يُعدّ المسلسل البريطاني «جهادي» سابقة على أكثر من صعيد، فهو من أوائل مُسلسلات «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) التي تنتج خصيصاً لخدمتها على الإنترنت (أيبلاير)، في اتجاه يبدو أنه سيطبع السنوات المقبلة، وما الانتقال القريب لقناة الشباب البريطانية الثالثة من البثّ التلفزيوني الى الإنترنت إلا خطوة في تعزيز حضور المؤسسة على الفضاء الرقمي. والمسلسل هو أيضاً مقاربة أصيلة لافتة لأحوال المسلمين البريطانيين، إذ يغوص في التحديات الصعبة لشخصياته المسلمة المثقلة أحياناً بأحمال التقاليد والذكورية، وهي تواجه خيارات الحياة والمبادئ. وبعيداً من الصور النمطية الشائعة عن مشاكل المسلمين في الدول الأوروبية اليوم، يذهب مسلسل «جهادي» الى التفاصيل الإنسانية في حيواتهم، ويقدّم ما يندرج تحت مفهوم «الجهاد الأكبر» في الإسلام، عندما تتحول الحياة نفسها الى «جهاد» يومي متطلّب. تبحث الشخصيات في المسلسل عن الحب والسعادة في عالم تحكمه التقاليد ويغدو فيه إرضاء الأهل والمجتمع أهم من السعادات الشخصية. في ذلك كله تمثل «بريطانيا»، حيث تعيش شخصيات المسلسل، خلفية جغرافية للدراما، مُهمة بكل تأكيد، لكنها لا تحدد وحدها مسارات الشخصيات، فعلى هذه الأخيرة أن تقطع رحلات اكتشاف ذاتية لإيجاد السعادة الخاصة التي توافق بين الحاجات الإنسانية وحترام الدين. يبدأ المسلسل بمشاهد للقاء تنظّمه جمعية إسلامية يجمع بين باحثين عن الزواج من المسلمين في لندن. تعرف المشاهد الافتتاحية من دون أي شروحات إضافية بشخصيات المسلسل الرئيسية، والتي تنتمي الى فئة خاصة من الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين في بريطانيا، من الذين ما زالوا يحافظون على علاقات مهمة جداً بدينهم. أما اجتماعياً، فالشخصيات – بخاصة النساء - تملك وبسبب المحيط والتربية كثيراً من الحريات، التي أوصلتها الى ذلك اللقاء العام، بحثاً عن زوج أو زوجة المستقبل على خلاف أعداد كبيرة من الفتيات والفتيان الذين لا يملكون قرار زواجهم بأيديهم. لم يكن اللقاء الأول بين بطلي المسلسل يشير الى بداية علاقة عاطفية، فالبطلة المطلقة والأُمّ لفتى في الخامسة، كانت تبحث عن رجل مستقر قادر على مواجهة الصور النمطية للنساء المطلقات في المجتمعات الشرقية، في حين يعيش البطل الشاب حياته باحثاً عن جذور السعادة لا قشورها، ولا يشغله ما يشغل أقرانه من طموحات مادية، فتراه يعمل متطوعاً في جمعية خيرية لمساعدة الفتيان. وعلى رغم هذه الاختلافات يربط الحب بين الشخصيتين، وستتطور بينهما علاقة عاطفية شديدة العذوبة، ستصطدم لاحقاً بالتقاليد التي ما زالت تعتبر النساء المطلقات وصمة وحملاً ثقيلاً. يختار المسلسل مُقاربة تغلّفها الكوميديا لما يمكن أن يعتبر قصة تقليدية عن تصادم الحب بالتقاليد في المجتمعات المحافظة. تستلهم الكوميديا تفاصيل الحياة اليومية وتتّجه الى السوداوية والنقد في مواقع، وتضيف كثيراً من الحلاوة والواقعية الى قصة الحب، التي تتحول من لقاء عابر، الى زلزال يهز حياة البطلين. تقدم كل حلقة من المسلسل زمناً مختلفاً من العلاقة، فلن نراها تنمو أمامنا على مهل، بل سنشهد على انتقالاتها عبر الزمن والظروف. يحمل كل زمن مشاكله وتحدياته الخاصة، ويبقى الحب الدليل وسط واقع عقده الإنسان نفسه. تتصاعد تدريجياً، الأهمية الرمزية لعنوان المسلسل «جهادي»، بخاصة عندما يشتد الصراع المكتوم الذي يخوضه البطلان ضد التقاليد القوية. ف «جهاد» أبطال المسلسل هو مجهول لكثر من خارج المجتمعات المسلمة، ولا يصل دائماً الى وسائل الإعلام الأوروبية. يبرز المسلسل مواهب ساطعة من ممثلين شباب من أصول إثنية مُختلفة تشير الى تنوّع المجتمع البريطاني اليوم، كما يمهّد الطريق لأعمال مقبلة تواصل بحثها في تركيبة الأقليات، من دون أن تتّجه هذه الأعمال الى الانعزالية أو تغلق أبوابها أمام الجمهور غير المتخصص.