يقول الفيلسوف الألماني هيغل، عن السخرية أنها «التعبير في أقصى ذروته عن حاجة الشخصية الإنسانية إلى التحرر والاستقلال». هذه المقولة تعكس حقيقة ما وصلت إليه عبارة «السخرية السوداء» التي ابتدعها الشاعر الفرنسي أندريه بروتون، سنة 1936، من انتشار داخل كل أشكال التعبيرات الثقافية، لتصل في السنوات الأخيرة إلى ذهن القوى الاحتجاجية العالمية وتتحوّل إلى أداة هدم وبناء في آن واحد، ووسيلة هجوم ودفاع افتراضية ولكن فاعلة. لم يكن من السهل اقتناص إجابات من المواطنين التونسيين عن سؤال بدا سهلاً وممتنعاً. ما الذي يضحككم؟ يجيب التونسي بلغة الجسد بداية، تكشيرة ثم ابتسامة ثم قهقهة ثم تنهيدة، لينهي هذا كله بكلمة مقتضبة: لا شيء. «أقسم أن لا شيء يضحكني» يؤكد بلقاسم، مهندس في الخامسة والأربعين من عمره. ويضيف: «لماذا لا تصدقون أن الضحك والفرح أصبحا أموراً نادرة الحدوث في مجتمعنا؟ منذ متى لم أضحك بسرور وانتشاء حقيقي، أنا حقاً لا أذكر، كل ما تمر به البلاد من مشاكل سياسية واقتصادية وأمنية، ما تمر به سورية والعراق واليمن وليبيا وغيرها من بلدان المنطقة، هي أحداث تنغّص حياتي في شكل يومي، أضف إلى ذلك الحياة الزوجية المملّة ومشاكل الأطفال الدراسية وغيرها، أحاول في المساء تغيير مزاجي مع رفاق المقهى، نحوّل مشاكلنا إلى مزحات صغيرة تضحكنا حيناً، قبل أن نعود مكسوري الخاطر إلى منازلنا». يهتم التونسي بفضول كبير بالشأن السياسي داخل تونس وخارجها منذ اندلاع الثورة التي غيّرت مسار اهتماماته. ويعتمد التونسيون مواقع التواصل الاجتماعي للتواصل وتشارك الآراء في شكل يومي، حتى أن موقع «فايسبوك» أصبح منبر نقاش دائم بين ملايين التونسيين الذين يعتمدون صفحاتهم لتبادل الأخبار العاجلة والتعليقات والتحليلات السياسية، وإبداء الرأي في الغث والسمين منها. غير أن ما يميز التونسيين اعتمادهم منذ بداية الثورة، أسلوب السخرية السوداء في نقد ما لا يعجبهم في كل ما ينزل على جدارهم الافتراضي من معلومات. ويقول الصحافي محمد سميح الباجي: «قل أن يعلق التونسي على الأوضاع بتجرد وموضوعية، فهذه الجمل الساخرة التي يضيفونها إلى منشوراتهم تمنح يومهم بعض الابتسامة والبهجة، وإن تخلوا عنها فإن الرتابة ستلاحقهم». أصبحت السخرية السوداء وسيلة التونسيين للترفيه والابتسام من أجل تجاوز واقع مرير سلّط عليهم بسبب الفساد السياسي الذي دمر اقتصاد البلاد وجوع مواطنيها وصعّب حياتهم اليومية. ويمكن ملاحظة السخرية السوداء بسهولة في المنشورات والتعليقات واللافتات الاحتجاجية، «التي تصنع الفارق بين شعب كئيب ينتظر وشعب كئيب يحاول النهوض والبناء»، على ما يقول الباجي لأن «أهميتها ليست فقط باستراق بعض لحظات الانشراح، بل في أنها تحوّلت إلى سلاح لمواجهة المواقف والثقافات والتصريحات الرسمية الباردة». وعن مغالاة التونسيين في اعتماد السخرية السوداء التي اجتاحت السينما والمسرح والغناء والمواقع الاجتماعية، ونعتهم كل منتوج ثقافي خلا منها بالممل والقديم، تقول الأخصائية النفسية مريم بنزرتي، ل «الحياة»، أن «تسارع الأحداث السياسية والأمنية والثقافية والنقاشات الاجتماعية والدينية بعد الثورة، خلق حالة من الفزع والحذر وعدم الرضا لدى التونسيين، خصوصاً إثر خذلانهم من طرف كل الأطياف السياسية التي تلاعبت بأحلامهم. هذه الحالة النفسية تترجم بشعور من الألم والمرارة، الذي لا تنفع الوسائل القديمة كالسخرية الموضوعية والكوميديا العادية في التخلّص منه. هذا في حين تبعث الكوميديا السوداء والسخرية من الذات حالة من الرضا ناتجة من الشعور بمشاركة المجموعة الألم مع الفرد، الأمر الذي يترجمه المثل الشعبي التونسي «الشنق مع المجموعة... مسلّ». وتضيف بنزرتي: «السخرية تهدم الحواجز مع الذات ومع الآخرين، وتؤسس للشعور بعبثية العالم وضرورة عدم إيلائه أهمية كبرى، فهي بالتالي وسيلة للدفاع والهجوم في الوقت نفسه، ووسيلة لإخراج الكبت والألم ومشاركته من خلال الضحك. هذه وسيلة بناء، لكنها في الآن ذاته وسيلة إنكار للحقيقة من الممكن أن تحول دون الجدية في تناول المشاكل والبحث عن حلول ناجعة لها».