الأخضر يغادر كأس أمم آسيا لأٌقل من 23 عاما بعد خسارته أمام أوزبكستان في ربع النهائي    أمانة الطائف تنشئ السجادة المليونية من نوعها للزهور في مهرجان الورد (قطاف19)    توافق مصري - إسرائيلي على هدنة لمدة عام بقطاع غزة    معالي الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يزور قيادة القوة البحرية بجازان    جيسوس يتسلم جائزة أفضل مدرّب في شهر مارس    إغلاق فروع منشأة تجارية بالرياض بعد رصد حالات تسمم    هيئة كبار العلماء: لا يجوز الحج دون تصريح.. ومن لم يتمكن فإنه في حكم عدم المستطيع    النفط يرتفع.. والذهب يتجه لأول خسارة أسبوعية    الاتفاق يختتم تحضيراته ويغادر للقصيم    10 أحياء تنضمّ للسجل العقاري بالرياض    «مكافحة المخدرات» تقبض على شخصين بالقصيم لترويجهما مادة الإمفيتامين المخدر    "الأرصاد": لا صحة لتعرض المملكة لأمطار غير مسبوقة    نائب وزير الداخلية يرأس وفد المملكة المشارك في المؤتمر الأول لمكافحة الاتجار بالمخدرات    "الحج" تحذر حجاج الخارج من الحملات الوهمية    ترميم قصر الملك فيصل وتحويله إلى متحف    ضوابط جديدة و4 تصنيفات لتقييم أضرار المركبة    السعودية تحصد ميداليتين عالميتين في «أولمبياد مندليف للكيمياء 2024»    نائب أمير منطقة تبوك يرفع التهنئة للقيادة الرشيدة بمناسبة إنجازات مستهدفات رؤية المملكة ٢٠٣٠    الأحوال المدنية: منح الجنسية السعودية ل4 أشخاص    بنهاية 2023.. 2.34 مليون سعودي يعملون في «الخاص».. و98% امتثال منشآته بالتوطين    الأرصاد: لا صحة عن تأثر السعودية بكميات أمطار مشابهة لما تعرضت له بعض الدول المجاورة    ولي العهد يهنئ رئيسة جمهورية تنزانيا المتحدة بذكرى يوم الاتحاد لبلادها    «الحج والعمرة»: احذروا شركات الحج الوهمية.. لا أداء للفريضة إلا بتأشيرة حج    «الطيران المدني»: تسيير رحلات مباشرة من الدمام إلى النجف العراقية.. ابتداء من 1 يونيو 2024    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام و النبوي    الشاب عبدالله بن يحيى يعقوب يعقد قرآنه وسط محبيه    كيسيه يعلق على الخسارة أمام الرياض    جوارديولا: الضغط يدفعنا إلى الأمام في الدوري الإنجليزي    خادم الحرمين يوافق على ترميم قصر الملك فيصل وتحويله ل"متحف الفيصل"    إصابة حركة القطارات بالشلل في ألمانيا بعد سرقة كابلات كهربائية    أعمال نظافة وتجفيف صحن المطاف حفاظًا على سلامة ضيوف الرحمن    وزير الشؤون الإسلامية يعقد اجتماعاً لمناقشة أعمال ومشاريع الوزارة    أستراليا تقدم الدعم للقضاء على الملاريا    أمريكا: اكتشاف فيروس إنفلونزا الطيور في 20% من عينات الألبان    "واتساب" يتيح مفاتيح المرور ب "آيفون"    اتفاق سعودي – قبرصي على الإعفاء المتبادل من التأشيرة    إصابة مالكوم وسالم الدوسري قبل مباراة الهلال والفتح    "زرقاء اليمامة" تعيد الأضواء ل"مركز فهد الثقافي"    "المُحليات" تدمِّر "الأمعاء"    هوس «الترند واللايك» !    صعود الدرج.. التدريب الأشمل للجسم    تقنية مبتكرة لعلاج العظام المكسورة بسرعة    التنفس بالفكس    أمير حائل يرفع التهنئة للقيادة نظير المستهدفات التي حققتها رؤية المملكة 2030    مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الامير خالد الفيصل يهنئ القيادة نظير ماتحقق من مستهدفات رؤية 2030    الصحة: رصد 15 حالة تسمم غذائي في الرياض    أمين الرياض يحضر حفل السفارة الأميركية    الهمس الشاعري وتلمس المكنونات    «ألبرتو بُري» يتجاوز مأساته    تفكيك السياسة الغربية    مقال «مقري عليه» !    القيم خط أحمر    نائب أمير الشرقية يستقبل نائب رئيس جمعية «قبس»    محمية الإمام تركي تعلن تفريخ 3 من صغار النعام ذو الرقبة الحمراء في شمال المملكة    خلط الأوراق.. و«الشرق الأوسط الجديد»    فلسطين دولة مستقلة    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة ال82 من طلبة كلية الملك عبدالعزيز الحربية    التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن وكالة الأونروا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مشاريع التنوير والعمران المعاصرة ... وسؤال الإنسان
نشر في الحياة يوم 07 - 05 - 2016

اشتغل عدد من النخب في مجتمعاتنا العربية بالتنوير الفكري على اعتبار أننا نمر في ظلام يمنعنا من رؤية التقدم والنهوض، وهذا صحيح من بعض النواحي. ومع استمرار هذا الجهد الفكري لعدة عقود، لا تزال مشاريع التنوير بكراً لم تنضج في كتابات المثقفين العرب، وما قدمه الرعيل الأول في بواكير عصر الحداثة كالطهطاوي ومحمد عبده والأفغاني والكواكبي ورشيد رضا لم يكمله من أتى بعدهم، فالمشاريع التي كانت تولد في رحم التنوير تصاب بعد خروجها إلى الساحة بالردود والمشاريع المضادة، فتتقزّم في دوائر النزاعات الفكرية الضيقة والصاخبة.
