حين انطلق مسلسل الثورات والحركات الاحتجاجية في الوطن العربي، مطلع العام المنصرم، خامرنا الكثير من الأمل بأن يكون ما جرى مقدمة لاستيلاد ساحة سياسية جديدة، بقوى سياسية وحزبية جديدة غير تلك التي شاخت وأفلست، وبثقافة سياسية جديدة غير تلك التي هيمنت لعقود وانتهت إلى انسداد.كان لذلك الأمل ما يبرره، أو،على الأقل، ما يحمل عليه ويدعو إليه، فالحراك الشعبي الذي انطلق واتسع نطاقاً، لم يقدره حزب أو دعا إليه آخر، وإنما نشأ تلقائياً من انفجار شارع تجمعت في جوفه عوامل الانفجار كافة. والذين صنعوا ملحمة الثورة والانتفاضة كانوا من الشباب، من الجيل الجديد الذي لم تستوعبه أحزاب أو تنظيمات، وكانوا واعين بأهداف معركتهم لإسقاط الطغمات الفاسدة، ومديرين ناجحين لعملية الإسقاط تلك عبر أدوات اشتغال يتقنون استخدامها.ولقد زاد من تغذية ذلك الأمل ملاحظة درجة تهافت الأحزاب السياسية التقليدية على الحلول الوسطى، على نحو ما أبدته في مفاوضاتها- المعلنة والمستترة- مع النظم القائمة، في اللحظة عينها التي كان ملايين الشباب يحتشدون، في الشوارع والميادين والساحات العامة، هاتفين بسقوط النظام! بدا ذلك، في حينه، ليس طعناً في ثورة الشباب فقط، ولا مجرد فقدان الثقة بقدرتهم على تحقيق ما رفعوه من أهداف قصوى لحركاتهم فحسب، بل بدا أيضاً تحسساً من هؤلاء الشباب، وخشية من أن يحتلوا المكانة التي كانت لتلك الأحزاب في المجتمع في زمن مضى. بدأ الصراع، حينها مشتداً، وإن مضمراً، بين جيلين ومدرستين في السياسة من أجل السيطرة على التمثيل الشعبي، والنطق باسم مطالب المجتمع.ولفترة، استمر ذلك الأمل يسكن الكثير منا، بل يوشك أن يتحول إلى يقينية سياسية من اليقينيات التي يقوم عليها من الواقع دليل. وهل من دليل، آنذاك، أقوى وأفقع من أن ينجح الشباب في إسقاط النظام في تونس ومصر، وفي جر الأحزاب وراءها في هذا المشروع، وإخراجها من ترددها وحساباتها الوسطية؟ كان النجاح في ما أخفقت فيه القوى السياسية كافة أسطع الأدلة جميعاً على أن الذين صنعوا ثورة، لا يُعجزهم أن يصنعوا قوى سياسية جديدة. لكن رياح السياسة جرت بما لا تشتهي سفن الشباب. لم تُفلح حركات الثورة في بناء قواها السياسية الجديدة، مثلما انتظرنا، وإنما بقيت جسماً سياسياً هلامياً اجتمع على محو الماضي، ولم يجتمع على بناء المستقبل، ثم تفرق جمع الثورة الشبابي، فعاد منه من عاد إلى أصوله الحركية "جمعيات "المجتمع المدني""، وانضم منه من انضم إلى أحزاب وتنظيمات سياسية قائمة، وخرج منه من خرج من الحياة العامة آيباً، بخفي حنين، إلى الحياة الخاصة.في مقابل عجز الثورة عن إنتاج قواها السياسية الخاصة، استمرت الأحزاب والتنظيمات التقليدية تحتكر التمثيل الشعبي والشأن العام، وتقرر مصير الثورة والبلد. وهي، قبل ذلك، أصابت حظاً كبيراً من النجاح في اختراق الحركات الاحتجاجية، واستخدامها لأهدافها، وأكل الثوم أحياناً بأفواهها.في الأثناء، تبخّر سريعاً وهم الثقافة السياسية الجديدة، التي وعدتنا بها العاصفة، على قول شعري لمحمود درويش، فتمخضت الثورة لتلد ثقافة حركية شعاراتية لا أصول لها ولا مصادر فكرية، تدور في عموميات غامضة تلد عموميات أغمض، استعيض عن الرؤية الفكرية- السياسية بالبرنامج، وعن البرنامج بالشعار، وعن الشعار الواحد الجامع بالشعارات المتضاربة.. إلخ.ولقد انقشع غبار اللحظة الثورية عن مشهد الثقافة السياسية عينها، تلك التي عاينّاها منذ عقود خلت، تعود إلى مسرح السياسة من جديد وتغمره، وتستأنف عاداتها في مخاطبة الناس، المخاطبة الشعبوية المألوفة، لتستميلهم وتستمطر أصواتهم وتأييدهم.وهكذا، في الحالين، خرج شباب الثورة من المشهد، سريعاً، وكأنهم ليسوا من صَنَعَ تلك الملحمة السياسية، النادرة حدوثاً، في شتاء عام 2011. كيف حصل ذلك؟مما لا يحتاج إلى بيان أن نقول إن ثورتهم تعرضت إلى أكبر عملية سطو سياسي، من قبل محترفين سياسيين يعرفون، على التحقيق، من أن تؤكل الكتف.ولكن، هل كان لأحد أن يسرق منهم ثورتهم لو عرفوا هم كيف يحمونها ويذودون عنها؟ وهم ما كانوا يملكون الدفاع عنها من دون وحدة حركتهم، التي تشظت ووقع اختراقها بيسر كبير! ومن دون إنتاج الرؤية السياسية، والبرنامج الخاص والأداة السياسية المستقلة، أي من دون أن تنبت لهم أسنان وأظفار لصوت الثورة من المصادرة. ومن أسف، لم يهتدوا إلى إنجاز ذلك، فكان على ثورتهم أن تتسرب كالماء من بين أصابعهم.