الفرصة مهيأة لهطول أمطار على جازان وعسير والباحة ومكة    البليهي: تفكيرنا الآن في مباراة الوحدة.. وننتظر الجماهير غدًا    يايلسه: يجب أن يعلم الجميع أين كنا الموسم الماضي    واتساب يختبر ميزة لإنشاء صور ب"AI"    اللجنة الوزارية تنقل أزمة غزة إلى باريس    "SANS" تدير الحركة الجوية بمطار البحر الأحمر    المملكة تستهدف تحلية 16.2 مليون م3 من المياه يوميًا    جيسوس: مالكوم ظلم بعدم استدعائه لمنتخب البرازيل    اتفاقية ب25 مليون دولار لتصدير المنتجات لمصر    توجيهات عليا بمحاسبة كل مسؤول عن حادثة التسمم    دار طنطورة.. التراث والحداثة بفندق واحد في العلا    "العلا" تكشف عن برنامجها الصيفي    المخرجة السعودية شهد أمين تنتهي من فيلم "هجرة"    تحذيرات علمية من مكملات زيت السمك    تراجع أسعار الذهب في تعاملات اليوم    معالي أمين منطقة عسير يزور معرض صنع في عسير    خريجو «خالد العسكرية»: جاهزون للتضحية بأرواحنا دفاعاً عن الوطن    ارتفعت 31.5 % في الربع الأول    أمسك.. حرامية المساجد!    متى القلق من آلام البطن عند الطفل ؟    قد لا تصدق.. هذا ما تفعله 6 دقائق من التمارين يومياً لعقلك !    5 أطعمة تعيق خسارة الوزن    الاتفاق يتغلب على الشباب بهدف في دوري روشن    «رحلة الحج» قصص وحكايات.. «عكاظ» ترصد: كيف حقق هؤلاء «حلم العمر»؟    السلاحف البحرية معرضة للانقراض    الفتح يتغلب على الحزم بهدفين في دوري روشن    الاتحاد يتغلب على ضمك برباعية في دوري روشن    مصدر هلالي ل "الرياض": إصابة مالكوم غير مقلقة    لندن: تقديم رجل مسن للمحاكمة بتهمة مساعدة روسيا    هزة أرضية بقوة 3.9 درجات تضرب نيو ساوث ويلز الأسترالية    توقف الخدمات الصحية في أكبر مستشفيات جنوب غزة    مواجهة الهلال والوحدة بين الطائف والرياض    «الحونشي»    «الثقافة» و«التعليم» تحتفيان بالإدارات التعليمية بمختلف المناطق    سفارة المملكة في إيرلندا تحتفي بتخرج الطلبة المبتعثين لعام 2024    الاستثمار الثقافي والأندية الأدبية    حظي عجاجه والحبايب (قراطيس) !    الدكتوراه لفيصل آل مثاعي    القمر يقترن ب «قلب العقرب» العملاق في سماء رفحاء    هل بقيت جدوى لشركات العلاقات العامة؟    نمو الجولات السياحية ودعم الاقتصاد الوطني    تنوع أحيائي    ثانوية السروات تحتفي بتخريج الدفعة الأولى من نظام المسارات    نزاهة: حادثة التسمم الغذائي بأحد مطاعم الرياض لن تمضي دون محاسبة    فيصل بن خالد يرأس اجتماع الجهات الأمنية والخدمية المشاركة في منفذ جديدة عرعر    فرع وزارة الشؤون الإسلامية بالمنطقة الشرقية يكرم موظف سوداني    فيلم "نورة"يعرض رسميا في مهرجان كان السينمائي 2024    مستشفى أبها للولادة والأطفال يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للربو"    القبض على وافد بتأشيرة زيارة لترويجه حملات حج وهمية ومضللة    دفعة جديدة من العسكريين إلى ميادين الشرف    أمير حائل يشكر جامعة الأمير محمد بن فهد    رفع كسوة الكعبة المشرَّفة للحفاظ على نظافتها وسلامتها.. وفق خطة موسم الحج    تمكين المرأة.. وهِمة طويق    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 142 مجندة من الدورة التأهيلية    الخريجي يقدم العزاء بمقر سفارة إيران    الاستعداد النفسي أولى الخطوات.. روحانية رحلة الحج تبعد هموم الحياة    توريد 300 طن زمزم يومياً للمسجد النبوي    دشن هوية «سلامة» المطورة وخدمات إلكترونية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يتفقد سير العمل في الدفاع المدني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بناء اقتصاد عراقي حي وعاصمة جديدة شمال بغداد (2 من 2)