ومشروع التنوير العربي كتبتُ عنه في إطاره المحلي والعربي مقالات عدة ناقداً حالات منه، ومؤيداً حالات أخرى، لكنه قطعاً إذا سار في طريق المعالجات الناقدة والبنّاءة للإنسان والمجتمع والدولة، فسيُثمر نفعاً، ويعالج واقعاً لا تخفى بشاعته ومرارته على متأمل لحال المجتمعات العربية اليوم. والمؤسف في كتابات التنوير المعاصر، أنها تمحورت حول موضوع الدين والتراث وكأنه سبب ظلامات حالنا الراهنة، والنقد التنويري لو كان يتركّز في الممارسات الدينية الجانحة والمتطرفة لكان حرياً بالقبول العام لدى كافة التيارات، لكنّ الكثيرين اقتصروا على النص وفهمه وتاريخيته وزلات أفهام الفقهاء ورجعية التراث، بينما مشكلات الإنسان القائمة تتمحور حول ضعف التنمية وفقدان الهوية وتخلف البحث العلمي والبطالة وركود الصناعة وتبعيتنا في ذلك كله. لم يشغل هذا إلا القليل، على رغم وجود المُكنة عند الكثيرين لتناول هذه القضايا الملحة في حياة الفرد والجماعة. والموازنة مطلوبة في فكر المثقف المعاصر ودخوله في خضم تلك المهام المصيرية للمجتمع تزيد من أهميته كفاحص ورقيب على صحة المسار والبناء.
وإذا أخذنا مثالاً نستشهد به على فكرة هذا المقال، فيمكن الإفادة من تجربة مفكري عصر النهضة الأوروبيين، فهناك من اشتغل في الفكر المجرد ونقد اللاهوت كون تلك الموضوعات من أسباب التخلف والنكوص آنذاك، ولكنّ الأشهر اهتموا بالعلوم والمعارف الإنسانية الأخرى وفنون البناء المتنوعة سواء الايطاليين السابقين كدافينشي ومايكل انجلو، أو الأهم في استشهادي وهم الانكليز الذي اختطوا مجالاً أوسع ومهّدوا لطريق طويل من النهضة امتد من أوائل القرن السادس عشر حتى عصرنا الحاضر، وكان أبرزهم توماس مور وفرانسيس بيكون، عندما أرسوا قواعد المنهج التجريبي وأطلقوا عنان المكتشفات الطبيعية والعلوم المصاحبة لها، ثم اشتغل الكثيرون من الفلاسفة بعدهم بهذا الهمّ العلمي يتجاوز اشتغالهم بالفكر اللاهوتي الذي كان سمة الكثيرين من فلاسفة أوروبا الآخرين. وهذا الاشتغال أنشأ أول مجتمع صناعي قوي في العالم، وما كان هذا الحدث الصناعي الذي نقل الفرد في بريطانيا من فقير عائل إلى صانع مستقل وبمداخيل مضاعفة أيضاً وهيمنة اقتصادية وسياسية وثقافية بعد ذلك على العالم ؛ لولا عدد من الأعمدة الفكرية التي أرساها لوك وهيوم مهدت الطريق لحقوق أوسع وحريات أرسخ. ثم جاء فيلسوف القرن التاسع عشر جو ستيوارت مل الذي قفز بهذه المرحلة نحو الفاعلية المجتمعية من خلال كتابه (في الحرية) حيث زجّ بقدرات الفقراء والطبقات الوسطى نحو عملية التغيير الاجتماعي والاقتصادي، كما أن مرونة الملكية البريطانية ساهمت في استقرار نسبي دعم هذه الثورة الصناعية نحو التقدُّم ومكّنها في مجالات حياتية عدة، وبالمقارنة بالثورة الفرنسية التي كانت تجتاح أوروبا من فرنسا خلال تلك الفترة، نجدها أورثت قلاقل وحروباً استمرت أكثر من مئة عام من عدم الاستقرار، من خلال هذا العرض الموجز الذي حاولت فيه جمع الشواهد بتركيب صورة ذهنية امام القارئ، أردت من خلالها الوصول للنتائج التالية:
أولاً: إن المجتمعات العربية تمر بتحولات مهمة خصوصاً بعد ثورات الربيع العربي، ولم تفِدها حالات التنوير الثقافي الخالية من معطيات التنمية والبناء في تقليص الكوارث التي مرت بها تلك الدول، أو على الأقل شجعت على العود مبكراً دون آثار تفتك بانسجام المجتمع ووحدته، فالأنموذج البريطاني كان أسرع في تقبّل التغيُّرات التي حصلت، ولم تعاند الملكية في توسيع المجال للمشاركات وفتح باب الحريات للمجتمع، بخلاف الملكية الفرنسية التي أسهمت في نشوء الثورة وانتكاساتها المريعة، ومرونة السياسي وعقل المثقف العمراني كفيلان بنهضة تقدمية تحافظ على مكتسبات المجتمع وتنمّيه.
