اشتغل عدد من النخب في مجتمعاتنا العربية بالتنوير الفكري على اعتبار أننا نمر في ظلام يمنعنا من رؤية التقدم والنهوض، وهذا صحيح من بعض النواحي. ومع استمرار هذا الجهد الفكري لعدة عقود، لا تزال مشاريع التنوير بكراً لم تنضج في كتابات المثقفين العرب، وما قدمه الرعيل الأول في بواكير عصر الحداثة كالطهطاوي ومحمد عبده والأفغاني والكواكبي ورشيد رضا لم يكمله من أتى بعدهم، فالمشاريع التي كانت تولد في رحم التنوير تصاب بعد خروجها إلى الساحة بالردود والمشاريع المضادة، فتتقزّم في دوائر النزاعات الفكرية الضيقة والصاخبة. ومشروع التنوير العربي كتبتُ عنه في إطاره المحلي والعربي مقالات عدة ناقداً حالات منه، ومؤيداً حالات أخرى، لكنه قطعاً إذا سار في طريق المعالجات الناقدة والبنّاءة للإنسان والمجتمع والدولة، فسيُثمر نفعاً، ويعالج واقعاً لا تخفى بشاعته ومرارته على متأمل لحال المجتمعات العربية اليوم. والمؤسف في كتابات التنوير المعاصر، أنها تمحورت حول موضوع الدين والتراث وكأنه سبب ظلامات حالنا الراهنة، والنقد التنويري لو كان يتركّز في الممارسات الدينية الجانحة والمتطرفة لكان حرياً بالقبول العام لدى كافة التيارات، لكنّ الكثيرين اقتصروا على النص وفهمه وتاريخيته وزلات أفهام الفقهاء ورجعية التراث، بينما مشكلات الإنسان القائمة تتمحور حول ضعف التنمية وفقدان الهوية وتخلف البحث العلمي والبطالة وركود الصناعة وتبعيتنا في ذلك كله. لم يشغل هذا إلا القليل، على رغم وجود المُكنة عند الكثيرين لتناول هذه القضايا الملحة في حياة الفرد والجماعة. والموازنة مطلوبة في فكر المثقف المعاصر ودخوله في خضم تلك المهام المصيرية للمجتمع تزيد من أهميته كفاحص ورقيب على صحة المسار والبناء. وإذا أخذنا مثالاً نستشهد به على فكرة هذا المقال، فيمكن الإفادة من تجربة مفكري عصر النهضة الأوروبيين، فهناك من اشتغل في الفكر المجرد ونقد اللاهوت كون تلك الموضوعات من أسباب التخلف والنكوص آنذاك، ولكنّ الأشهر اهتموا بالعلوم والمعارف الإنسانية الأخرى وفنون البناء المتنوعة سواء الايطاليين السابقين كدافينشي ومايكل انجلو، أو الأهم في استشهادي وهم الانكليز الذي اختطوا مجالاً أوسع ومهّدوا لطريق طويل من النهضة امتد من أوائل القرن السادس عشر حتى عصرنا الحاضر، وكان أبرزهم توماس مور وفرانسيس بيكون، عندما أرسوا قواعد المنهج التجريبي وأطلقوا عنان المكتشفات الطبيعية والعلوم المصاحبة لها، ثم اشتغل الكثيرون من الفلاسفة بعدهم بهذا الهمّ العلمي يتجاوز اشتغالهم بالفكر اللاهوتي الذي كان سمة الكثيرين من فلاسفة أوروبا الآخرين. وهذا الاشتغال أنشأ أول مجتمع صناعي قوي في العالم، وما كان هذا الحدث الصناعي الذي نقل الفرد في بريطانيا من فقير عائل إلى صانع مستقل وبمداخيل مضاعفة أيضاً وهيمنة اقتصادية وسياسية وثقافية بعد ذلك على العالم ؛ لولا عدد من الأعمدة الفكرية التي أرساها لوك وهيوم مهدت الطريق لحقوق أوسع وحريات أرسخ. ثم جاء فيلسوف القرن التاسع عشر جو ستيوارت مل الذي قفز بهذه المرحلة نحو الفاعلية المجتمعية من خلال كتابه (في الحرية) حيث زجّ بقدرات الفقراء والطبقات الوسطى نحو عملية التغيير الاجتماعي والاقتصادي، كما أن مرونة الملكية البريطانية ساهمت في استقرار نسبي دعم هذه الثورة الصناعية نحو التقدُّم ومكّنها في مجالات حياتية عدة، وبالمقارنة بالثورة الفرنسية التي كانت تجتاح أوروبا من فرنسا خلال تلك الفترة، نجدها أورثت قلاقل وحروباً استمرت أكثر من مئة عام من عدم الاستقرار، من خلال هذا العرض الموجز الذي حاولت فيه جمع الشواهد بتركيب صورة ذهنية امام القارئ، أردت من خلالها الوصول للنتائج التالية: أولاً: إن المجتمعات العربية تمر بتحولات مهمة خصوصاً بعد ثورات الربيع العربي، ولم تفِدها حالات التنوير الثقافي الخالية