تقرر سارة أن تقيم حفلاً موسيقياً على أحد مسارح طهران تشارك فيه مغنيات إيرانيات وفرنسيات ويحضره جمهور من النساء والرجال، تحلم بإعادة أمجاد الأغنية النسائية الإيرانية التي اشتهرت قبل الثورة، لكن... ممنوع! فصوت المرأة حين تغني بمفردها يعتبر عورة. يمكنها الإنشاد ما شاءت أمام جمهور من النساء، إنما أمام جمهور مختلط: لا! لا بد أن تصاحبها أصوات ذكورية، قرار صدر بعد الثورة الإسلامية الإيرانية يمنع النساء من الغناء بمفردهن على المسارح أو حتى إصدار أسطوانات. سارة تشعر بمدى عبثية قرار كهذا، تريد تحدي السلطات وتنظيم الحفل... نحن في فترة حكم أحمدي نجاد قليلاً قبل انتخابات 2009 واضطراباتها، حينها تبدأ مغامرة سارة التي تستمر حتى 9 أيلول 2013! في الفيلم الوثائقي» غناء بلا أرض»، يرصد المخرج الإيراني آيات نجفي، الذي يقيم بين إيران وألمانيا، تجربة شقيقته المؤلفة الموسيقية سارة. سيكون على هذه الفنانة الشابة مواجهة متاعب لا تنتهي لتحقيق حلمها والخروج من المأزق. تصاحبها الكاميرا في محاولاتها، في رغبتها بتحقيق أشياء وإن كانت صغيرة فهي تتطلب مجهوداً جباراً لا يتناسب وحجمها! السيناريو يقترح التعرف إلى آراء في غناء النساء لرجال دين ومسؤولين وحتى موسيقيين، كما يعرّفنا بمغنيتين إيرانيتين قررتا نوعاً من الاعتزال أو بالأحرى فرضتاه على نفسيهما، فماذا بمقدورهما فعله أمام أقوال عن صوت المرأة الذي «يثير الرجل»؟ هل تنجح؟ ليس مهماً للفيلم نجاح سارة من عدمه، بل المهم سرد رحلتها لثني السلطات عن قرار تعتبره مجحفاً أدى إلى هجرة عديد من المطربات الإيرانيات بعد الثورة. سارة تناضل «ببراءة» للحصول على ما تعتبره حقاً طبيعياً. ببراءة؟ نعم، إنما هي براءة مفتعلة، فهي تدرك تماماً العوائق والممنوعات والمبررات ولكنها مع ذلك تتسلل إلى النظام عن قرب وتذهب إلى وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي مسلحة بكاميرا خفية باسطة أمام المسؤولين والرقابة مشروعها: إقامة حفل غناء نسائي لجمهور من الرجال والنساء. بالطبع لا يبين الفيلم وجوه من تحادثهم في الوزارة، فهي ما إن تخرج من المصعد الذي يقودها نحو مكتب المسؤول حتى تغدو الشاشة سوداء ولا تُسمع سوى أصوات تحاول، بكل لطف وبعد عن المباشرة، أن تثني صاحبة المشروع عن أمر لا يمكن تحقيقه، مع إبداء تعاطف ما. من يحثونها يبدون عاجزين وخاضعين لقوانين مثلها وليس بمقدورهم مساعدتها، يعترفون بهذا من دون أن يدينوا، بالطبع، ما يحصل. هم فقط يقولون لها دعي مشروعك ولنرَ. يجعلونها تأمل لفترة انتظاراً لقرارات عليا، فتروح وتجيء ولا يحصل شيء. هذا أفضل ما أبرزه الفيلم. فقد نجح المخرج هنا بإبداء هذه البيروقراطية ولعبة المتاهات والتهرب والمناقشات التي من دون طائل والتي تفلح بها الأنظمة التي تخنق مواطنيها. بدا واضحاً كيف يمكن إنهاك شخص معنوياً كي يتخلى بنفسه عن مشروعه ليتخلصوا هم من عبء الرفض المباشر. كل ما نراه في الفيلم من إجراءات ورواح ومجيء منهك نفسياً. لكن الفيلم ليس فقط متابعة إجراءات وإبراز مشاكل فنية وإدارية تحيط بإقامة حفل كهذا، كما متابعة جهود سارة لتحقيق حلمها، بل هو كذلك إبداء هذا الكم من المشاعر التي تتنازع أصحاب المشاريع في بلاد تضع لهم عند كل خطوة حفرة... مشاعر تتقاذف المرء لتطير به تارة وتهوي به تارات، ليراوح بين الأمل والإحباط. بين التمسك والتخلي بين الغضب والحلم... هذا ما تعبر عنه بطلة الفيلم سارة ومعها المغنيتان الفرنسيتان والتونسية (اشتهرت بغنائها في تظاهرات تونس 2011 وهذا ما لفت نظر سارة إليها، أي تمردها وثوريتها وجعلها تدعوها للمشاركة معهن) وأفراد الفرقة الموسيقية. بيد أن مشاعر سارة في الفيلم هي الأكثر بروزاً وتعبيراً عن معاناة الفرد في مجتمعات تضيّق عليه وتعيق خطواته، إنما أيضاً في نفس الوقت، ولا يمكننا إلا ملاحظة هذا، تدفع به للابتكار... ليتحايل عليها! حيرة ما... لا يعني هذا أن السرد لم يهتم بإبراز أحاسيس وردود أفعال من هم خارج تلك المجتمعات والذين لم يعتادوا على لا منطقيتها، وهم هنا المغنيتان الفرنسيتان والموسيقيون القادمون من فرنسا للعزف مع زملاء إيرانيين. هؤلاء هم في مواقف جديدة كل الجدة عليهم. وقد تمكن الفيلم من نقل عواطفهم وأسلوب تعاملهم مع هذه المواقف. من استغراب قرار كهذا ومن حيرة بل ذبذبة في كيفية التعامل معه، يبدون أحياناً عاجزين وأقرب إلى التخلي عن المشروع بأكمله بالنظر لعبثيته وتخلفه بمسافات عن ثقافتهم، ثم يحصل فهم تدريجي لما يجري وتصميم على الاستمرار على رغم الرفض في آخر لحظة... ثم القبول بتنظيم حفل واحد فقط في طهران وبحضور جمهور محدود! فثمة تغييرات سياسية إذ يقام الحفل مباشرة بعد انتخاب روحاني. بعيداً عن قضية الغناء الانفرادي والصعوبات التي تواجهها المغنية في إيران إنها قضية حرية وإبداء عبث اليومي، وأيضاً تكريم الفيلم للمغنية الإيرانية التي تعتبر أسطورة العشرينات «قمر الملوك وزيري». كانت قمر اخترقت المحرمات وحررت صوت المرأة ونقلته من إطار محدود بالخاص إلى العام. مقاومة هذه المطربة أوحت بالتحدي لسارة نجفي عبر محاولتها إعادة غناء «طائر الفجر» (مرغ سحر) بأسلوب عصري من قبل مغنيات من أجيال وأصول مختلفة. و»طائر الفجر» أو السحر، أغنية شعرية شعبية انتشرت بدايات القرن العشرين تثير قضية الحرية والظلم والقمع وهي بالتالي صالحة لكل زمان ومكان! كانت قمر من أوائل من غناها أما آخر من غناها فهو المطرب الإيراني الكبير شجريان. أيها البلبل المغلول ريشك في القفص... تحرر غرد بأنغام الحرية