عندما صدر كتاب ديفيد هيرست «البندقية وغصن الزيتون» سنة 1977 اعتقدت ان المؤلف لن يستطيع تقديم عمل أفضل من الكتاب الذي اختار عنوانه من كلام أبو عمار في الأممالمتحدة، وضم فيه معلومات صحيحة موثقة عن الفترة حتى سنة الصدور، ثم تحديثه المعلومات في طبعتين لاحقتين. كتاب هيرست الأخير «احذروا الدول الصغيرة» في مستوى الكتاب السابق، حتى لا أقول أفضل منه، وأستطيع أن أدعي الموضوعية المطلقة وأنا أصف الكتاب الجديد بأنه رائع، وهي كلمة لا أذكر انني استعملتها في نقد كتاب من قبل. عنوان الكتاب مأخوذ من كلمات للفوضوي الروسي ميخائيل باكونين سنة 1870، فهو رأى في مَثَلَيْ لاتفيا وبلجيكا ان الدول الصغيرة ضحية للدول الكبرى، إلا أنها أيضاً تسبب مشاكل خطرة لهذه الدول، وهيرست يرى ان للبنان مثل هذا الدور في الشرق الأوسط. هيرست يكتب على خلفية حرب الأيام الثلاثة والثلاثين في صيف 2006 بين اسرائيل وحزب الله، والفصل الأول يتحدث عن بذور النزاع والفصل الثاني عن علاقة بعض الموارنة بالصهيونية بين 1921 و1948، وهي علاقة أنكرها أصحابها في وقت لاحق إلا أن المؤلف يوثقها بشكل قاطع من مصادر عربية ويهودية، وهو يتحدث عن مواقف الرئيس اميل ادة والبطريرك انطوان عريضة ومطران بيروت اغناطيوس مبارك، وتصريحات مسجلة في حينها واتفاقات موقعة ومحفوظة. القراءة مؤلمة ومحرجة، ولبنان بدأ يتغير بعد الثورة الكبرى في فلسطين سنة 1936، فالانتداب البريطاني نفى الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس، الى سيشل، وهو فرّ منها الى لبنان وجعل منه مركزاً لإطلاق الجهاد في فلسطين ودعمه، وأقبل عليه اللبنانيون والعرب. ولعل ياسر عرفات كرر الدور اللبناني نفسه بعد 1964، بصدور أول بيان عسكري لفتح من بيروت عن عملية عبر الحدود اللبنانية، وحتى الخروج من الأردن والحرب الأهلية وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان سنة 1982. إذا انتقلت من بداية الكتاب الى خاتمته أقول انني وجدت نفسي أتفق مع الكاتب في آرائه وتوقعاته، فهو يقول ان حل الدولتين مستحيل مع استمرار الاستيطان في الضفة الغربيةوالقدس، وهو رأيي أيضاً، ويستشهد بالدكتور وليد الخالدي عن العمى الجزئي، أو الانتقائي، للغرب الذي يجعله يؤيد المشروع الصهيوني ثم اسرائيل، ويتحدث هيرست عن دولة واحدة تضم الشعبين، إلا أنه يستبعد ذلك وأتفق معه مرة أخرى. ثم يشير الى باراك أوباما ونواياه وإصراره أن تكون المساهمة في الحل من اسرائيل قبل غيرها، وهو ما كتبت في هذه الزاوية مرة بعد مرة، وما أكدته زيارة بنيامين نتانياهو واشنطن الأسبوع الماضي، ويتحدث هيرست عن «جولة ثانية» مع حزب الله كما يقول الإسرائيليون، أو حرب سابعة. وأنا أيضاً أرجح هذا وأزيد أن المواجهة قد تبدأ لأسباب اسرائيلية أو لبنانية، أو لأسباب ايرانية، فأي مواجهة عسكرية بين ايران واسرائيل ستعني دخول حزب الله المواجهة فوراً، وبغض النظر عن أي نتائج. عندما يتحدث هيرست عن الحاج أمين الحسيني في بيروت في الثلاثينات أستعيد لقاءاتي مع مفتي القدس في لبنان في السبعينات، وعندما يتحدث عن عرفات فهو يذكرني بعلاقتي الوثيقة معه منذ سنة 1967، وحتى الحصار في المقاطعة ووفاته، مروراً بجلسات آخر الليل في أربع قارات. بين البداية والنهاية يتحدث المؤلف عن مواجهات اسرائيل مع حزب الله في تموز (يوليو) 1993، وفي نيسان (ابريل) 1996، وهما عمليتان أرهصتا لحرب صيف 2006. أعرف جنوب لبنان كأهله، وهيرست لا يتحدث عن مكان فيه إلا ولي عنه ذكرى مسجلة في ما أكتب. رأيت الإسرائيليين في قانا سنة 1972، وأنا رئيس تحرير «الديلي ستار» ونشرنا صورة لجندي اسرائيلي يحمل بطيخة الى دبابته. وجاءت المجزرة سنة 1996 ووثقها هيرست مثبتاً ان اسرائيل تعمدت قتل المدنيين، ووقفت غير مرة في مارون الراس ونظرت الى كريات شمونة تحتها، وفكّرت في أن أدحرج حجارة عليها. وشهدت عاشوراء في النبطية وبنت جبيل، وسألت: حل المصرع؟ وقال لي الشباب: تفضل. جنوب لبنان بلدي داخل بلدي، ملعب الشباب والصيد، وكم زرته في نهاية الأسبوع، أما بالتحول يساراً بعد جسر الليطاني الى العباسية ودير قانون النهر ودردغيا والنفاخية حتى تل النحاس، ثم طريق بمحاذاة الأرض المحتلة تصعد الى مارون الراس وتهبط منها نحو الناقورة، وقوس عليه كلمة «لبنان» بالفرنسية، حتى البحر والآثار الرومانية، ثم صور وصيدا والعودة الى بيروت (وكنا أحياناً نكمل جنوباً بعد جسر الليطاني لنقوم بالرحلة نفسها معكوسة). ولا أسجل اليوم سوى انني مع حزب الله ألف في المئة ضد اسرائيل. ختاماً، لن أقول ان ديفيد هيرست يعرف منطقتنا كأهلها فهو بعد إقامة 50 سنة خطف فيها ومنعته دول من زيارتها يعرف المنطقة كما لا يعرفها أهلها، ويجمع الى خبرته في الأرض والناس، ثقافة سياسية موسوعية ويغلف هذا كله بموضوعية ودقة ومهنية لا تخفي تعاطفه مع الجانب المظلوم في الصراع المستمر. [email protected]