نشر في الحياة يوم 21 - 07 - 2010

أصاب الدمار اقتصاد العراق بفعل الحرب والفساد وسوء الإدارة والاحتلال الأميركي. فعلى رغم ضخ بلايين الدولارات في البلاد منذ عام 2003 ظل الاقتصاد مخرباً من دون تحسّن يذكر في الظروف الاجتماعية - الاقتصادية وفي مستويات المعيشة. إن تغيير هذا الوضع إلى الأحسن سيكون مهمة ضخمة جداً، حتى ان تم إصلاح النظام السياسي وتولّى الحكم زعماء جدد. بيد أن مثل هذا التغيير الجوهري في المسيرة ليس مستحيلاً. ويبيّن التاريخ الحديث أن من الممكن للأقطار، في ظل الظروف المناسبة، أن تتغلب على العقبات الكبيرة وأن تحقق معدلات نمو جيدة ومستوى مرتفعاً من التطور الاقتصادي خلال فترة زمنية معقولة. فكل من إرلندة وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان حققت تطوراً اقتصادياً مدهشاً خلال العقود القليلة الماضية. وقد اتّبع كل قطر من هذه الأقطار مساراً خاصاً به لبلوغ التطور، وسيكون من الصعب على العراق أن يكرر بالضبط التجربة التاريخية التي مرّ بها كلٌّ من هذه البلدان. ولكن من الممكن أن نذكر عوامل مشتركة وراء قصص النجاح هذه، ومنها بيئة اقتصادية مستقرة ومناخ مناسب للقيام بالأعمال تكون له قواعده المعروفة وينطوي على دعم وحوافز للقطاع الخاص، وآليات مناسبة للحكم. فلو أن مثل هذا وجد في العراق إذاً لأصبح هو أيضاً من قصص النجاح الاقتصادية.
من العوامل التي أدت دوراً كبيراً في تحقيق النجاح الباهر في سنغافورة وتايوان وإرلندة وكوريا الجنوبية نذكر مثلاً وضوح الرؤية، والإخلاص في العمل ومهارة الزعماء الوطنيين. وقد استخدم هؤلاء الزعماء استراتيجيات معروفة كالتخطيط بعيد المدى، ومقاومة الضغوط من الجماعات القوية ذات المصالح الضيقة، وبذلك تمكنوا من تنفيذ خطط اقتصادية واسعة النطاق تعود بالنفع على قطاعات اقتصادية واسعة.
ويُعدّ ترشيق الحكومة من الشروط المهمة المسبقة لخلق اقتصاد يتمتع بالحيوية. وسيشمل ذلك تقليص الجهاز الإداري وخصخصة معظم المشاريع الاقتصادية التي تملكها الدولة. وقد كانت الحكومة العراقية في ظل الدكتاتورية حكومة منتفخة في شكل مزمن، ولم يتحسن هذا الوضع في ظل الاحتلال. على أن الحكومة ينبغي أن تكون بالحجم الملائم، وأن تتمتع بالكفاءة والفعالية على نحوٍ يمكنها من القيام بوظائفها، وألا تكون أداة لرعاية المحسوبين والمنسوبين ولمكافأة القائمين على السلطة. وما إن يتم وجود البنية التحتية المالية المناسبة حتى يكون من اللازم خصخصة الموجودات الاقتصادية المملوكة من الحكومة. إن هذا التحول في القوة المالية من القطاع العام إلى القطاع الخاص من شأنه أن يقلل مجال الفساد ويعزز العملية الديموقراطية.
سأقوم الآن بإضافة خمسة مبادئ أساسية أخرى ذات صِلة مباشرة بأية رؤية من الرؤى لاقتصاد عراقي جديد، وهي: أولاً، الانفتاح والشفافية في المؤسسات العراقية، ويضمن ذلك إجراءات تهدف إلى مكافحة الفساد؛ ثانياً، إيجاد حوافز قوية لتطوير القطاع الخاص؛ ثالثاً، الاندغام الاقتصادي والمالي الوثيق في المجتمع الدولي، مع شعور الحكومة بالمسؤولية المالية؛ رابعاً، تطبيق المستويات العالمية وأفضل الممارسات العملية بهدف تقليل الروتين وزيادة الكفاءة؛ خامساً، شبكة أمان اجتماعي تلبي حاجات الناس جميعاً مع التشديد على ضرورة فتح الآفاق الممكنة كلها لمشاركة المرأة في النشاط الاجتماعي والاقتصادي.
