لم يتطلب الأمر سوى بضعة عقود لتحتل المخيمات الفلسطينية ومسألة تحسين الأوضاع الإنسانية والمعيشية للسكان فيها مكانة مميزة في أجندات بعض السياسيين اللبنانيين، أو على الأقل هذا ما تظهره الوسائل الإعلامية أخيرا. أما في الواقع، فلا يزال سكان المخيمات يعانون حرماناً من أبسط مقومات الحياة الكريمة، ولا تزال المخيمات تعاني ما تعانيه من اكتظاظ وعشوائية وضعف في البنى التحتية، حتى أن مواد البناء لا تزال ممنوعة منعا باتا من الدخول إلى بعض تلك المخيمات. أوضاع سكان المخيّمات لا يحسدهم عليها إلاّ أقرانهم الذين يقيمون في ما يُصطلح على تسميته ب"التجمعات الفلسطينية"، وبالتالي يمكن تصور سوء الأحوال التي يعيشونها وصعوبتها. فهذه التجمعات الفلسطينية على خلاف المخيمات لا تتمتع بخدمات الأونروا التي لا تعترف بوجودها أساساً! وفي ظل هذا الحرمان والتهميش، تقبع شريحة من الفلسطينيين في لبنان في تجمعات غفلتها عيون الأونروا الساهرة على غوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم. ما إن تدخل مجمّع "العيتانية"، وهو أحد تلك التجمعات، حتى تلاحظ أن معظم البيوت فيه قديمة ومبنية من ألواح الزينكو (الصفيح). فتعود بك الذاكرة إلى مشهد بدايات تأسيس المخيمات قبل أن تصل إلى ما وصلت إليه من "بناء حديث". يشتكي مصطفى عظوم من الظروف الصعبة – والاقتصادية طبعاً - التي تمنعه من تطوير هيئة منزله المؤلف بشكل أساسي من ألواح الزينكو وأكياس النايلون لتمنع تسرب مياه الأمطار إليه، "نحاول دائما وضع ألواح زينكو جديدة أو تبديلها بطبقة من الباطون، إلا أن الدولة اللبنانية لا تسمح بذلك. وإذا ضُبطت مواد بناء في طريقها إلينا يتم التحقيق بالمسألة". "كي لا تقع فوق رؤوسنا" أما في حالة أم علي الأكحل، وهي أرملة شهيد، قامت باستبدال ألواح الزينكو بالباطون فقد هُدم منزلها وحبسها، من قبل عناصر من الدرك، بحجة أن البناء غير شرعي، لكون هذا التجمع لا يشكل مخيماً معترفاً به. وتشرح "قالولنا هادا مش مخيم ومش معترف فيه"، وتضيف "لدينا أزمة كهرباء، وآبار المياه الشرب ملوثة بمياه الصرف الصحي"، لائحة من الشكاوى لم تنهها إلا بدعوة شخصية لتدخل الرئيس أبو مازن ووضع حد لهذه المعاناة. توافقها الحاجة فاطمة مكحل، لتكرر "ممنوع أن نغير ألواح الزينكو، ولا أن نضع حجرا فوق حجر. حتى صيانة المنزل ممنوعة". وتعلّق على دور الأونروا: "الأونروا لا تعترف بوجودنا لأننا خارج المخيمات، ولا تؤمن لنا شيئا. المدارس والمستوصف في منطقة كفر بدا، والأخير لا يستقبل المرضى إلا يومين في الأسبوع". وتشير إلى ضرورة مناشدة "المجتمع الدولي والأونروا للنظر في معاناتنا، والقيام بترميم بيوتنا قبل أن تسقط على رؤوسنا". مناشدة شاركها فيها جميع من التقينا بهم. وفي هذا السياق، يحدثنا مسؤول اللجنة الشعبية في تجمع "الواسطة" فهد أبو علي، "نحن ممنوعون من ترميم البيوت بالدرجة الأولى، وبالدرجة الثانية الأونروا لا تتحمل مسؤولية هذه التجمعات الفلسطينية كون وجودها خارج المخيمات"، مشيرا