من معطيات التنمية والبناء في تقليص الكوارث التي مرت بها تلك الدول، أو على الأقل شجعت على العود مبكراً دون آثار تفتك بانسجام المجتمع ووحدته، فالأنموذج البريطاني كان أسرع في تقبّل التغيُّرات التي حصلت، ولم تعاند الملكية في توسيع المجال للمشاركات وفتح باب الحريات للمجتمع، بخلاف الملكية الفرنسية التي أسهمت في نشوء الثورة وانتكاساتها المريعة، ومرونة السياسي وعقل المثقف العمراني كفيلان بنهضة تقدمية تحافظ على مكتسبات المجتمع وتنمّيه. ثانياً: إن استراتيجية التغيير تحتاج الى منطق إداري صارم، ولكن لن ينجح هذا المنطق ما لم يكن هناك فهم سُنني لطبيعة المجتمع واحترام لثوابته وتصدٍّ لمشكلاته الآنية والمستقبلية، مع الحذر من التعاطي مع الأمور الضرورية في التغيير بمنطق نصف إصلاح يكفي، أو نصف حرية، أو نصف عدالة، لأن تلك الأنصاف الناقصة قد تعود بالخراب على الكل، وهذا الأمر يصدق عليه حال السيل عندما ينهمر المطر ويتجمّع الماء الكثير في الأرض، فإنه لا ينفع صدّ السيل عن وديانه وخلجانه الطبيعية، أو التحكُّم بكميته ليجري بعضه ويقف الآخر، كل ذلك لن يكون مانعاً من اندفاع حركة السيل نحو التصرف وفق بيئة الأرض الطبيعية، مستجمعاً قوته في البلوغ إلى نهاية طريقه أو توقف المطر عنه. ثالثاً: التقدم الإنساني في التاريخ يأتي على شكل فرص ولحظات باهرة قد لا تتكرر، وكتلة الدفع الحرجة لهذه اللحظة التاريخية، هم كنز الوطن وجوهره النابض، وقد لا يكونون نجوماً تحت الأضواء ولا تروِّج لهم المنابر الإعلامية، لكن حضورهم الغائب وهديرهم الصامت هما الطاقة التي تندفع بها عجلة التقدم، وغالباً نجاحهم يحدث من خلال اختيارهم القرار الصائب، وتأسيسهم للمنهج الصحيح للعمل، وتقديمهم المعلومة الصادقة لأجل التصور السليم، وأي تهميش لتلك الكتلة الحرجة، أو استبدالها بشلّة نزقة؛ فإنه يعني التعثُّر رغم النشاط والتضعضع رغم القوة. رابعاً: الإنسان هو محور التقدُّم الحضاري المستدام، وهذه قاعدة ربانية لأن التغيير الحقيقي يبدأ وينتهي بالأنفس، كما قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» (الرعد:11) فلن يكون هناك تغيير جمعي متحقق بيقين، والمقصود به في الآية (القوم) إلا بتغيُّر الإنسان أولاً، من خلال تنمية أخلاقه وتنوير فكره. والإنسان اليوم في مشاريع النهوض يجب أن يكون هو جوهر الرؤى التقدّمية وروحها النابضة، وما لم تراعَ حاجاته الروحية والفكرية والفطرية، فإن حاجاته المادية الاقتصادية ستجعل منه مسماراً في آلة، يبقى ببقائها وينتهي بانتهائها. والإنسان المستهدف في النهوض لا يتبعض، أي لا يُستهدف إنسان المال والأعمال كونه الحاضر المؤثر، ويُغفل عن إنسان القرى والبوادي، وإنسان الماء الملوّث وبيوت الصفيح، ومن الحِكم الحضارية التي تداولتها البشرية، أن الوطن الذي يُعلي من أفراده، فإنه يعلو في قلوبهم، ويسمو على الآخرين. خامساً: يأتي التعليم دائماً على رأس أولويات التغيير، وتبدأ النهضة الحقيقية لأي حضارة من الجامعة والمدرسة، فهي أكبر تجمعٍ لأقوى مكوّن للتغيير، وإعدادهم في شكل مكثف ومنهجي يختصر الكثير من الوقت والجهد والمال الذي تتطلبه في العادة مشاريع النهوض التي تتوخاها الحكومات في أي بلد بالعالم. واليوم ونحن أمام مشهد انطلاقة عدد من مشاريع التحديث الواعدة والتي يطرحها عدد من الحكومات العربية، مثل مشروع رؤية المملكة العربية السعودية 2030م الذي يعتبر من أهم المشاريع التحديثية في تاريخ الدولة، حريٌّ بكل صاحب قلم وفكر أمام هذه المشاريع العملاقة، أن يسهم بكل ما يستطيع لخدمة العمران الإنساني والأجيال القادمة، تنميةً أو نصحاً وتقويماً، وعندما تتصالح الحكومات وشعوبها وتنظر للمستقبل معاً باعتبارهم في مركب واحد، فإن عصر الربيع العربي الحقيقي قد أتى يختال واعداً بالبشر والأمن والاستقرار.