إن على زعماء العراق في المستقبل استخدام هذه الاستراتيجيات وغيرها، ولكن الازدهار في المدى البعيد سيعتمد على تحقيق تنوع اقتصادي في شكل صحيح. ومع أن العراق سيعتمد على إيراد النفط للحفاظ على اقتصاده الاستهلاكي في المدى القصير فإن من الضروري تطبيق الإجراءات اللازمة لتنويع القاعدة الاقتصادية في البلاد وعدم الاقتصار على النفط فقط. ومن الممكن القيام بذلك باستخدام العائدات الناجمة عن الصناعة النفطية لبناء بنية تحتية قادرة على دعم اقتصاد حقيقي واسع النطاق، وبتشجيع المستثمرين في شكل خاص على تطوير الخدمات المالية وغيرها. ولضمان تحقيق الازدهار على المدى الطويل يجب استخدام إيرادات النفط للاستثمار في الزراعة والسياحة والقطاع الصناعي. إن هذه الاستراتيجية الشاملة الخاصة بالتنويع ستكون من أهم المهمات أمام «مجلس الإعمار الاقتصادي العراقي» الجديد. وفي ما يلي مناقشة مفصلة للقطاعات غير النفطية في الاقتصاد العراقي.
البناء على موروث قديم: السياحة
إن العراق هو أرض الديانات والأساطير والغرام، أرض إبراهيم الخليل والإمام علي والجنائن المعلقة في بابل وحكايات ألف ليلة وليلة. إنه يحفل بالمواقع الدينية والتاريخية والآثارية الجديرة بصناعة سياحية مزدهرة. غير أن الوضع الأمني في البلاد يجعل ذلك بحكم المستحيل في المدى القصير. أما على المدى الطويل فإن السياحة ستصبح جزءاً مهماً من الاقتصاد العراقي في المستقبل.
هناك العديد من الأسباب التي تدعو إلى التفاؤل. فالدول المجاورة للعراق تجتذب أعداداً كبيرة من الزائرين، والشرق الأوسط هو أسرع المناطق نمواً في العالم خلال السنوات الأخيرة. وقد قدّرت منظمة السياحة العالمية نسبة النمو فيه بستة عشر في المئة سنوياً بالمقارنة بأربعة في المئة فقط في العالم. ففي عام 2005 بلغ دخل السياحة في الشرق الأوسط مقدار 34.2 بليون دولار، أي أنه تضاعف ثلاث مرات في عشر سنوات فقط. وبلغ هذا الدخل في تركيا 18.5 بليون دولار وفي مصر 9.5 بليون دولار، ولكن الخطط الطموحة جداً هي التي تجرى في دُبي. فمن المتوقع في عام 2012 أن تستقبل هذه المدينة الباهرة في الخليج خمسة عشر مليون زائر أجنبي أي أكثر من ضعف العدد البالغ 6.2 مليون الذي سُجّل في عام 2005. إن الأموال التي ينفقها هؤلاء السائحون هي بمثابة استثمار أجنبي لا يسترد، كما أن كل زائر من الزوار الذين جرت تلبية رغباتهم سيكون صديقاً للبلد وسفيراً للقطر.
إن التاريخ العنيف للعراق في الفترة الأخيرة لا يدعو إلى تثبيط المستثمرين عن تطوير قطاع السياحة في البلاد. فهناك قطاعات سياحية تنبض بالحياة قد تطورت سريعاً في عدد من الأقطار التي مزقتها الحروب، مثل فييتنام وكامبوديا. وقد أثار تاريخ الحروب الحديث اهتمام الزائرين كثيراً. وهذه فييتنام قد خصصت موارد كبيرة لتشجيع السياحة فيها وتطويرها، حتى أنها شهدت نمواً في هذا القطاع يقدر بنسبة عشرين في المئة في عام 2006، فبلغ دخلها من الزائرين الأجانب بليونين ونصف البليون دولار.
الخدمات المالية
إن القنوات المالية لإعادة البناء في العراق تمر بالمصارف الخاصة والمصارف المملوكة من قبل الدولة، لذلك فمن المهم إصلاح النظام المصرفي الحالي إصلاحاً شاملاً لجعل هذه المصارف أكثر كفاءةً وفق القواعد العصرية. ووفقاً لدراسة أجريت عن القطاع المصرفي اتضح أن بنك الرافدين وبنك الرشيد، وهما من أكبر البنوك المملوكة من الدولة، يملكان أكثر من (85) في المئة من مجموع الأصول المصرفية، وأن رأسمالهما دون المستوى اللازم وأن حقيبة الديون لديهما كبيرة جداً. وتتفاقم هذه المشاكل من جرّاء عدم وجود نظام سليم لتدقيق الحسابات. ولدى هذين المصرفين (360) فرعاً منتشرة في أرجاء البلاد، ويعمل كل فرع من هذه الفروع في شكل مستقل، الأمر الذي يعرقل برنامج الإصلاح في المستقبل. ومن النتائج التي توصلت إليها تلك الدراسة أن البنوك المملوكة من الدولة تعوزها إدارة مركزية، كما أنها في حاجة إلى نظام متكامل لتسوية الديون.
