«هذه ليست البولو، ليست الغولف، ليست رياضة للطبقات العليا. هذه أهم لعبة شعبية في العالم، ويجب ألا تكون بعيدة من إمكانات العائلة العادية أو الفرد المنتمي إلى الطبقة الوسطى وما دون، بل يجب أن تكون في متناول الجميع. إذا ذهبت الى المتجر واشتريت الكافيار يكون مكلفاً، ومفهوم أن يكون كذلك، لكنّ الحليب والخبز رخيصان. يجب أن يحصل هذا الأمر في كرة القدم». هذا ما قاله مدرب نادي وست هام يونايتد الكرواتي سلافن بيليتش، معلقاً على رفع أسعار تذاكر الدوري الإنكليزي. فقد أعاد مشهد انسحاب 10 آلاف مشجع من آنفيلد، ملعب نادي ليفربول، إلى الواجهة قضية غلاء أسعار بطاقات البريميرليغ، بعد إعلان النادي أسعاراً جديدة فجّرت غضب الجمهور الذي بات يبذل النفس والنفيس لدخول ملاعب الرياضة التي يحب. فقبل أشهر، احتجّ جزء كبير من الجمهور الألماني الذي وفد إلى ملعب الإمارات في لندن لحضور مباراة بين بايرن ميونيخ وأرسنال، على أسعار البطاقات الإنكليزية، فمنهم من افترش الأرض ومنهم من خرج من الملعب 5 دقائق، ومنهم من حمل لافتات تنتقد الأسعار المرتفعة، علّهم يوصلون أصواتهم التي تحوّلت وجهتها من الهتاف لفريقها، إلى الاعتراض على غلاء المقاعد في الملعب... عندما كان عمال سكك الحديد والمصانع يتقاذفون الكرة بعد يوم عمل متعب أو خلال فترات الاستراحة القصيرة، ويستخدمونها متنفساً ووسيلة للترفيه، لم يكن يخطر ببال أبناء الثورة الصناعية في بريطانيا أن لعبتهم ستعم أرجاء العالم ويتابعها الملايين وتنتج نجوماً تقدّر أسعار خدماتهم بالملايين أيضاً... ولم يخطر لهم بالطبع أن مشاهدة هذه اللعبة ستصبح أمراً مكلفاً ونخبوياً، يقتطع من رواتب أقرانهم، لكن ليس مجايليهم، قسطاً كبيراً من المدخول الذي يجهدون لتحصيله في عالم تعاني غالبية بلدانه ضائقة اقتصادية ومالية. هذا لم يحصل بين ليلة وضحاها، فقد حصل تطور كبير وتدريجي عبر محطات كثيرة ومهمة أبرزها إقامة مسابقة كأس العالم، وبعد ذلك تنظيم كأس أوروبا للأندية البطلة... وساهمت التكنولوجيا من خلال النقل التلفزيوني المباشر ومن بعده الأقمار الاصطناعية والفضائيات، في تحقيق قفزة هائلة للعبة ووضعتها في إطار العولمة بحق. فزالت الحدود الجغرافية بين فريق معين ومشجعيه، وتدفقت الأموال الناتجة من الاشتراكات التلفزيونية والإعلانات وبيع منتجات تخص النادي، مثل القمصان والشالات التي تحمل شعاره، على الأندية، وعبرها على اللاعبين. بمعنى آخر، ضرب التضخم اقتصاديات لعبة كرة القدم وكان من الطبيعي أن يبلغ الجمهور، أي أسعار البطاقات. فالنادي يتقاضى مالاً كثيراً من التلفزيون، ويدفع مالاً كثيراً للاعبيه، وينفق مالاً كثيراً على منشآته وصولاً إلى بناء ملاعب جديدة... فكان لا بد من أن يُقحَم المشجع وهاوي الملاعب في هذه الحلقة الاقتصادية، كونه مستهلكاً انتقل من دون علمه ولا إرادته من شراء سلعة شعبية إلى شراء سلعة نخبوية فاخرة. لعبة كرة القدم مثل دجاجة تبيض ذهباً، فيأتي مستثمرون من بلاد قريبة وبعيدة للاستفادة من هذا «المنجم»، حتى أصبحت غالبية النوادي الإنكليزية ملكاً لرأسماليين من خارج بريطانيا تقتصر أهدافهم على الأرباح المالية، غير آبهين لجمهور هذه اللعبة التي دخلت منازل البريطانيين أولاً ثم انتشرت في العالم. لكن هؤلاء قد لا يدركون أن الجمهور هو ركن أساسي وجزء مهم من اللعبة، فهو، وفي معادلة معاكسة للمعادلة السابقة، يموّل النادي ورؤساءه من خلال دفع ثمن البطاقة إضافة إلى سلع متعلّقة بالنادي. ولا يقتصر دور الجمهور على الشق الاقتصادي، بل يعود الفضل إليه في الملاعب عندما يهتف لفريقه مشعجاً وحاضّاً إياه على اللعب بطريقة مثالية وتحقيق الفوز. في آنفيلد، انفجرت القنبلة، إلا أن غلاء أسعار البطاقات جعل المشجعين خارج بريطانيا يحتجون أيضاً في بلادهم. ففي ألمانيا، رمى أنصار فريق بوروسيا دورتموند كرات تنس خلال مباراة بين فريقهم ومضيفه فريق شتوتغارت. وفي إسبانيا، يلعب فريق أتليتيكو مدريد من دون جزء كبير من مشجعيه عندما يحل اليوم ضيفاً على خيتافي بعد اعتراض هؤلاء على سعر البطاقة وكلفة الانتقال. وفي فرنسا، بدأت بوادر «الانتفاضة» تظهر على مشجعي الأندية المختلفة. وبالعودة إلى بريطانيا، وفيما يجتمع رؤساء بعض الأندية ومدربوها وبعض الاتحادات المحلية للبحث في هذه القضية، ينتظر المشجعون قرارات منصفة، وإن غير مرضية تماماً، ليعودوا إلى الملاعب التي تعودوا أن يفدوا إليها أسبوعياً لمتابعة الرياضة الأحب إلى قلوبهم، والتي تتيح لهم التنفيس عن الضغوط اليومية التي يتعرضون لها. فهم، خصوصاً الطبقة العاملة، لا يملكون خيارات كثيرة في هذا البلد الذي تصنّف كلفة المعيشة فيه من الأعلى في العالم.