ثانياً: إن استراتيجية التغيير تحتاج الى منطق إداري صارم، ولكن لن ينجح هذا المنطق ما لم يكن هناك فهم سُنني لطبيعة المجتمع واحترام لثوابته وتصدٍّ لمشكلاته الآنية والمستقبلية، مع الحذر من التعاطي مع الأمور الضرورية في التغيير بمنطق نصف إصلاح يكفي، أو نصف حرية، أو نصف عدالة، لأن تلك الأنصاف الناقصة قد تعود بالخراب على الكل، وهذا الأمر يصدق عليه حال السيل عندما ينهمر المطر ويتجمّع الماء الكثير في الأرض، فإنه لا ينفع صدّ السيل عن وديانه وخلجانه الطبيعية، أو التحكُّم بكميته ليجري بعضه ويقف الآخر، كل ذلك لن يكون مانعاً من اندفاع حركة السيل نحو التصرف وفق بيئة الأرض الطبيعية، مستجمعاً قوته في البلوغ إلى نهاية طريقه أو توقف المطر عنه.
ثالثاً: التقدم الإنساني في التاريخ يأتي على شكل فرص ولحظات باهرة قد لا تتكرر، وكتلة الدفع الحرجة لهذه اللحظة التاريخية، هم كنز الوطن وجوهره النابض، وقد لا يكونون نجوماً تحت الأضواء ولا تروِّج لهم المنابر الإعلامية، لكن حضورهم الغائب وهديرهم الصامت هما الطاقة التي تندفع بها عجلة التقدم، وغالباً نجاحهم يحدث من خلال اختيارهم القرار الصائب، وتأسيسهم للمنهج الصحيح للعمل، وتقديمهم المعلومة الصادقة لأجل التصور السليم، وأي تهميش لتلك الكتلة الحرجة، أو استبدالها بشلّة نزقة؛ فإنه يعني التعثُّر رغم النشاط والتضعضع رغم القوة.
رابعاً: الإنسان هو محور التقدُّم الحضاري المستدام، وهذه قاعدة ربانية لأن التغيير الحقيقي يبدأ وينتهي بالأنفس، كما قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» (الرعد:11) فلن يكون هناك تغيير جمعي متحقق بيقين، والمقصود به في الآية (القوم) إلا بتغيُّر الإنسان أولاً، من خلال تنمية أخلاقه وتنوير فكره. والإنسان اليوم في مشاريع النهوض يجب أن يكون هو جوهر الرؤى التقدّمية وروحها النابضة، وما لم تراعَ حاجاته الروحية والفكرية والفطرية، فإن حاجاته المادية الاقتصادية ستجعل منه مسماراً في آلة، يبقى ببقائها وينتهي بانتهائها. والإنسان المستهدف في النهوض لا يتبعض، أي لا يُستهدف إنسان المال والأعمال كونه الحاضر المؤثر، ويُغفل عن إنسان القرى والبوادي، وإنسان الماء الملوّث وبيوت الصفيح، ومن الحِكم الحضارية التي تداولتها البشرية، أن الوطن الذي يُعلي من أفراده، فإنه يعلو في قلوبهم، ويسمو على الآخرين.
خامساً: يأتي التعليم دائماً على رأس أولويات التغيير، وتبدأ النهضة الحقيقية لأي حضارة من الجامعة والمدرسة، فهي أكبر تجمعٍ لأقوى مكوّن للتغيير، وإعدادهم في شكل مكثف ومنهجي يختصر الكثير من الوقت والجهد والمال الذي تتطلبه في العادة مشاريع النهوض التي تتوخاها الحكومات في أي بلد بالعالم.
واليوم ونحن أمام مشهد انطلاقة عدد من مشاريع التحديث الواعدة والتي يطرحها عدد من الحكومات العربية، مثل مشروع رؤية المملكة العربية السعودية 2030م الذي يعتبر من أهم المشاريع التحديثية في تاريخ الدولة، حريٌّ بكل صاحب قلم وفكر أمام هذه المشاريع العملاقة، أن يسهم بكل ما يستطيع لخدمة العمران الإنساني والأجيال القادمة، تنميةً أو نصحاً وتقويماً، وعندما تتصالح الحكومات وشعوبها وتنظر للمستقبل معاً باعتبارهم في مركب واحد، فإن عصر الربيع العربي الحقيقي قد أتى يختال واعداً بالبشر والأمن والاستقرار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.