التطلُّع إلى النموّ: التقانة
كي يصبح العراق دولة متقدمة حقاً فإن عليه الانتفاع من عصر المعلومات. فالتقانة والإبداع هما من العوامل الأساسية لنمو الإنتاجية في الاقتصادات المتطورة. ولا يتأتى ذلك إلا بالحصول على المعرفة الهندسية والعلمية وباستخدام الطرق الإدارية المثلى. وما جرى في Silicon Valley وBangalore وHsinchu هو من الأمثلة على نشوء اقتصادات عظمى اعتماداً على التقانة العصرية. ومن شأن تأسيس مجلس للتقانة والتعليم في العراق أن يساعد في هذا المجال. وبوسع هذا المجلس أن يشرف على تطور الاستثمار في البلاد لاجتذاب الأفكار الناجعة.
إن Silicon Valley قد قام على هذا الأساس انطلاقاً من Stanford Research Park الذي أسسه أستاذ الهندسة الكهربائية فريد تيرمان Fred Terman. كان تيرمان في بداية عهده قد سعى إلى تشجيع أفضل طلابه على البقاء في كاليفورنيا، ولاسيّما منهم أولئك العاملون في حقل الهندسة الإذاعية الجديد. كانت خطوته الأولى هي جمع اثنين من تلاميذه السابقين وهما وليم هيوليت William Hewlett وديفيد باكارد David Packard، اللذان أسسا في عام 1939 «شركة هيوليت وباكارد»، على أن تيرمان لم يقنع بنجاحه المبكر فقام في مطلع الخمسينات من القرن العشرين بابتداع طريقة لتسريع التطور لشركات التقانة في المنطقة. فقد ساعد على بناء عمارة صناعية صغيرة على أرض ستانفورد جرى تأجيرها إلى شركات التقانة بأجرة زهيدة. كما قام تيرمان كذلك بإجراء الترتيبات اللازمة لكي يقوم كبار مستخدمي الشركة الجديدة بالدراسة في ستانفورد. وكان من ضمن أوائل الشركات المستأجرة لمشروع تيرمان كل من شركة إيستمان كوداك وشركة جنرال ألكتريك وشركة لوكهيد وشركة هيوليت - باكارد. وفي ذلك الوقت أيضاً قام تيرمان بتشجيع وليم شوكلي، مخترع الترانزستور، كي يعود إلى بلدته دالو آلتو فأنتج هذا في عام 1956 الصمام الثنائي الرباعيّ الطبقات. وبعد سنة واحدة فقط ترك ثمانية من مهندسي شوكلي الشباب الموهوبين لكي يؤسسوا شركة «فيرغايلد لشبه الموصِّلات» التي كانت الأساس لصناعة شبه الموصِّلات، الأمر الذي يشير إلى السرعة الخارقة التي كانت تتطور فيها شركات التقانة. وفي النهاية قام مستخدمو شركة فيرغايلد بتأسيس (38) شركة جديدة أخرى منها شركة Intel. وقد لخّص تيرمان نفسه النجاح الباهر الذي حققه Standord Researeh Park بقوله: «حين بدأنا بتكوين مجموعة من العلماء الفنيين في Silicon Valley لم يكن هنا أحد، فبدا العالم كبيراً. والآن العالم كله هنا».
بعد عقد من الزمن ظهر صاحب رؤية آخر في تايوان، وهو كووه - تينغ لي Kwoh-Ting Li، وكان هو أيضاً مصمماً على أن يجعل تايوان رائدة في التقانة. إن السيد لي، وكان قد خدم في حياته العملية رئيساً للجنة التنمية الصناعية ووزيراً للشؤون الاقتصادية ووزيراً للمالية، قد بذل جهوداً كبيرة طوال عقود لكي تتطلع تايوان نحو الخارج في سعيها إلى التطور. وقد أسفرت جهوده في عام 1973 عن تأسيس «معهد البحوث والتقانة الصناعية»، وهو مركز للبحث والتطوير في ميدان الصناعة متخصص في تقانة شبه الموصّلات. كما أسفرت جهوده في عام 1980 عن تأسيس الميدان الصناعي القائم على العلم المسمّى Hsinchu Science-based Industrial Park وهو شبيه ب Stanford Research Park.
