من الأخطاء العملية ما يكون سببه الجهل، فيكون تصحيحه بالتعلم، ومن الأخطاء العملية ما لا يكون تصحيحه وتقويمه بمجرد التعلم، وأشهر مثال لهذا الأخلاق السلوكية، فالكذاب لا يكذب لأنه يجهل أن الصدق فضيلة، والكذب رذيلة، والظالم لا يظلم لأنه يجهل أن العدل فضيلة والظلم رذيلة، والخائن لا يخون بسبب جهله بأن الأمانة فضيلة والخيانة رذيلة، بل قد تجد من سيئي الأخلاق من هو أمهر منك في تمييز فضائل الأخلاق عن مساوئها، وأقدر منك على إلقاء محاضرة طويلة في استظهار محاسن الأخلاق الفاضلة وقبائح الأخلاق الرذيلة. ولذا فإن من تحصيل الحاصل أن يقال للناس: اعدلوا، لأن العدل فضيلة ولا تظلموا لأن الظلم رذيلة. ولا يغني كذلك أن تدعو إلى الصدق وتحذر من الكذب بمثل قولهم: الصدق منجاة، والكذب مهواة، إلا أن تربط ذلك بالمصير الأخروي، أما الدنيوي فمثل هذا الكلام لا يجدي، لأن الناس يجدون أناساً كثيرين نجوا بالكذب، وهلك آخرون بالصدق - باعتبار الموازين الدنيوية - وأن آخرين سعدوا في الدنيا وهم أسوأ الناس أخلاقها، عماد سلوكهم الخيانة والغش والكذب والظلم.. إلخ، وأن آخرين شقوا في الدنيا وهم أحسن الناس أخلاقاً، عماد سلوكهم الصدق والعدل والأمانة.. إلخ. ولو كانت فضائل الأخلاق معيارها المنفعة الدنيوية، كما يقرره بعض الفلاسفة، لكانت بعض الرذائل فضائل، وكثيرٌ من الفضائل رذائل. إن الذي يزع الناس عن مساوئ الأخلاق ويردهم إلى فضائلها ليس هو علمهم بأن هذا الخلق ذميم، وذاك الخلقَ فضيل، ففي نفوسهم من دوافع الأثرة والحرص والشح والأطماع والشهوات ما يحسن لهم القبيح ويقبح لهم الحسن لمنفعتهم الشخصية، ولكن الذي يزع الناس عن ذلك هو الوازع الديني والضمير الإنساني بما فيه من ذائقة أدبية إنسانية، ونصوص الكتاب والسنة شاهدة على العامل الأول - الوازع الديني - فكانت دعوة الإسلام للأخلاق الفاضلة وتحذيره من الأخلاق السيئة قائمة على التذكير بمآلاتها في الآخرة من ثواب أو عقاب، ولذا كثيراً ما كان الوازع الديني كافياً لارتداع المؤمنين عن الرذائل مع أمانهم من العقوبة الدنيوية بسبب ضعف النظام أو فساده. ولما دعا صلى الله عليه وسلم إلى الصدق وحذر من الكذب جعل وسيلة ذلك التذكير بمآلهما في الآخرة: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً. وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباّ». ولا بد مع ذلك من استحياء الضمير الإنساني في النفوس، فهذا أيضاً رادع آخر عن مساوئ الأخلاق، ولذا تجد من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ملازماً لبعض الفضائل متمنعاً عن بعض الرذائل مع أمانه من كل عقوبة دنيوية في ذلك، والسبب هو ضميره الإنساني الحي الذي لا يقوى على مخالفة الذوق والأدب والفضيلة. إن مسألة الأخلاق إذاً تربية وليست مسألة تعليم يُلقنه الأطفال، كما يلقنون حروف الهجاء. * أكاديمي في الشريعة. [email protected]