«نبحث في هذه الأرض، قد نجد ذهباً أو آثاراً، وربما نجد تمثال زنوبيا أو هولاكو أو بشار الأسد...». ثم يقهقه عالياً بصوته المتعب. يتابع الحفر بجهد يساعده ولداه في العمل الجديد. كان أبو خالد تاجر ألبسة، يتنقل بين حلب وريفها بسيارته، يصارع التدهور الاقتصادي السريع الذي عاشته البلاد طوال العقد الماضي، وينفق على أسرة مؤلفة من 7 أنفس. لكن كمعظم السوريين حينها، كان أبو خالد في كل مرة ينخفض فيها مستوى معيشته درجة إضافية، يزيد من ساعات عمله ومن حجم مغامراته المهنية محاولاً الاستمرار. «ها نحن نعمل في وضح النهار» يقول أبو خالد، «نحن لا نعتدي على أحد، لذا فليس لدينا ما نخشاه، آل الأسد كانوا يحتكرون استخراج آثار البلد وبيعها لأكثر من أربعين عاماً خلت، ألسنا أولى؟ ما الضير إن استعنا بهذه الأحجار في ظرف الحرب؟ ما قيمة الأحجار إن كانت الناس تقتل يومياً؟». يقول ذلك بينما يبدأ السير ببطء متحسّساً كل خطوة في ذلك الموقع الأثري بريف حلب، واحد بين عشرات المواقع الأثرية الصغيرة والمبعثرة في الشمال السوري، معظمها لم يخضع لدراسات تبيّن أهميته التاريخية، كما أنه غير مسجل في قوائم «يونيسكو»، «في زمن النظام، لا أحد منا كان يجرؤ على القدوم إلى هذا المكان، هم فقط كانوا يحفرون ويخرجون من الأرض ثم يكسبون ملايين... لقد أخذوا كل خيرات البلاد ولم يبقوا لنا شيئاً، نحن نبحث طوال أشهر وبالكاد نجد قطعة خرز، أو جرة فخارية أو أي قطعة خفيفة لا يتجاوز ثمنها بضعة آلاف ليرة، القطع الثمينة أخذتها جماعة النظام منذ زمن طويل». كثير من الخبرة ... قليل من الحظ يعتمد أبو خالد على أداة أساسية في البحث عن كنزه، سيخ معدني طويل هُيئت له قبضتان في أحد أطرافه، ودبّب الطرف الآخر ليستخدم كمجس للأرض، لذا يسمى (الجاسوس). يغرس أبو خالد جاسوسه في إحدى النقاط التي يشتبه بوجود شيء ما تحتها، ويقول: «الجاسوس يساعدنا على معرفة إن كان هناك شيء مدفون في الأسفل أم لا، مثلاً هنا توجد صخرة على بعد سنتيمترات تعيق دخول الجاسوس أكثر، إذاً لا شيء هنا، نحن نبحث عن فتحة في الجوف». لكن الأمر ليس بهذه البساطة يضيف أبو خالد: «ثمة علامات تجدها في كل موقع أثري، في الغالب هذه العلامات تخصّ الناس الذين كانوا هنا يوماً، نحن نحاول قراءتها وتحديد مساحة البحث، لكن الحقيقة أن أحداً لا يتمكّن من فهم حقيقة هذه العلامات... ليس لنا إلا أن نجرب». لم يعثر أبو خالد حتى الآن على شيء مهم كما يقول، هو يؤمن بدور الحظ في مهنته الجديدة، فلا يزال إبناه يغوصان حفراً في الأرض منذ الصباح ولا شيء ظهر، لقد تجاوزوا العمق الذي يفترض أن يجدوا فيه كنزهم ولم يحالفهم الحظ هذه المرة أيضاً. يطلب منهم الأب التوقف عن الحفر بينما يتابع غرس جاسوسه باحثاً عن حظ جديد. استراحة استراحة قصيرة، كانت فرصة لنسأل أبا خالد كيف يشعر حيال ممارسته هذا العمل: «ماذا سنعمل إن لم نأتِ للحفر هنا، إن البلاد انطفأت، لم يعد هناك عمل لأحد، أي عمل مع كل هذا الخراب، أبنائي الذين تراهم معي الآن حُرموا من تعليمهم، هل أتركهم من دون عمل لتأخذهم الحرب مني؟». تلمع أشعة الشمس فوق فروة رأس الرجل التي فقدت ما تبقى لها من شعر بعد الثورة كما قال مازحاً. يوم العمل قارب على نهايته، وعاد ابو خالد للبحث مرة أخيرة محاولاً تحديد مكان الحفر لليوم التالي. «منذ أن فتحنا أعيننا كانت هذه الآثار موجودة، لا نعرف عنها شيئاً عدا عن أنها قديمة جداً، وأن هناك أناساً مهتمون بدفع المال مقابل الحصول على قطع مدفونة منها». ما زالت السيارة الضئيلة هي ذاتها، لكن مع بعض الكدمات التي طاولتها من شظايا الحرب في مواقف متباعدة، تتهادى على الطريق الضيق المقفر قرب المساء، كان وقت العودة الى المنزل هو الأنسب ليسترسل أبو خالد في أحلام ما بعد العثور على كنزه المدفون. «سأشتري للشباب دوشكايات ورشاشات حديثة، ثوارنا فقراء وسأنفق كل ما أحصل عليه لدعمهم، بالطبع سأنفق على أولادي، لكن لا معنى للمال إن لم تتوقّف الحرب».