ومنذ تأسيس Hsinchu قامت حكومة تايوان باستثمار مبلغ مقداره 1.7 بليون دولار في بنيته التحتية وفي مرافقه فحققت مردوداً عالياً من ذلك الاستثمار. وفي نهاية عام 2004 كان في ذلك الموقع (384) شركة متخصصة بالتقانة العليا وهي تصدّر سنوياً ما قيمته 15.7 بليون دولار أي 8.5 في المئة من مجموع صادرات تايوان.
لقد عمل الوزير لي على أن يضمن مجيء رؤوس الأموال والمواهب إلى ميدان الاستثمار المذكور، وهو الأمر الذي يتطلبه النجاح. وقد دعا مستثمرين صينيين من أرجاء العالم للاستثمار في الشركات التايوانية، وهكذا فإن تايوان اليوم تفخر بأنها أحد المراكز المتقدمة للصناعات التي تجتذب رؤوس الأموال. وقام لي كذلك بفتح مكاتب حكومية في Silicon Valley حيث يعمل عشرات الآلاف من العمال التايوانيين. كما أن جامعة تايوان الوطنية، وهي جامعة للنخبة، قد أنشأت فيها مركزاً للموهوبين الذين هم على استعداد للعودة إلى الوطن. ولدى تايوان كل مقومات النجاح، وقد تجمعت فيها مشاريع الأعمال التي تنتظر أن تترعرع فيها المنافع من فروع المعرفة المختلفة.
وبعد عقدٍ من النمو المتفجر في تايوان برزت الهند كرائدة في دنيا التقانة. وقد اتخذت في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن العشرين خطوات مهمة لإنهاء تجربتها الطويلة والأليمة في الاكتفاء الذاتي. فقامت بإنشاء ال: (Software Technologey Parks of India STPI) وهو يمنح إعفاءات ضريبية لشركات التصدير في مناطق محددة لمدة خمس سنوات ويضمن لهذه الشركات مجال الاتصال بالأقمار الصناعية واستمرار الطاقة الكهربائية. وقد أدّت هذه السياسة وما رافقها من إجراءات لتحرير الأعمال من القيود إلى إنشاء STPI في بنغالور، وهو المشروع الذي تغبطه دول العالم الثالث. إن بنغالور هي من أجمل مدن الهند حيث المئات من المتنزّهات الخضراء المحاطة بالعمارات الحديثة، كما أنها اليوم من أهم مواقع الصناعات الخفيفة في العالم.
وبنغالور، شأنها شأن تايوان، تضم أعداداً كبيرة من المغتربين الذين عادوا ليعملوا فيها. وكان جل أفراد الخريجين من معهد التقانة الهندي الذي تدرس فيه النخبة قد هاجروا إلى الخارج في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، حتى بلغ عدد المحترفين العاملين في Silicon Valley ثلاثين ألفاً عام 1998، وكان المهندسون الهنود يديرون أكثر من (775) شركة تقانية يبلغ إجمالي عملها 3.6 بليون دولار. على أن الهند، وعلى الأخص بنغالور، بسياساتها الصائبة، قد تمكنت من إغراء الكثيرين من المغتربين بالعودة إلى البلاد. وما إن عاد هؤلاء حتى نقلوا معهم فنون الإدارة ومهارات العمل، كما نقلوا رؤوس الأموال والتقانة العصرية وشبكات العمل الدولية، وكلها من عناصر الإبداع. ثم إن بنغالور تقدم ميزة تتفوق فيها حتى على تايوان ألا وهي وفرة العمال من متكلمي الإنكليزية من ذوي الأجور المنخفضة.
ومن هذه الأمثلة الثلاثة تتضح العناصر اللازمة لنجاح مواقع التقانة والعلم. وهي أولاً، أن الحاجة تدعو إلى جامعات من الطراز الأول لتدريب الطلاب في العلوم والهندسة. ثانياً، يجب تشجيع هؤلاء الطلاب على استخدام مهاراتهم في مراكز التقانة العالمية. ثالثاً، ينبغي أن تقام مواقع العلم والتقانة بالقرب من هذه الجامعات. رابعاً، منح الشركات في هذه المواقع حوافز معينة مثل تخفيض الضرائب وطاقة كهربائية مستقرة ومجال الانتفاع من وسائل الاتصالات المتقدمة. خامساً، إن موقع مكان العلوم والتقانة ينبغي أن يتحلى بالجمال لكي يمكن اجتذاب المغتربين اللامعين للعودة إلى الوطن.