إلى مشكلة الكهرباء والمياه والصرف الصحي، ومطالبا الدولة أن تسمح بصيانة البيوت "كي لا تقع فوق رؤوسنا. لم يقصد أبو علي المبالغة في وصفه هذا، فقد تحقق حرفياً في حالة هناء الأحمد التي تحمّل الأونروا المسؤولية في حال تكرار ما حصل في منزلها سابقاً، "أُحمِّل الأونروا المسؤولية إذا سقط البيت علينا، لأن بيتي من تبن، وقد سقط حائط على أولادي السنة الماضية". الله يلطف فينا وفي "القاسمية"، لن يؤمّن الزائر على حياته في منزل ابراهيم ابراهيم (أبو خليل): "بيتي من الزينكو وعندي غرفة من التبن، لا أعرف متى تسقط على عائلتي، تدخل الأفاعي الى بيتي وأنا وزوجتي وأولادي (العشرة) معرضين للدغها... الله يلطف فينا". وعلى رغم تقديمه مذكرة للأونروا من خلال الشؤون الاجتماعية ومدير المنطقة لمعاينة منزله غير الصالح للسكن، كانت النتيجة أن قدم مهندس من قبل الأونروا لمعاينة المنزل ليختفي ولا يعود، والوعد الذي حصل عليه أبو خليل سرعان ما تحول إلى اعتذار "بحجة أننا مخيم غير رسمي". هكذا، استغل المناسبة ليطالب بدوره المجتمع الدولي والأونروا بالاعتراف بالتجمعات الفلسطينية كباقي المخيمات، "لأننا ندفع الثمن، بيتي غير صالح للسكن، لا نعرف متى يسقط سقف الحمام علينا، أبنائي العشرة وزوجتي وأنا موزعون على غرفتين فقط". وما يزيد الطين بلّة، هو عمله غير المستقر كمزارع والذي يعود إليه بمدخول متواضع لا يمكِّنه من ضمان استمرار حياة ابنه المرهونة بعبوة أوكسيجين، لا يستطيع التنفس إلا عبرها بسبب مرضه، يدفع ثمنها أحد الأشخاص "الخيِّرين"، ولا يمكِّنه من حماية باقي أفراد أسرته بتأمين مسكن أكثر أمانا. فحتى مع وجود بعض "المحسنين" الذين يغطون تكلفة استبدال ألواح الزينكو القديمة بأخرى جديدة، يبقى تحقيق الأمر مرهون بالحصول على تصريح رسمي من سلطات لا تعترف بوجودهم أصلا! * يقع معظم التجمعات الفلسطينية على أراض ذات ملكية خاصة، ولا تتكفل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين- الأونروا بدفع تكاليف ايجارها للدولة أو لأصحابها، على عكس الأراضي التي تقوم عليها بقية المخيمات. وتتحمل الأونروا مسؤولية المخيمات من حيث تأمين الخدمات الانسانية والصحية والتعليمية وغيرها من المساعدات - التي يتفاقم تردّي نوعيتها وتناقص كميتها بشكل مستمرمن قبل الأونروا، بينما تَحرم التجمعات الفلسطينية من الحد الأدنى من الخدمات الانسانية والصحية والتعليمية، بحجة أنها موجودة خارج المخيمات ولا يمكن اعتبارها مخيمات. ويُعتبر إدخال مواد البناء الى هذه التجمعات أمرا ممنوعا وغير شرعي، ما دفع الاهالي الى إدخالها سرا. وكان استقر في هذه التجمعات إثر النكبة عدد من اللاجئين، بعد أن تعاطف أصحابها معهم وسمحوا لهم بالبقاء والعمل في زراعة الأراضي، وتمكنوا من المكوث فيها (إلى حين)، فمع تبدل ملكية بعض تلك الأراضي احتج مالكوها الجدد على الوجود "غير الشرعي" لهؤلاء، ورفعوا دعاوى قضائية انتهى الحكم فيها في مصلحة المالكين. واصبح تنفيذ حكم طردهم منها قاب قوسين او أدنى.