أضواء باهتة تُشبه وجوه المُعزين، كوَّنت طبقة من الضباب الخانق على وجه المدينة الجامعية، فبدت كبيتٍ مهجور، مغطى بأوراق الأشجار الميتة في أطراف قرية بعيدة. تلاشت الأضواء مع أصوات الهلع المودعة للموتى في مستشفى بولاق الدكرور، واخترقت الأصوات المفحومة الجدار الساكت، فانتشرت رائحة الموت في ساحة المدينة المفتوحة على الخراب. مشاهد يومية تُعفِّر وجه الحياة، وتُجسد فكرة النهاية، وأمين الشرطة المزروع خلف الباب الحديدي، منذ تأسيس المدينة، لم يتزحزح حتى الآن، والعربات التي تحمل صور مُرشحي مجلس الشعب مستمرة في دهسها للأرض المحروقة، وعبير السيد تسير بجسدها الفائر بمحاذاة بركة المياه الهامدة. منذ أن جاءت عبير من قريتها في محافظة الشرقية لدراسة الإعلام في القاهرة، وهي لا تُفضل السير في الطرق المستقيمة، أو وسط الحدائق، تقول: الطرق المستقيمة خادعة وبلا معنى، والحدائق لا تعرف عنا شيئاً، ونحن لا نعرف عنها سوى اللون الأخضر، المُترب غالباً. عبير السيد تبحث عن المعنى، تُلقي نظرات شاردة على البيوت المتهالكة والوجوه الشاحبة، والبركة التي تبتلع نفايات بولاق الدكرور، وتحدق في لافتات مُرشحي مجلس الشعب، الجاثمة على وجه المنطقة، ثم تعرج بقدميها المتورمتين داخل حذائها الضيق، تجاه المبنى الصامت، المغلق دائماً، مبنى «مكافحة المخدرات». تضيع للحظات وسط الوجوه التائهة المشردة، المتكومة بأجسادها الصدئة أمام قسم الشرطة، تنتبه على أصوات النساء الحزينات المشيعات للموتى، وتذهب بعيداً إلى مقابر قريتها، الساكنة أمام المساحات الخضراء. غرف المستشفى المخبوءة، تذكرها بقبر والدها المدهون بالطين، من دون لافتة تحدد هويته، فينتفض جسدها الثقيل، وتهرول سريعاً إلى مبنى المدينة الجامعية، خوفاً من الموت اللاهث خلفها، تتصاعد أصوات البكاء إلى الدور الثالث، ويستقر الإحباط في الغرفة 7 وعبير السيد تحت غطائها الأحمر، تبحث عن المعنى.