إن أمام العراق طريقاً طويلة قبل أن يصبح شبيهاً ببنغالور. ولكن إذا توافر له زعيم مثل الزعيم التايواني لي وبمثل عزيمته فإن كل شيء من الممكن أن يتحقق. إذ لم يكن أحد ليتصور في بداية القرن العشرين أن تايوان والهند وكاليفورنيا ستصبح هي مراكز التقانة في العالم. ولا أحد يعرف الآن من هو القطر أو المنطقة التي ستكون في المقدمة بعد خمسين سنة أخرى.
عاصمة جديدة: خطوة جريئة
إن العراق الجديد يحتاج إلى عاصمة جديدة، وإني أرى أن هذا من المشاريع المهمة والمفيدة التي يمكن أن يتولاها زعماء البلاد في المستقبل. كما أن بناء عاصمة زاهية سيكون رمزاً لقطع الصلة بالماضي ومجالاً لآفاق لا حدود لها لأجيال جديدة من العراقيين.
لقد ظل الشعب العراقي على مدى خمسين سنة ماضية يعاني الفقر بسبب الاقتصاد المغلق، منعزلاً عن العالم بسبب الحدود المغلقة، ويعاني الأمريّن من جرّاء المناخ الثقافي المنطوي على نفسه، ويقاسي الصدمات من نظام سياسي عنيف واستبدادي. إن الأنظمة التي حكمت العراق بعد عام 1958 قد مزقت نسيج المجتمع فيه. وهي أنظمة أخرجت المواطنين الموهوبين والطموحين من البلاد، وقهرت بقسوة أولئك الذين ظلوا فيها وهم يعانون بسبب قوانين خانقة وجهاز إداري جامد واقتصاد تأخذ بتلابيبه ثقافة المحسوبية والفساد. وليس هناك طريقة أفضل لإزالة هذا الموروث الخبيث سوى بناء عاصمة جديدة. ومن شأن ذلك أن يحرر الناس من قيود الماضي النفسانية ويساعدهم على رفع معنوياتهم. إن مرافق هذه العاصمة الحسنة التخطيط والتمويل ستعمل على إنعاش مبادئ الحيوية الثقافية والتفوق الأكاديمي والإبداع التقاني والدينامية الاقتصادية والحرية السياسية. وستكون العاصمة الجديدة مثالاً يُحتذى لمدن العراق الأخرى لا بل لمدن المنطقة والعالم. إن أبناء البلاد من ذوي الألمعية لن يهربوا كما كانت الحال في العراق القديم بل سيتقاطرون على العاصمة الجديدة للعيش والعمل في مكان يستطيعون تحقيق أحلامهم فيه.
ولكي يعلم المرء لماذا يكون من الضروري إنشاء عاصمة جديدة فما عليه إلا أن يتطلع إلى مدينة بغداد. إن عاصمة العراق الحالية مضى عليها قرون كانت فيها مركزاً عالمياً جميلاً ومزدهراً للعلوم والفلسفة والطب والفنون. ولسوء الحظ فإن الانقلابات العسكرية التي اتسمت بالاضطهاد أتاحت المجال لكي تصبح أقسام كبيرة من المدينة مزدحمة بالسكان ولا يسودها النظام وهي غير ملائمة صحياً للعيش. أما الأحياء السكنية القليلة التي كانت أحياء لطيفة، مزدهرة، وآمنة فقد تدهورت أحوالها في ظل الفوضى التي تفشت بعد الاحتلال. إن المدينة باختصار تواجه الآن الكثير من الأمور السلبية، لاسيّما بعد أن ترك ما كان يجرى فيها من قتال بعد حرب 2003 دماراً كبيراً، وأدّى كذلك إلى تنقلات سكانية وإلى تقسيم واقعي للمدينة وهي محاطة بالجدران وبأحياء يكثر فيها السلاح.
