيو وعمدوا إلى جمع الأدلة التي تدين أردوغان بتهمة الشر في بلاده بعد أن أضمر الشر لبلادهم فعادى انتفاضتهم وسماها مراراً وتكراراً بالانقلاب. الدفء الذي غلف العلاقات المصرية - التركية في سنة حكم محمد مرسي كان قد تحول مع وصول الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى الحكم إلى حائط جليدي بين بلدين يمتد تاريخ علاقاتهما لمئات السنين. على مدى الأيام التالية لمحاولة الانقلاب شغلت تركيا المصريين حتى قال أحد الظرفاء على «فايسبوك»، «الرجاء من الإخوة المصريين من أصل تركي... إتاحة الفرصة للإخوان الأتراك من اصل تركي لتفسير ما يحدث في تركيا..!!!». بينما سرت وسط من خابت آمالهم نتيجة عدم تحقق ما جاء في عناوين بعض الصحف المصرية خطأ صباح السبت عن نجاح الجيش في الإطاحة بأردوغان موجة من التحليلات الجازمة بأن المحاولة الانقلابية خطة دبرها الأخير للتخلص من أعدائه فكتب أحدهم متهكماً «يعني المسلسل التركي يبقي 40 حلقة ... والانقلاب 4 ساعات؟!». علا الضجيج في كل مكان... في حلقات النقاش الخاصة وفي وسائل الإعلام وعلى منصات التواصل ووشى اختزال شريحة كبيرة من المصريين للمسألة التركية بالرغبة في تشفٍ شخصي من أردوغان بمدى تحول الشأن السياسي هنا من الفضاء العام الى الخاص. فالخطاب السياسي المصري الرسمي وسط عواصف الأمن والسياسة والاقتصاد بات متكئاً بدرجة كبيرة على استحضار قيم المجد والفخر والعزة والكرامة... مغلفاً تعامله مع أزمات الواقع الطاحنة بشعارات وطنية تنعكس لمعاناً في أعين جمهور كبير من المصريين لحظة الحديث بحنان عن مصر وعن حتمية التضحية في سبيلها. ومن هنا جاء العداء مطلقاً في أذهان شريحة واسعة من المصريين لأردوغان الذي عادى الرئيس السيسي مخلص البلاد من جماعة «الإخوان المسلمين» التي هددت فترة حكمها بإهدار الوطن كقيمة عليا. بدت مقاربة القاهرة في الآونة الأخيرة لعدد من ملفات السياسة الخارجية منطلقة من مبدأ استحالة مصادقة من جرحها أو أساء لكرامتها أو تحالف مع من أضمر السوء لها... وهي جملة مبادئ تصلح في الفضاء الخاص وتتضاءل أهميتها في الفضاء العام حيث المصالح تحرك الدول في مساحات رمادية كبيرة تتناصب فيها العداء حيناً لتعود وتتصافح في أحيان كثيرة. بعض دوائر النخب المصرية فصلت بين رفضها لنهج أردوغان وبين معارضتها الإطاحة بالحياة المدنية وتسليم الدولة للجيش. «الآن، صار لدينا وفي بلد محوري في الشرق الأوسط دليل واقعي على تمسك مجتمع المواطنات والمواطنين بالديموقراطية على رغم نواقصها، وعلى امتناع النخب العلمانية عن التخلي عن الديموقراطية وامتناعها عن الاستسلام للسحر المخادع للانقلابات العسكرية»، كتب أستاذ العلوم السياسية الدكتور عمرو حمزاوي في مقالة نشرها على صفحته في «فايسبوك». في هذه الأثناء يتشدد الحكم في مصر أكثر من أي وقت مضى في المطالبة بالولاء المطلق لمن حمل على عاتقه مسؤوليات تحقيق الأمن في محيط جغرافي منفلت وأقبل على الاستثمار لإنشاء البنى التحتية والمشاريع «القومية» في زمن هروب الأموال الخاصة وتولى كل صباح تأمين اللقمة المدعومة لملايين الفقراء. ويبدو النظام الذي أبعد عن مصر كأس الانهيارات المرة التي تعيشها المنطقة اليوم من دون أن يقدم بالضرورة مشروعاً واضحاً لمستقبله ومستقبلها أقل قدرة على احتمال الجدل في المسائل السياسية، فاقداً شهية النقاش في سبل إدارة الأزمات الاقتصادية ومواجهة مزايدة الإسلاميين بالمزيد من الالتزام الديني. وهكذا يصبح الشك سيد الموقف... شك الدولة في المتربصين بأمن الوطن وشك المجتمع المدني في تحقق الدولة المدنية وشك دوائر الأعمال في حقيقة وجود خطة إنقاذ اقتصادي. بعد تلك الليلة التركية الطويلة نصح أحدهم مواطنيه في معرض التعليق على مشادة «فايسبوكية» بالكف عن الشجار معتبراً أن فشل الانقلاب يمنح المصريين فرصة المقارنة عن قرب بين سيناريوين. «لننتظر ونرَ ما سيحدث في تركيا ونقرر في ضوء ذلك من الذي كان على صواب ومن كان المخطئ.......ولنوزع عندها اتهامات الغباء والخيانة».