إن إنشاء عاصمة جديدة قد يكون فكرة غريبة جداً لبعض العراقيين، ولكن هناك سوابق متعددة في العالم لمثل هذا المشروع المذهل. لقد قام بعض الزعماء في الماضي ببناء عواصم جديدة لأسباب مختلفة. مثلاً، أُنشئت برازيليا ف عام 1960 وذلك لتطوير مناطق البرازيل الداخلية القليلة السكان. وبُنيت أنقرة عام 1923 وذلك للمساعدة على إدماج تركيا بعضها في بعض في موقع وسط ابتعاداً عن اسطنبول ذات المصالح الراسخة الخاصة بها. وأقيمت كانبيرا عام 1961 بعد نزاع طويل في ما إذا كانت سدني أم ملبورن هي التي ستكون عاصمة لرابطة الشعوب في أستراليا. كما أن واشنطن العاصمة قد أنشئت عام 1790 كجزء من حلٍ وسط معقد. كان ألكساندر هاملتون يريد أن تتحمل حكومة الولايات المتحدة ديون الحرب المترتبة على عاتق الولايات وكانت الولايات الشمالية هي التي بذمّتها أكبر الديون. ولم توافق الولايات الجنوبية على خطة الديون إلا بعد أن وافق الشمال على أن تقع العاصمة في الجنوب. وفي النهاية اختار جورج واشنطن موقع العاصمة على بعد أميال من منزله على نهر بوتوماك.
إن القائمين على التطوير العقاري يخلقون قيمة معيّنة وذلك بتحويل أرض رخيصة إلى أرض غالية الثمن من طريق خلق الطلب عليها. والأرض المحيطة ببحيرة الثرثار هي صحراء جرداء واسعة المساحة، مملوكة حالياً من قبل الحكومة. إنها اليوم لا قيمة لها لعدم وجود طلب عليها. وتصميم عاصمة رفيعة المستوى في المستقبل لقطرٍ هو من أغنى الأقطار في المنطقة سيكون مشروعاً جذاباً ينطوي على خلق قيمة جديدة. وينبغي أن يكون هذا المشروع من المشاريع التي تموّل نفسها ذاتياً، وسيكون من دون شك من المشاريع العقارية القيّمة جداً في الشرق الأوسط.
هناك أمثلة أخرى في المنطقة تتحدث بنفسها عن نفسها. ففي حالة دُبي وأبو ظبي والدوحة والرياض وجدّة ليس على المرء سوى أن يقارن أسعار العقارات السابقة بأسعارها الحالية بعد التطوير الجاري لكي يدرك مدى ارتفاع قيمتها. إن هذا واضح أيضاً في أمكنة أخرى مثل سنغافورة، وساردينيا في إيطاليا، وبالم بيغ في فلوريدا، ولاس فيغاس في نيفادا، وبنغالور في الهند.
إن العاصمة الجديدة ستحتاج منذ البداية إلى تنظيم وإدارة من قِبل هيئة تكون مثلاً باسم «الوكالة الوطنية للعاصمة الجديدة»، ويوجد مثيل لها في أقطار عديدة أخرى. ترتبط هذه الهيئة برئيس الوزراء مباشرة، وتتألف من بضعة أعضاء يجرى اختيارهم من المختصين البارزين في ميدان العمارة وتخطيط المدن وإدارتها على أن تترأس هذه الهيئة شخصية مرموقة من شخصيات البلاد. وسيكون من مهمات الهيئة الأولى تنظيم مسابقة دولية لتصميم العاصمة الجديدة، وعند اختيار التصميم الفائز يجرى رصد الأموال اللازمة لتنفيذه. إن هذه التجربة ستطبق في المستقبل على تنفيذ مشاريع عامة كبرى أخرى من طريق المسابقة. وستقوم الهيئة المذكورة بتعيين المديرين لتنفيذ المشروع.
ومن المهم أن تتجنب العاصمة الجديدة التلوث الصناعي وذلك بأن تقام الصناعة في أمكنة أخرى على نمط ما يجرى في وادي سيليكون المعروف. ثم إن تطوير البنى التحتية المختلفة اللازمة لمختلف الفروع سيؤدي إلى جذب المزيد من الاستثمارات في المدينة.
في منطقة الخليج أمثلة متعددة على «مدن جديدة» ترتفع عالياً فوق سطح الماء اللامع، فتعطي انطباعاً بالحداثة والرخاء والحيوية الثقافية. فمثلاً إن زيارة دُبي هي دائماً تجربة ثرَّة. فهذه المدينة العصرية والعالمية العناصر توصف بأنها دُرّة الخليج بسبب اللمعان الذي ينعكس عن خط المباني الجميلة والباهرة فيها. إن أفضل ما في العالم من معماريين قد أقاموا ناطحات سحاب بارزة فريدة من نوعها ومجتمعات من طراز عالمي في مكانٍ لم يكن فيه ذات يوم غير الرمل والماء. أما أبو ظبي فهي تبني مدينة ثقافية جديدة تماماً مشجعةً المتاحف مثل اللوفر وغوغنهايم وغيرهما على فتح فروع لها فيها. إن كلتا المدينتين قد تطورت خلال خمس وعشرين سنة ماضية وكلتاهما تجتذبان حالياً الملايين من السيّاح من مختلف أنحاء العالم سنوياً.
إن العراق، وهو ذاته متحف كبير بما يحتويه من آثار عظيمة، يستحق أن تكون له عاصمة عصرية تعكس أهميته التاريخية، كما أن إنشاء عاصمة عراقية جديدة له منافع متعددة. إن بناء مشروع كهذا سيستغرق من أربع سنوات (مدة إنشاء برازيليا) إلى عشر سنوات (مدة إنشاء واشنطن). وهو سيستوعب البطالة في العراق وينشئ طبقة جديدة من البنائين المهرة. ومع أن هذا المشروع سيكون باهظ التكاليف فإن كلفته ستكون أقل بكثير من محاولة رفع مستوى بغداد المعماري إلى المستوى المقترح. وما إن تقوم الحكومة باتخاذ المبادرة للبدء بإنشاء العاصمة المطلوبة حتى تكون بمثابة المغناطيس للاستثمار العقاري الخاص فيؤدي ذلك إلى ازدهار الاقتصاد في البلاد.
سيكون موقع هذه المدينة الجديدة من الأمور المهمة جداً، وأقترح شخصياً أن يكون هذا الموقع على ضفاف بُحيرة الثرثار. إن هذه البحيرة الواقعة شمالي بغداد هي أكبر المساحات المائية في العراق، أما شواطئها فهي غير مأهولة الآن. وسيتمكن المقيمون في هذه العاصمة الجديدة من أن يتطلعوا إلى مشهد هو من السعة والروعة كمستقبل بلادهم. إن تحويل هذه الرؤية إلى واقع سيتطلب أفضل العقول العاملة في التخطيط الحضري، على أن يؤخذ في الاعتبار البعد الإنساني الذي يتمثل بالمتنزهات الجذابة والساحات العامة الأخرى، مع الاستفادة من مناظر الموقع ومن النشاطات التي يمكن أن تجرى على الشواطىء. وينبغي أن يكون في قلب العاصمة الجديدة عدد من المتنزهات والشوارع المطلة على البحيرة مع حدائق غناء وساحات للأطفال. إنها بذلك ستكون نموذجاً يُحتذى في المنطقة، وستُعرف في العالم بأسره شأنها شأن المواقع الأخرى التي صُمّمت في البرازيل والمكسيك من قبل مصمّمين عالميين مثل روبرتو بيرل - ماركس Roberto Burle-Marx ولويس باراغان Luis Barragan.
وسيقام بدلاً من الشوارع المزدحمة والضيقة والمتدهورة ومن الأبنية المشوّهة شوارع عريضة تتميز بالنظافة والجمال ومحاطة بعمارات جذابة من أروع ما يمكن تخيّله. إن عاصمة العراق الجديدة ينبغي أن تتمسك بأعلى المستويات البيئية وأن تكون خالية من الصناعات الثقيلة. كما ينبغي أن يكون التأكيد على عمارات رائعة البناء لتضم دوائر الدولة. إن مثل هذه المدينة الجميلة والنظيفة والحسنة التخطيط ستصبح بذاتها مقصداً للسياحة كغيرها من عواصم العالم الكبرى فتوفر سنداً دائماً آخر لاقتصاد البلاد. ومن المهم أن تُصمَّم المدينة الجديدة في شكل يضمن الأمن فيها لجعلها مكاناً آمناً للحكومة الجديدة.
إن التحول الاقتصادي المطلوب في العراق ذو طبيعة شاملة. ولا مجال للمبالغة في مدى التنمية والتقدم اللذين يجب القيام بهما لمستقبل الشعب العراقي. فالعراق يجب إعادة بنائه في كل ركن من أركانه وفي كل قطاع من القطاعات. وأمام العراق طريق طويل قبل أن يتحول إلى أمة مزدهرة تنبض بالحيوية والحياة وتكون مندغمة في سائر أنحاء العالم. إن من الممكن أن يتحقق الرخاء والتطور للعراق إذا توافرت لهما المؤسسات اللازمة واستراتيجيات التنمية الصحيحة والزعامة الأمينة التي تتمتع بالمهارة والتصميم.
* كاتب ورجل أعمال عراقي. والنص مقطع من كتابه «إنقاذ العراق/ بناء أمة محطمة» الذي يصدر قريباً عن دار الساقي في بيروت ولندن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.